القول في تأويل قوله تعالى : { فَدَلاّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمّا ذَاقَا الشّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنّةِ وَنَادَاهُمَا رَبّهُمَآ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشّجَرَةِ وَأَقُل لّكُمَآ إِنّ الشّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌ مّبِينٌ } .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : فَدَلاّهُما بِغُرُورٍ فخدعهما بغرور ، يقال منه : ما زال فلان يدلّي فلانا بغرور ، بمعنى : ما زال يخدعه بغرور ويكلمه بزخرف من القول باطل . فَلَمّا ذَاقَا الشّجَرَةَ يقول : فلما ذاق آدم وحوّاء ثمر الشجرة ، يقول : طعماه . بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما يقول : انكشفت لهما سوآتهما ، لأن الله أعراهما من الكسوة التي كان كساهما قبل الذنب والخطيئة ، فسلبهما ذلك بالخطيئة التي أخطئا ، أو المعصية التي ركبا . وَطَفِقَا يَخْصَفانِ عَلَيْهما مِنْ وَرَقِ الجَنّةِ يقول : أقبلا وجعلا يشدّان عليهما من ورق الجنة ليواريا سوآتهما . كما :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الجَنّةِ قال : جعلا يأخذان من ورق الجنة فيجعلان على سوءاتهما .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي بكر ، عن الحسن ، عن أبيّ بن كعب ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كانَ آدَمُ كأنّهُ نَخْلَةٌ سَحُوقٌ كَثِيرَ شَعْرِ الرأْسِ ، فَلَمّا وَقَعَ بالخَطِيئَةِ بَدَتْ لَهُ عَوْرتُهُ وكانَ لا يَرَاها ، فانْطَلَقَ فارّا ، فَتَعَرّضَتْ لَهُ شَجَرَةٌ فَحَبَسَتْهُ بِشَعْرِهِ ، فَقالَ لَهَا : أرْسِلِيني ، فَقالَتْ : لَسْتُ بمُرْسِلَتِكَ ، فَنادَاهُ رَبّهُ : يا آدَمُ ، أمِنّي تَفِرّ ؟ قالَ : لا ، وَلَكِنّي اسْتَحَيْتُكَ » .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا سفيان بن عيينة وابن مبارك ، عن الحسن ، عن عمارة ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كانت الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته : السنبلة فلما أكلا منها بدت لهما سوءاتهما ، وكان الذي وارى عنهما من سوآتهما أظفارهما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الجَنّةِ ورق التين يلصقان بعضها إلى بعض ، فانطلق آدم مولّيا في الجنة ، فأخذت برأسه شجرة من الجنة ، فناداه : أي آدم أمني تفرّ ؟ قال : لا ، ولكني استحيتك يا ربّ قال : أما كان لك فيما منحتك من الجنة وأبحتك منها مندوحة عما حرّمت عليك ؟ قال : بلى يا ربّ ، ولكن وعزّتك ما حسبت أن أحدا يحلف بك كاذبا . قال : وهو قول الله : وَقاسمَهُما إنّي لَكُما لَمِنَ النّاصِحينَ قال : فبعزّتي لأهبطنك إلى الأرض ، ثم لا تنال العيش إلا كدّا قال : فأهبط من الجنة ، وكانا يأكلان فيها رغدا ، فأهبطا في غير رغد من طعام وشراب ، فعلّم صنعة الحديد ، وأمر بالحرث ، فحرث وزرع ثم سقى . حتى إذا بلغ حصده ثم داسه ، ثم ذراه ، ثم طحنه ، ثم عجنه ، ثم خبزه ، ثم أكله ، فلم يبلغه حتى بلغ منه ما شاء الله أن يبلغ .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : يَخْصِفانِ قال : يرقعان كهيئة الثوب .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : يخصفان عليهما من الورق كهيئة الثوب .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَلَمّا ذَاقا الشّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وكانا قبل ذلك لا يريانها وطَفِقا يَخْصِفانِ . . . الاَية .
وقال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : حدثنا الحسن ، عن أبيّ بن كعب : أن آدم عليه السلام كان رجلاً طوالاً ، كأنه نخلة سحوق ، كثير شعر الرأس فلما وقع بما وقع به من الخطيئة ، بدت له عورته عند ذلك ، وكان لا يراها . فانطلق هاربا في الجنة ، فعلقت برأسه شجرة من شجر الجنة ، فقال لها : أرسليني قالت : إني غير مرسلتك . فناداه ربه : يا آدم ، أمني تفرّ ؟ قال : ربّ إني استحيتك .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جعفر بن عون ، عن سفيان الثوريّ ، عن ابن أبي ليلى ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الجَنّةِ قال : ورق التين .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، عن شريك ، عن ابن أبي ليلى ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : وَطَفقا يَخْصِفان عَلَيْهِما مِنْ وَرَق الجَنّة قال : ورق التين .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن حسام بن معبد ، عن قتادة وأبي بكر عن غير قتادة قال : كان لباس آدم في الجنة ظُفُرا كله ، فلما وقع بالذنب كشط عنه وبدت سوأته . قال أبو بكر : قال غير قتادة : فَطَفِقا يَخْصِفان عَلَيْهِما مِنْ وَرَق الجَنّةِ قال : ورق التين .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : بَدَتْ لَهُما سَوآتُهُما قال : كانا لا يريان سوآتهما .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن ابن عيينة ، قال : حدثنا عمرو ، قال : سمعت وهب بن منبه يقول : يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما قال : كان لباس آدم وحوّاء عليهما السلام نورا على فروجهما ، لا يرى هذا عورة هذه ولا هذه عورة هذا . فلما أصابا الخطيئة بدت لهما سوآتهما .
القول في تأويل قوله تعالى : وَنادَاهُمَا رَبّهُما ألَمْ أنْهَكُما عَنْ تِلْكُما الشّجَرَةِ وأقُلْ لَكُما إنّ الشّيْطانَ لَكُما عَدُوّ مُبِينٌ .
يقول تعالى ذكره : ونادى آدم وحوّاء ربهما : ألم أنهكما عن أكل ثمرة الشجرة التي أكلتما ثمرها ، وأعلمكما أن إبليس لكما عدوّ مبين ؟ يقول : قد أبان عداوته لكما بترك السجود لاَدم حسدا وبغيا . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي معشر ، عن محمد بن قيس ، قوله : وَنادَاهُما رَبّهُما ألَمْ أنْهَكُما عَنْ تِلْكُما الشّجَرَةِ وأقُلْ لَكُما إنّ الشّيْطانَ لَكُما عَدُوٌ مُبِينٌ لِمَ أكلتها وقد نهيتك عنها ؟ قال : يا ربّ أطعمتني حوّاء قال لحوّاء : لم أطعمته ؟ قالت : أمرتني الحية . قال للحية : لم أمرتها ؟ قالت : أمرني إبليس . قال : ملعون مدحور أما أنتِ يا حوّاء فكما دَمِيت الشجرة تدْمين كلّ شهر ، وأما أنت يا حية فأقطع قوائمك فتمشين على وجهك ، وسيشدخ رأسك من لقيك اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا عباد بن العوّام ، عن سفيان بن حسين ، عن يعلى بن مسلم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : لما أكل آدم من الشجرة قيل له : لم أكلتَ من الشجرة التي نهيتك عنها ؟ قال : حوّاء أمرتني ، قال : فإني قد أعقبتها أن لا تحمل إلا كرها ولا تضع إلا كرها . قال : فرنّت حوّاء عند ذلك ، فقيل لها : الرنة عليك وعلى ولدك .
{ فدلاهما بغرور } يريد فغرهما بقوله وخدعهما بمكره .
قال القاضي أبو محمد : ويشبه عندي أن يكون هذا استعارة من الرجل يدلي آخر من هوة بحبل قد أرم أو بسبب ضعيف يغتر به فإذا تدلى به وتورك عليه انقطع به فهلك ، فيشبه الذي يغر بالكلام حتى يصدقه فيقع في مصيبة بالذي يدلى في هوة بسبب ضعيف ، وعلق حكم العقوبة بالذوق إذ هو أول الأكل وبه يرتكب النهي ، وفي آية أخرى { فأكلا منها } .
وقوله تعالى :{ بدت } قيل تخرقت عنهما ثياب الجنة وملابسها وتطايرت تبرياً منهما ، وقال وهب بن منبه كان عليهما نور يستر عورة كل واحد منهما فانقشع بالمعصية ذلك النور ، وقال ابن عباس وقتادة : كان عليهما ظفر كاسٍ فلما عصيا تقلص عنهما فبدت سوءاتهما وبقي منه على الأصابع قدر ما يتذكران به المعصية فيجددان الندم ، { وطفقا } معناه أخذا وجعلا وهو فعل لا يختص بوقت كبات وظل .
و { يخصفان } معناه يلصقانها ويضمان بعضها إلى بعض ، والمخصف الإشفى ، وضم الورق بعضه إلى بعض أشبه بالخرز منه بالخياطة ، وقرأ جمهور الناس «يَخصفان » من خصف وقرأ عبد الله بن بريدة «يخصّفان » من خصف بشد الصاد وقرأ الزهري «يُخصفان » من أخصف ، وقرأ الحسن فيما روى عنه محبوب : «يَخَصِّفان » بفتح الياء والخاء وكسر الصاد وشدها ، ورويت عن ابن بريدة وعن يعقوب ، وأصلها يختصفان كما تقول سمعت الحديث واستمعته فأدغمت التاء في الصاد ونقلت حركتها إلى الخاء ، وكذلك الأصل في القراءة بكسر الخاء بعد هذه ، لكن لما سكنت التاء وأدغمت في الصاد اجتمع ساكنان فكسرت الخاء على عرف التقاء ساكنين ، وقرأ الحسن والأعرج ومجاهد «يَخِصِّفان » بفتح الياء وكسر الخاء وكسر الصاد وشدها وقد تقدم تعليلها ، قال ابن عباس : إن الورق الذي خصف منه ورق التين ، وروى أبيّ عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أن آدم عليه السلام كان يمشي في الجنة كأنه نخلة سموق ، فلما واقع المعصية وبدت له حاله فرّ على وجهه فأخذت شجرة بشعر رأسه يقال إنها الزيتونة فقال لها : أرسليني فقالت ما أنا بمرسلتك ، فناداه ربه أمني تفر يا آدم ؟ قال لا يا رب ، ولكن أستحييك ، قال أما كان لك فيما منحتك من الجنة مندوحة عما حرمت عليك ؟ قال بلى يا رب ، ولكن وعزتك ما ظننت أن أحداً يحلف بك كاذباً ، قال فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض ثم لا تنال العيش إلا كدّاً .
{ وناداهما } الآية ، قال الجمهور إن هذا النداء نداء وحي بواسطة ، ويؤيد ذلك أنّا نتلقى من الشرع أن موسى عليه السلام هو الذي خصص بين العالم بالكلام ، وأيضاً ففي حديث الشفاعة أن بني آدم المؤمنين ، يقولون لموسى يوم القيامة أنت خصك الله بكلامه واصطفاك برسالته اذهب فاشفع للناس ، وهذا ظاهره أنه مخصص ، وقالت فرقة بل هو نداء تكليم .
قال القاضي أبو محمد : وحجة هذا المذهب أنه وقع في أول ورقة من تاريخ ابن أبي خيثمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن آدم فقال نبي مكلم ، وأيضاً فإن موسى خصص بين البشر الساكنين في الأرض وأما آدم إذ كان في الجنة فكان في غير رتبة سكان الأرض ، فليس في تكليمه ما يفسد تخصيص موسى عليه السلام ، ويؤيد أنه نداء وحي اشتراك حواء فيه ، ولم يرو قط أن الله عز وجل كلم حواء ، ويتأول قوله عليه السلام «نبي مكلَّم » أنه بمعنى موصل إليه كلام الله تعالى ، وقوله عز وجل { الم أنهكما } سؤال تقرير يتضمن التوبيخ ، وقوله { تلكما } يؤيد بحسب ظاهر اللفظ أنه إنما أشار إلى شخص شجرة ، { وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين } إشارة إلى الآية التي في سورة طه في قوله { فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى } .
قال القاضي أبو محمد : وهذا هو العهد الذي نسيه آدم على مذهب من يجعل النسيان على بابه ، وقرأ أبيّ بن كعب «ألم تنهيا عن تلكما الشجرة وقيل لكما » .
تفريع على جملة : { فوسوس لهما الشّيطان } [ الأعراف : 20 ] وما عطف عليها .
ومعنى { فدلاّهما } أقدمهما ففَعلا فِعلاً يطمعان به في نفع فخابَا فيه ، وأصل دلَّى ، تمثيل حال من يطلب شيئاً من مظنّته فلا يجده بحال من يُدَلِّي دَلوه أو رجليه في البئر ليسْتقي من مائها فلا يجد فيها ماء فيقال : دَلَّى فلانٌ ، يقال دلّى كما يقال أدلى .
والباء للملابسة أي دلاهما ملابِساً للغُرور أي لاستيلاء الغرور عليه إذ الغرور هو اعتقاد الشيء نافعاً بحسب ظاهر حاله ولا نفع فيه عند تجربته ، وعلى هذا القياس يقال دَلاّه بغرور إذا أوقعه في الطّمع فيما لا نفع فيه ، كما في هذه الآية وقول أبي جُندب الهُذلي ( هو ابن مُرّة ولم أقف على تعريفه فإن كان إسلامياً كان قد أخذ قوله كمن يدلّى بالغرور من القرآن ، وإلاّ كان مثلاً مستعملاً من قبل ) :
أحُصّ فلا أجيرُ ومَنْ أجِرْه *** فليس كمَنْ يدلّى بالغرور
وعلى هذا الاستعمال ففعل دَلّى يستعمل قاصراً ، ويستعمل متعدّياً إذا جعل غيره مدَلِّيَاً ، هذا ما يؤخذ من كلام أهل اللّغة في هذا اللّفظ ، وفيه تفسيرات أخرى لا جدوى في ذكرها .
ودلّ قوله : { فدلهما بغرور } على أنّهما فعلا ما وسوس لهما الشّيطان ، فأكلا من الشّجرة ، فقوله : { فلما ذاقا الشجرة } ترتيب على دَلاَهما بغرور فحذفت الجملة واستُغني عنها بإيراد الاسم الظّاهر في جملة شرط لَمَّا ، والتّقدير : فأكلا منها ، كما ورد مصرّحاً به في سورة البقرة ، فلمّا ذاقاها بدت لهما سوآتهما .
والذّوق إدراك طعم المأكول أو المشروب باللّسان ، وهو يحصل عند ابتداء الأكل أو الشّرب ، ودلت هذه الآية على أن بُدُوّ سوآتهما حصل عند أوّل إدراك طعم الشّجرة ، دلالة على سرعة ترتّب الأمر المحذور عند أوّل المخالفة ، فزادت هذه الآية على آية البقرة .
وهذه أوّلُ وسوسة صدرت عن الشّيطان . وأوّل تضليل منه للإنسان .
وقد أفادت ( لما ) توقيت بدوّ سوآتهما بوقت ذوقهما الشّجرة ، لأنّ ( لما ) حرف يدل على وجود شيء عند وجود غيره ، فهي لمجرّد توقيت مضمون جوابها بزمان وجود شرطها ، وهذا مَعنى قولهم : حرف وُجودٍ لِوُجُودٍ ( فاللاّم في قولهم لوجود بمعنى ( عند ) ولذلك قال بعضهم هي ظرف بمعنى حين ، يريد باعتبار أصلها ، وإذ قد التزموا فيها تقديم ما يدل على الوقت لا على الموقت ، شابهت أدوات الشّرط فقالوا حرف وجود لوجود كما قالوا في ( لو ) حرف امتناععٍ لامْتناعٍ ، وفي ( لَولا ) حرف امتناع لوجود ، ولكن اللاّم في عبارة النّحاة في تفسير معنى لو ولولا ، هي لام التّعليل ، بخلافها في عبارتهم في ( لما ) لأنّ ( لما ) لا دلالة لها على سَبَب ، ألا ترى قوله تعالى : { فلما نَجّاكم إلى البر أعرضتم } [ الإسراء : 67 ] إذ ليس الإنجاء بسبب للإعراض ، ولكن لَمَّا كان بين السّبب والمسبّب تقارن كثر في شرط ( لما ) وجوابها معنى السَّببية دون اطراد ، فقوله تعالى : { فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما } لا يدلّ على أكثر من حصول ظهور السوْآت عند ذوق الشّجرة ، أي أنّ الله جعل الأمرين مقترنين في الوقت ، ولكن هذا التّقارن هو لكون الأمرين مسبّبين عن سبب واحد ، وهو خاطر السوء الذي نفثه الشّيطان فيهما ، فسبب الإقدام على المخالفة للتّعاليم الصّالحة ، والشّعورَ بالنقيصة : فقد كان آدم وزوجه في طور سذاجة العلم ، وسلامة الفطرة ، شبيهين بالملائكة لا يُقدمان على مفسدة ولا مَضرة ، ولا يُعرضان عن نصح ناصح عَلِمَا صدقَه ، إلى خبر مخبر يشكّان في صدقه ، ويتوقّعان غروره ، ولا يشعران بالسوء في الأفعال ، ولا في ذَرائِعها ومقارناتها . لأنّ الله خلقهما في عالم ملَكي . ثمّ تطوّرت عقليَّتهما إلى طور التّصرّف في تغيير الوجدان . فتكّون فيهما فعل ما نُهيا عنه . ونشأ من ذلك التّطوّر الشّعورُ بالسّوء للغير ، وبالسوء للنّفس ، والشّعور بالأشياء التي تؤدي إلى السوء . وتقارن السوء وتلازمه .
ثمّ إن كان « السَّوآت » بمعنى ما يسوء من النّقائص ، أو كان بمعنى العَورات كما تقدّم في قوله تعالى : { ليبدي لهما ما وُوري عنهما من سوآتهما } [ الأعراف : 20 ] فبُدوّ ذلك لهما مقارن ذوق الشّجرة الذي هو أثر الإقدام على المعصية ونبذِ النّصيحة إلى الاقتداء بالغَرور والاغترار بقَسَمه ، فإنَّهما لما نشأت فيهما فكرة السوء في العمل ، وإرادة الإقدام عليه ، قارنت تلك الكيفيةَ الباعثةَ على الفعل نَشْأةُ الانفعال بالأشياء السيّئة ، وهي الأشياء التي تظهر بها الأفعال السيّئة ، أو تكون ذريعة إليها ، كما تنشأ معرفة آلة القطع عند العزم على القتل ، ومن فكرة السّرقة معرفةُ المكان الذي يختفَى فيه ، وكذلك تنشأ معرفة الأشياء التي تلازم السوء وتقارنه ، وإن لم تكن سيّئة في ذاتها ، كما تنشأ معرفة اللّيل من فكرة السّرقة أو الفرارِ ، فتنشأ في نفوسسِ النّاسسِ كراهيته ونسبته إلى إصدار الشّرور ، فالسوآت إن كان معناه مطلق ما يسوء منهما ونقائصِهما فهي من قبيل القسمين ، وإن كان معناه العورة فهي من قبيل القسم الثّاني ، أعني الشّيء المقارن لما يسوء ، لأنّ العورة تقارن فعلا سيّئاً من النّقائص المحسوسة ، والله أوجدها سببَ مصالح ، فلم يَشعر آدمُ وزوجه بشيء ممّا خلقت لأجله ، وإنّما شعرا بمقارنة شيء مكروه لذلك وكلّ ذلك نشأ بإلْهام من الله تعالى ، وهذا التّطوّر ، الذي أشارت إليه الآية ، قد جعله الله تطوّراً فطرياً في ذرّية آدم ، فالطّفل في أوّل عمره يكون بريئاً من خواطر السّوء فلا يستاء من تلقاء نفسه إلاّ إذا لحق به مؤلم خارجي ، ثمّ إذا ترعرع أخذت خواطر السوء تنتابه في باطن نفسه فيفرضها ويولِّدها ، وينفعل بها أو يفعل بما تشير به عليه .
وقوله : { وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة } حكاية لابتداء عمل الإنسان لستر نقائصه ، وتحيُّلِه على تجنّب ما يكرهه ، وعلى تحسين حاله بحسب ما يُخيِّل إليه خيالُه ، وهذا أوّل مظهر من مظاهر الحَضارة أنشأه الله في عقلي أصلَي البشر ، فإنّهما لما شعرا بسَوآتهما بكلا المعنيين ، عَرفا بعض جزئياتها ، وهي العورة وحدث في نفوسهما الشّعور بقبح بروزها ، فشرعا يخفيانها عن أنظارهما استبشاعاً وكراهيةً ، وإذ قد شعرا بذلك بالإلهام الفطري ، حيث لا ملقّن يلقنّهما ذلك ، ولا تعليم يعلمهما ، تَقرّر في نفوس النّاس أنّ كشف العورة قبيح في الفطرة ، وأنّ سترها متعيّن ، وهذا من حكم القوّة الواهمة الذي قارَن البشر في نشأته ، فدلّ على أنّه وَهْم فطري متأصّل ، فلذلك جاء دين الفطرة بتقرير ستر العورة ، مشايعة لما استقرّ في نفوس البشر ، وقد جعل الله للقوّة الواهمة سلطاناً على نفوس البشر في عصور طويلة ، لأنّ في اتّباعها عونا على تهذيب طباعه ، ونزْععِ الجلافة الحيوانية من النّوع ، لأنّ الواهمة لا توجد في الحيوان ، ثمّ أخذت الشّرائع ، ووصايا الحكماء ، وآداب المربِّينَ ، تزيل من عقول البشر متابعة الأوهام تدريجاً مع الزّمان ، ولا يُبقون منها إلاّ ما لا بد منه لاستبقاء الفضيلة في العادة بين البشر ، حتّى جاء الإسلام وهو الشّريعة الخاتمة فكان نوط الأحكام في دين الإسلام بالأمور الوهْميّة ملغى في غالب الأحكام ، كما فصّلتُه في كتاب « مقاصد الشّريعة » وكتاب « أصول نظام الاجتماع في الإسلام » .
والخصف حقيقته تقوية الطّبقة من النّعل بطبقة أخرى لتشتدّ ، ويستعمل مجازاً مرسلاً في مطلق التّقوية للخِرقة والثّوب ، ومنه ثوب خَصيف أي مخصوف أي غليظ النّسج لا يَشف عمّا تحته ، فمعنى يخصفان يضعان على عوراتهما الورَق بعضه على بعض كفعل الخاصف ، وضعا مُلزقاً متمكّناً ، وهذا هو الظّاهر هنا إذ لم يقل يخصفان وَرَق الجنّة .
و ( من ) في قوله : { من ورق الجنة } يجوز كونها اسماً بمعنى بعضَ في موضع مفعول { يخصفان } أي يخصفان بعض ورق الجنة ، كما في قوله : { من الذين هادوا يحرفون } ، ويجوز كونها بيانيّة لمفعول محذوف يقتضيه : « { يخصفان } والتقدير : يخصفان خِصْفاً من ورق الجنة .