القول في تأويل قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يُسَبّحُ لَهُ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالطّيْرُ صَآفّاتٍ كُلّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَللّهِ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَإِلَىَ اللّهِ الْمَصِيرُ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ألم تنظر يا محمد بعين قلبك فتعلم أن الله يصلي له من في السموات والأرض من مَلَك وإنس وجنّ . والطّيْرُ صَافّاتٍ في الهواء أيضا تسبح له . كُلّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَه والتسبيح عندك صلاة ، فيقال : قيل : إن الصلاة لبني آدم والتسبيح لغيرهم من الخلق ، ولذلك فصّل فيما بين ذلك .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : ثني عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : يُسّبّحُ لَهُ مَنْ فِي السّمَوَاتِ والأرْضِ والطّيْرُ صَافّات كُلّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ قال : والصلاة للإنسان ، والتسبيح لما سوى ذلك من الخلق .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : قوله : أَلَمْ تَرَ أنّ اللّهَ يُسَبّحُ لَهُ مَنْ فِي السّمَوَاتِ والأرْضِ والطّيْرُ صَافّاتٍ كُلّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ قال : صلاته : للناس ، وتسبيحه : عامة لكلّ شيء .
ويتوجه قوله : كُلّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ لوجوه : أحدها : أن تكون الهاء التي في قوله : صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ من ذكر «كلّ » ، فيكون تأويل الكلام : كل مصلّ ومسبح منهم قد علم الله صلاته وتسبيحه ، ويكون «الكلّ » حينئذٍ مرتفعا بالعائد من ذكره في قوله : كُلّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ، وهو الهاء التي في الصلاة .
والوجه الاَخر : أن تكون الهاء في الصلاة والتسبيح أيضا ل«الكلّ » ، ويكون «الكلّ » مرتفعا بالعائد من ذكره عليه في : عَلِمَ ، ويكون : عَلِمَ فعلاً ل«الكلّ » ، فيكون تأويل الكلام حينئذٍ : قد علم كلّ مصلّ ومسبح منهم صلاة نفسه وتسبيحه الذي كُلّفه وأُلْزمه .
والوجه الاَخر : أن تكون الهاء في الصلاة والتسبيح من ذكر الله ، والعلم ل«الكل » ، فيكون تأويل الكلام حينئذٍ : قد علم كلّ مسبّح ومُصَلّ صلاة الله التي كلّفه إياها ، وتسبيحه . وأظهر هذه المعاني الثلاثة على هذا الكلام المعنى الأوّل ، وهو أن يكون المعنى : كلّ مصلّ منهم ومسبّح ، قد علم الله صلاته وتسبيحه .
وقوله : وَاللّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ يقول تعالى ذكره : والله ذو علم بما يفعل كلّ مصلّ ومسبح منهم ، لا يخفى عليه شيء من أفعالهم ، طاعتها ومعصيتها ، محيط بذلك كله ، وهو مجازيهم على ذلك كله .
{ ألم تر } تنبيه ، و «الرؤية » رؤية الفكر ، قال سيبويه كأنه قال انتبه الله يسبح له من في السماوات ، والتسبيح هنا التعظيم والتنزيه فهو من العقلاء بالنطق وبالصلاة من كل ذي دين ، واختلف في تسبيح { الطير } وغير ذلك مما قد ورد الكتاب بتسبيحه ، فالجمهور على أنه تسبيح حقيقي وقال الحسن وغيره هو لفظ تجوز وإنما تسبيحه بظهور الحكمة فيه ، فهو لذلك يدعو إلى التسبيح ، وقال المفسرون قوله { من في السماوات والأرض } عامة لكل شيء من له عقل وسائر الجمادات ، لكنه لما اجتمع ذلك عبر عنه ب { من } تغليباً لحكم من يعقل ، و { صافات } معناه مصطفة في الهواء ، وقرأ الأعرج «والطيرَ » بنصب الراء ، وقرأ الحسن و «الطيرُ صافاتٌ » مرفوعتان وقوله : { كل قد علم صلاته وتسبيحه } قال الحسن المعنى كل قد علم صلاة نفسه وتسبيح نفسه فهو يثابر عليها ، قال مجاهد «الصلاة » للبشر و «التسبيح » لما عداهم ، وقالت فرقة المعنى كل قد علم صلاة الله وتسبيح الله اللذين أمر بهما وهدى إليهما فهذه إضافة خلق إلى خالق ، وقال الزجاج وغيره المعنى { كل قد علم } الله { صلاته وتسبيحه } فالضميران للكل ، وقرأت فرقة «عُلم صلاتُه وتسبيحُه » بالرفع وبناء الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله ذكرها أبو حاتم .
أُعقِب تمثيل ضلال أهل الضلالة وكيف حرمهم الله الهدى في قوله : { والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة } إلى قوله : { ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور } [ النور : 39 ، 40 ] بطلب النظر والاعتبار كيف هدى الله تعالى كثيراً من أهل السماوات والأرض إلى تنزيه الله المقتضي الإيمان به وحده ، وبما ألهم الطير إلى أصواتها المعربة عن بهجتها بنعمة وجودها ورزقها الناشئَين عن إمداد الله إياها بهما فكانت أصواتها دلائل حال على تسبيح الله وتنزيهه عن الشريك ، فأصواتها تسبيح بلسان الحال .
والجملة استئناف ابتدائي ومناسبته ما علمت .
وجملة : { كل قد علم صلاته وتسبيحه } استئناف ثاننٍ وهو من تمام العبرة إذ أودع الله في جميع أولئك ما به ملازمتهم لما فُطروا عليه من تعظيم الله وتنزيهه .
فتسبيح العقلاء حقيقة ، وتسبيح الطير مجاز مرسل في الدلالة على التنزيه . وفيه استعمال لفظ التسبيح في حقيقته ومجازه ، ولذلك خولف بينهما في الجملة الثانية فعبر بالصلاة والتسبيح مراعاة لاختلاف حال الفريقين : فريق العقلاء . وفريق الطير وإن جمعتهما كلمة { كل } فأطلق على تسبيح العقلاء اسم الصلاة لأنه تسبيح حقيقي . فالمراد بالصلاة الدعاء وهو من خصائص العقلاء ، وليس في أحوال الطير ما يستقيم إطلاق الدعاء عليه على وجه المجاز وأبقي لدلالة أصوات الطير اسم التسبيح لأنه يطلق مجازاً على الدلالة بالصوت بعلاقة الإطلاق وذلك على التوزيع ؛ ولولا إرادة ذلك لقيل : كل قد علم تسبيحه ، أو كل قد علم صلاته .
والخطاب في قوله : { ألم تر } للنبيء صلى الله عليه وسلم والمراد من يَبلُغ إليه ، أو الخطاب لغير معيّن فيعم كل مخاطب كما هو الشأن في أمثاله .
والاستفهام مستعمل كناية عن التعجيب من حال فريق المشركين الذين هم من أصحاب العقول ومع ذلك قد حرموا الهدى لما لم يجعله الله فيهم . وقد جعل الهدى في العجماوات إذ جبلها على إدراك أثر نعمة الوجود والرزق . وهذا في معنى قوله تعالى : { إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً } [ الفرقان : 44 ] .
والصافّات من صفات الطير يراد به صفهن أجنحتهن في الهواء حين الطيران . وتخصيص الطير بالذكر من بين المخلوقات للمقابلة بين مخلوقات الأرض والسماء بذكر مخلوقات في الجو بين السماء والأرض ولذلك قيّدت ب { صافات } .
وفعل { علم } مراد به المعرفة لظهور الفرق بين علم العقلاء بصلاتهم وعلم الطير بتسبيحها فإن الثاني مجرد شعور وقصد للعمل .
وضمائر { علم صلاته وتسبيحه } راجعة إلى { كل } لا محالة .
ولو كان المراد بها التوزيع على من في السماوات والأرض والطير من جهة وعلى اسم الجلالة من جهة لوقع ضمير فصل بعد { علم } فلكان راجعاً إلى الله تعالى .
والرؤية هنا بصرية لأن تسبيح العقلاء مشاهد لكل ذي بصر ، وتسبيح الطير مشاهد باعتبار مسماه فما على الناظر إلا أن يعلم أن ذلك المسمى جدير باسم التسبيح .
وعلى هذا الاعتبار كان الاستفهام الإنكاري مكين الوقع .
وإن شئت قلت : إن جملة { ألم تر } جارية مجرى الأمثال في كلام البلغاء فلا التفات فيها إلى معنى الرؤية .
وقيل : الرؤية هنا قلبية . وأغنى المصدر عن المفعولين .
وجملة : { والله عليم بما يفعلون } تذييل وهو إعلام بسعة علم الله تعالى الشامل للتسبيح وغيره من الأحوال .
والإتيان بضمير جمع العقلاء تغليب . وقد تقدم في قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم } في سورة البقرة ( 243 ) وقوله : { ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن } في سورة الأنعام ( 6 ) .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.