القول في تأويل قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ أنَزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النّاسِ وَالدّوَآبّ وَالأنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنّمَا يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } .
يقول تعالى ذكره : ألم تر يا محمد أن الله أنزل من السماء غيثا ، فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها يقول : فسقيناه أشجارا في الأرض ، فأخرجنا به من تلك الأشجار ثمرات مختلفا ألوانها ، منها الأحمر ، ومنها الأسود والأصفر ، وغير ذلك من ألوانها وَمِنَ الجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ يقول تعالى ذكره : ومن الجبال طرائق ، وهي الجدد ، وهي الخطط تكون في الجبال بيض وحمر وسود ، كالطرق واحدتها جدّة ومنه قول امرىء القيس في صفة حمار :
كأنّ سَرَاتَهُ وَجُدّةَ مَتْنِهِ *** كَنائِنُ يَجْرِي فَوْقَهُنّ دَلِيصُ
يعني بالجدّة : الخطة السوداء تكون في متن الحمار .
وقوله : مُخْتَلِفٌ ألْوَانُها يعني : مختلف ألوان الجدد وَغَرَابِيبُ سُودٍ ، وذلك من المقدّم الذي هو بمعنى التأخير وذلك أن العرب تقول : هو أسود غربيب ، إذا وصفوه بشدّة السواد ، وجعل السواد ههنا صفة للغرابيب
الرؤية في قوله { ألم تر } رؤية القلب ، وكل توقيف في القرآن على رؤية فهي رؤية القلب ، لأن الحجة بها تقوم ، لكن رؤية القلب لا تتركب البتة إلا على حاسة ، فأحياناً تكون الحاسة البصر وقد تكون غيره ، وهذا يعرف بحسب الشيء المتكلم فيه ، و { إن } سادت مسد المفعولين الذين للرؤية ، هذا مذهب سيبويه لأن { أن } جملة مع ما دخلت عليه ، ولا يلزم ذلك في قولك رأيت وظننت ذلك ، لأن قولك ذلك ليس بجملة كما هي { أن } ومذهب الزجاج أن المفعول الثاني محذوف تقديره { ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء } حقاً ، ورجع من خطاب بذكر الغائب إلى المتكلم بنون العظمة لأنها أهيب في العبارة ، وقوله { ألوانها } يحتمل أن يريد الحمرة والصفرة والبياض والسواد وغير ذلك ، ويؤيد هذا اطراد ذكر هذه الألوان فيما بعد ، ويحتمل أن يريد بالألوان الأنواع ، والمعتبر فيه على هذا التأويل أكثر عدداً ، و { جدد } جمع جدة ، وهي الطريقة تكون من الأرض والجبل كالقطعة العظيمة المتصلة طولاً ، ومنه قول امرىء القيس : [ الطويل ]
كأنّ سراته وحدَّة متنه . . . كنائن يحوي فوقهن دليص{[9718]}
وحكى أبو عبيدة في بعض كتبه أنه يقال { جدد } في جمع جديد ، ولا مدخل لمعنى الجديد في هذه الآية ، وقرأ الزهري «جَدد » بفتح الجيم ، وقوله { وغرابيب سود } لفظان لمعنى واحد ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إن الله يبغض الشيخ الغربيب »{[9719]} ، يعني الذي يخضب بالسواد ، وقدم الوصف الأبلغ ، وكان حقه أن يتأخر وكذلك هو في المعنى ، لكن كلام العرب الفصيح يأتي كثيراً على هذا النحو .
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنَزَلَ مِنَ السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها } .
استئناف فيه إيضاح ما سبقه من اختلاف أحوال الناس في قبول الهدى ورفضه بسبب ما تهيأت خِلقة النفوس إليه ليظهر به أن الاختلاف بين أفراد الأصناف والأنواع ناموس جِبلِّي فَطر الله عليه مخلوقات هذا العالم الأرضي .
والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم ليدفع عنه اغتمامه من مشاهدة عدم انتفاع المشركين بالقرآن .
وضُرب اختلاف الظواهر في أفراد الصنف الواحد مثلاً لاختلاف البواطن تقريباً للأفهام ، فكان هذا الاستئناف من الاستئناف البياني لأن مثل هذا التقريب مما تشرئِبُّ إليه الأفهام عند سماع قوله : { إن الله يسمع من يشاء } [ فاطر : 22 ] .
والرؤية بصرية ، والاستفهام تقريري ، وجاء التقرير على النفي على ما هو المستعمل كما بيناه عند قوله تعالى : { ألم يروا أنه لا يكلمهم } في سورة الأعراف ( 148 ) وفي آيات أخرى .
وضمير { فأخرجنا } التفات من الغيبة إلى التكلم .
والألوان : جمع لون وهو عَرَض ، أي كيفية تعرض لسطوح الأجسام يكيِّفه النورُ كيفيات مختلفة على اختلاف ما يحصل منها عند انعكاسها إلى عدسات الأعين من شبه الظلمة وهو لون السواد وشِبه الصبح هو لون البياض ، فهما الأصلان للألوان ، وتنشق منها ألوان كثيرة وضعت لها أسماء اصطلاحية وتشبيهية . وتقدم عند قوله تعالى : { قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها } في سورة البقرة ( 69 ) ، وتقدم في سورة النحل .
والمقصود من الاعتبار هو اختلاف ألوان الأصناف من النوع الواحد كاختلاف ألوان التفاح مع ألوان السفرجل ، وألوان العنب مع ألوان التين ، واختلاف ألوان الأفراد من الصنف الواحد تارات كاختلاف ألوان التمور والزيتون والأعناب والتفاح والرمان .
وذكر إنزال الماء من السماء إدماج في الغرض للاعتبار بقدرة الله مع ما فيه من اتحاد أصل نشأة الأصناف والأنواع كقوله تعالى : { تسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل } [ الرعد : 4 ] وذلك أرعى للاعتبار .
وجيء بالجملتين الفعليتين في { أنزل } و « أخرجنا » لأن إنزال الماء وإخراج الثمرات متجدد آنا فآنا .
والالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله : { أنزل } وقوله : « أخرجنا » لأن الاسم الظاهر أنسب بمقام الاستدلال على القدرة لأنه الاسم الجامع لمعاني الصفات .
وضمير التكلم أنسب بِما فيهِ امتنان .
وقدم الاعتبار باختلاف أحوال الثمرات لأن في اختلافها سعة تشبه سعة اختلاف الناس في المنافع والمدارك والعقائد . وفي الحديث : " مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب ، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمْرة طعمُها طيّب ولا ريح لها ، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحُها طيّب وطعمها مُرّ ، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها مرّ ولا ريح لها " .
وجرد { مختلفاً } من علامة التأنيث مع أن فاعله جمع وشأنُ النعت السَببي أن يوافق مرفوعه في التذكر وضده والإِفراد وضده ، ولا يوافق في ذلك منعوته ، لأنه لما كان الفاعل جمعاً لما لا يعقل وهو الألوان كان حذف التاء في مثله جائزاً في الاستعمال ، وآثره القرآن إيثاراً للإِيجاز .
والمراد بالثمرات : ثمرات النخيل والأعناب وغيرها ، فثمرات النخيل أكثر الثمرات ألواناً ، فإن ألوانها تختلف باختلاف أطوارها ، فمنها الأخضر والأصفر والأحمر والأسود .
{ وَمِنَ الجبال جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ ألوانها وغرابيب سود } .
عطف على جملة { ألم تر أن الله } فهي مثلها مستأنفة ، وعطفها عليها للمناسبة الظاهرة .
و { جدد } مبتدأ { ومن الجبال } خبره . وتقديم الخبر للاهتمام وللتشويق لذكر المبتدأ حثّاً على التأمل والنظر .
و { من } تبعيضية على معنى : وبعض تراب الجبال جُدَد ، ففي الجبل الواحد توجد جُدد مختلفة ، وقد يكون بعض الجُدَد بعضها في بعض الجبال وبعض آخر في بعض آخر .
و { جُدَد } : جمع جُدّة بضم الجيم ، وهي الطريقة والخطة في الشيء تكون واضحة فيه . يقال للخطة السوداء التي على ظهر الحمار جُدّة ، وللظبي جدّتان مسكيّتا اللون تفصلان بين لوني ظهره وبطنه ، والجدد البيض التي في الجبال هي ما كانت صخوراً بيضاء مثل المروة ، أو كانت تقرب من البياض فإن من التراب ما يصير في لون الأصهب فيقال : تراب أبيض ، ولا يعنون أنه أبيض كالجير والجص بل يعنون أنه مخالف لغالب ألوان التراب ، والجُدَد الحُمر هي ذات الحجارة الحمراء في الجبال .
و { غرابيبُ } جمع غربيب ، والغربيبُ : اسم للشيء الأسود الحالك سواده ، ولا تعرف له مادة مشتق هو منها ، وأحسب أنه مأخوذ من الجامد ، وهو الغراب لشهرة الغراب بالسواد .
{ وسود } جمع أسود وهو الذي لونه السواد .
فالغربيب يدل على أشد من معنى أسود ، فكان مقتضى الظاهر أن يكون { غرابيب } متأخراً عن { سود } لأن الغالب أنهم يقولون : أسود غربيب ، كما يقولون : أبيض يقق وأصفر فاقع وأحمر قان ، ولا يقولون : غربيب أسود وإنما خولف ذلك للرعاية على الفواصل المبنية على الواو والياء الساكنتين ابتداءً من قوله : { واللَّه هو الغني الحميد } [ فاطر : 15 ] ، على أن في دعوى أن يكون غربيباً تابعاً لأسود نظراً والآية تؤيد هذا النظر ، ودعوى كون { غرابيب } صفة لمحذوف يدل عليه { سود } تكلف واضح ، وكذلك دعوى الفراء : أن الكلام على التقديم والتأخير ، وغرض التوكيد حاصل على كل حال .