القول في تأويل قوله تعالى : { يَوْمَ تَأْتِي كُلّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نّفْسِهَا وَتُوَفّىَ كُلّ نَفْسٍ مّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } .
يقول تعالى ذكره : }إن ربك من بعدها لغفور رحيم يَوْمَ تَأْتِي كُلّ نَفْسٍ تخاصم عن نفسها } ، وتحتجّ عنها بما أسلفت في الدنيا من خير أو شرّ أو إيمان أو كفر . و{ َتُوَفّى كُلّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ } في الدنيا من طاعة ومعصية . { وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } : يقول : وهم لا يفعل بهم إلا ما يستحقونه ويستوجبونه بما قدّموه من خير أو شرّ ، فلا يجزي المحسن إلا بالإحسان ، ولا المسيء إلا بالذي أسلف من الإساءة ، لا يعاقب محسن ولا يبخس جزاء إحسانه ، ولا يثاب مسيء إلا ثواب عمله .
واختلف أهل العربية في السبب الذي من أجله قيل : «تجادل » فأنّث الكلّ ، فقال بعض نحوّيي البصرة : قيل ذلك لأن معنى كلّ نفس : كل إنسان ، وأنث لأن النفس تذكر وتؤنث ، يقال : ما جاءني نفس واحد وواحدة . وكان بعض أهل العربية يرى هذا القول من قائله غلطا ويقول : «كلّ » إذا أضيفت إلى نكرة واحدة خرج الفعل على قدر النكرة : كلّ امرأة قائمة ، وكلّ رجل قائم ، وكل امرأتين قائمتان ، وكلّ رجلين قائمان ، وكل نساء قائمات ، وكل رجال قائمون ، فيخرج على عدد النكرة وتأنيثها وتذكيرها ، ولا حاجة به إلى تأنيث النفس وتذكيرها .
وقوله : { يوم تأتي كل نفس } ، المعنى لغفور رحيم يوم ، وقوله : { كل نفس } ، أي : كل ذي نفس ، ثم أجري الفعل على المضاف إليه المذكور ، فأتت العلامة ، و { نفس } الأولى هي النفس المعروفة ، والثانية هي بمعنى الذات ، كما تقول نفس الشيء وعينه ، أي : ذاته ، { وتوفى كل نفس } ، أي : يجازى كل من أحسن بإحسانه وكل من أساء بإساءته .
قال القاضي أبو محمد : وظاهر الآية أن كل نفس { تجادل } كانت مؤمنة أو كافرة ، فإذا جادل الكفار بكذبهم وجحدهم للكفر ، شهدت عليهم الجوارح والرسل وغير ذلك بحسب الطوائف ، فحينئذ لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون{[7429]} ، فتجتمع آيات القرآن باختلاف المواطن ، وقالت فرقة : «الجدال » ، قول كل أحد من الأنبياء وغيرهم : نفسي نفسي ، وهذا ليس بجدال ولا احتجاج إنما هو مجرد رغبة .
يجوز أن يكون هذا استئنافاً وتذييلاً بتقدير : اذْكر يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها ، وقع عقب التحذير والوعيد وعيداً للذين أنذروا ووعداً للذين بُشّروا .
ويجوز أن يكون متّصلاً بقوله : { إن ربك من بعدها لغفور رحيم } [ سورة النحل : 110 ] ، فيكون انتصاب { يوم تأتي كل نفس } على الظرفية { لغفور رحيم } ، أي يغفر لهم ويرحمهم يوم القيامة بحيث لا يجدون أثراً لذنوبهم التي لا يخلو عنها غالب الناس ويجدون رحمة من الله بهم يومئذٍ . فهذا المعنى هو مقتضى الإتيان بهذا الظرف .
والمجادلة : دفاع بالقول للتخلّص من تبعة فِعل . وتقدم عند قوله تعالى : { ولا تجادِل عن الذين يختانون أنفسهم } في سورة النساء ( 107 ) .
والنّفس الأول : بمعنى الذات والشخصِ كقوله : { أنّ النفس بالنفس } سورة المائدة ( 45 ) . والنّفس الثانية ما به الشخص شخص ؛ فالاختلاف بينهما بالاعتبار كقول أعرابي قَتل أخُوه ابناً له ( من الحماسة ) :
أقول للنفس تَأسَاءً وَتسلية *** إحدى يديّ أصابتني ولم تُرِد
وتقدم في قوله : { وتنسون أنفسكم } في سورة البقرة ( 44 ) .
وذلك أن العرب يستشعرون للإنسان جملة مركّبة من جَسد وروح فيسمونها النفس ، أي الذات وهي ما يعبّر عنه المتكلّمُ بضمير ( أنا ) ، ويستشعرون للإنسان قوّة باطنيّة بها إدراكه ويسمّونها نفساً أيضاً . ومنه أخذ علماء المنطق اسمَ النفس الناطقة .
والمعنى : يأتي كل أحد يدافع عن ذاته ، أي يدافع بأقواله ليدفع تبعات أعماله . ففاعلُ المجادلة وما هو في قوّة مفعوله شيءٌ واحد . وهذا قريب من وقوع الفاعل والمفعول شيئاً واحداً في أفعال الظنّ والدّعاء ، بكثرة مثل : أراني فاعلاً كذا ، وقولهم ؛ عَدِمْتُني وَفقَدْتُني ، وبقلّة في غير ذلك مع الأفعال نحو قول امرىء القيس :
قد بتّ أحرُسُني وحْدي ويمنعني *** صوت السّباع به يضبَحْن والهام
{ وتُوفّى } تعطَى شيئاً وافياً ، أي كاملاً غير منقوص ، و { ما عملت } مفعول ثاننٍ ل { توفّى } ، وهو على حذف مضاف تقديره : جزاء ما عملت ، أي من ثواب أو عقاب ، وإظهار كل نفس في مقام الإضمار لتكون الجملة مستقلّة فتجري مجرى المَثل .
والظّلم : الاعتداء على الحقّ . وأطلق هنا على مجاوزة الحدّ المعيّن للجزاء في الشر والإجحاف عنه في الخير ، لأن الله لما عيّن الجزاء على الشرّ ووعد بالجزاء على الخير صار ذلك كالحقّ لكل فريق . والعلمُ بمراتب هذا التحديد مفوّض لله تعالى : { ولا يظلم ربّك أحداً } [ سورة الكهف : 49 ] .
وضميرا { وهم لا يظلمون } عائدان إلى كل نفس بحسب المعنى ، لأن { كل نفس } يدلّ على جمع من النفوس .
وزيادة هذه الجملة للتصريح بمفهوم { وتوفى كل نفس ما عملت } ، لأن توفية الجزاء على العمل تستلزم كون تلك التوفية عدلاً ، فصرّح بهذا اللازم بطريقة نفي ضدّه وهو نفي الظلم عنهم ، وللتّنبيه على أن العدل من صفات الله تعالى . وحصل مع ذلك تأكيد المعنى الأول .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.