القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاّ كُنّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رّبّكَ مِن مّثْقَالِ ذَرّةٍ فِي الأرْضِ وَلاَ فِي السّمَآءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلآ أَكْبَرَ إِلاّ فِي كِتَابٍ مّبِينٍ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وَما تَكُونُ يا محمد فِي شأْنِ يعني في عمل من الأعمال ، وَما تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرآن يقول : وما تقرأ من كتاب الله من قرآن ، وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ يقول : ولا تعملون من عمل أيها الناس من خير أو شرّ إلاّ كُنّا عَلَيْكُمْ شُهُودا يقول : إلا ونحن شهود لأعمالكم وشؤونكم إذ تعملونها وتأخذون فيها .
وبنحو الذي قلنا في ذلك رُوي القول عن ابن عباس وجماعة . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : إذْ تُفِيضُونَ فِيهِ يقول : إذ تفعلون .
وقال آخرون : معنى ذلك : إذ تشيعون في القرآن الكذب ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن المسيب بن شريك ، عن أبي روق ، عن الضحاك : إذْ تُفِيضُونَ فِيهِ يقول : فتشيعون في القرآن من الكذب .
وقال آخرون : معنى ذلك : إذ تفيضون في الحقّ . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن أبي نجيح ، عن مجاهد : إذْ تُفِيضُونَ فِيهِ في الحقّ ما كان .
قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
وإنما اخترنا القول الذي اخترناه فيه ، لأنه تعالى ذكره أخبر أنه لا يعمل عبادُه عملاً إلا كان شاهده ، ثم وصل ذلك بقوله : إذْ يُفِيضُونَ فِيهِ فكان معلوما أن قوله : إذْ تُفِيضُونَ فِيهِ إنما هو خبر منه عن وقت عمل العاملين أنه له شاهد لا عن وقت تلاوة النبيّ صلى الله عليه وسلم القرآن لأن ذلك لو كان خبرا عن شهوده تعالى ذكره وقت إفاضة القوم في القرآن ، لكانت القراءة بالياء : إذْ تُفِيضُونَ فِيهِ خبرا منه عن المكذّبين فيه .
فإن قال قائل : ليس ذلك خبرا عن المكذّبين ، ولكن خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم أنه شاهده إذ تلا القرآن فإن ذلك لو كان كذلك لكان التنزيل : «إذ تفيض فيه » ، لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم واحد لا جمع ، كما قال : وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرآنٍ فأفرده بالخطاب ، ولكن ذلك في ابتدائه خطابه صلى الله عليه وسلم بالإفراد ثم عوده إلى إخراج الخطاب على الجمع نظير قوله : يا أيّها النّبِيّ إذَا طَلّقْتُمُ النّساءَ ، وذلك أن في قوله : إذَا طَلّقْتُمُ النّساءَ دليلاً واضحا على صرفه الخطاب إلى جماعة المسلمين مع النبيّ صلى الله عليه وسلم مع جماعة الناس غيره لأنه ابتدأ خطابه ثم صرف الخطاب إلى جماعة الناس ، والنبيّ صلى الله عليه وسلم فيهم ، وخبر عن أنه لا يعمل أحد من عباده عملاً إلا وهو له شاهد يحصى عليه ويعلمه ، كما قال : وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبّكَ يا محمد عمل خلقه ، ولا يذهب عليه علم شيء حيث كان من أرض أو سماء . وأصله من عزوب الرجل عن أهله في ماشيته ، وذلك غيبته عنهم فيها ، يقال منه : عزب الرجل عن أهله يَعْزُبُ وَيعْزِبُ لغتان فصيحتان ، قرأ بكل واحدة منهما جماعة من القرّاء . وبأيتهما قرأ القارىء فمصيب ، لاتفاق معنييهما واستفاضتهما في منطق العرب غير أني أميل إلى الضمّ فيه لأنه أغلب على المشهورين من القرّاء .
وقوله : مِنْ مِثْقالِ ذَرّةٍ يعني : من زنة نملة صغيرة ، يحكى عن العرب : خذ هذا فإنه أخفّ مثقالاً من ذاك أي أخفّ وزنا . والذرّة واحدة الذرّ ، والذرّ : صغار النمل . وذلك خبر عن أنه لا يخفى عليه جلّ جلاله أصغر الأشياء ، وإن خفّ في الوزن كلّ الخفة ، ومقادير ذلك ومبلغه ، ولا أكبرها وإن عظم وثقل وزنه ، وكم مبلغ ذلك . يقول تعالى ذكره لخلقه : فليكن عملكم أيها الناس فيما يرضى ربكم عنكم ، فإنا شهود لأعمالكم ، لا يخفى علينا شيء منها ، ونحن محصوها ومجازوكم بها .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : وَلا أصْغَرَ مِنَ ذلكَ وَلا أكْبَرَ فقرأ ذلك عامّة القرّاء بفتح الراء من «أصغر » و«أكبر » على أن معناها الخفض ، عطفا بالأصغر على الذرّة وبالأكبر على الأصغر ، ثم فتحت راؤهما لأنهما لا يجريان . وقرأ ذلك بعض الكوفيين : «وَلا أصْغَرُ مِنْ ذلكَ وَلا أكْبَرُ » رفعا ، عطفا بذلك على معنى المثقال لأن معناه الرفع . وذلك أن «مِنْ » لو أُلقيت من الكلام لرفع المثقال ، وكان الكلام حينئذ : وَما يَعْزُبُ عن ربك مثقال ذرّة ولا أصغر من مثقال ذرّة ولا أكبر ، وذلك نحو قوله : مِنْ خَالِقٍ غَيرُ اللّهِ و«غيرِ الله » .
وأولى القراءتين في ذلك بالصواب قراءة من قرأ بالفتح على وجه الخفض والردّ على الذرّة لأن ذلك قراءة قرّاء الأمصار وعليه عوامّ القرّاء ، وهو أصحّ في العربية مخرجا وإن كان للأخرى وجه معروف .
وقوله : إلاّ فِي كِتابٍ يقول : وما ذاك كله إلا في كتاب عند الله مبين عن حقيقة خبر الله لمن نظر فيه أنه لا شيء كان أو يكون إلا وقد أحصاه الله جلّ ثناؤه فيه ، وأنه لا يعزب عن الله علم شيء من خلقه حيث كان من سمائه وأرضه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَما يَعْزُبُ يقول : لا يغيب عنه .
حدثني محمد بن عمارة ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبّكَ قال : ما يغيب عنه .
{ وما تكون في شأنٍ } ولا تكون في أمر ، وأصله الهمز من شأنت شأنه إذا قصدت قصده والضمير في { وما تتلو منه } له لأن تلاوة القرآن معظم شأن الرسول ، أو لأن القراءة تكون لشأن فيكون التقدير من أجله ومفعول تتلو { من قرآن } على أن { من } تبعيضية أو مزيدة لتأكيد النفي أو لل { قرآن } ، وإضماره قبل الذكر ثم بيانه تفخيم له أو لله . { ولا تعملون من عملٍ } تعميم للخطاب بعد تخصيصه بمن هو رأسهم ، ولذلك ذكر حيث خص ما فيه فخامة وذكر حيث عم ما يتناول الجليل والحقير . { إلا كنا عليكم شهودا } رقباء مطلعين عليه . { إذ تفيضون فيه } تخوضون فيه وتندفعون . { وما يعزُب عن ربك } ولا يبعد عنه ولا يغيب عن علمه ، وقرأ الكسائي بكسر الزاي هنا وفي " سبأ " . { من مثقال ذرّة } موازن نملة صغيرة أو هباء . { في الأرض ولا في السماء } أي في الوجود والإمكان فإن العامة لا تعرف ممكنا غيرهما ليس فيهما ولا متعلقا بهما ، وتقديم الأرض لأن الكلام في حال أهلها والمقصود منه البرهان على إحاطة علمه بها . { ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين } كلام برأسه مقرر لما قبله { لا } نافية و{ أصغر } اسمها { وفي كتاب } خبرها . وقرأ حمزة ويعقوب بالرفع على الابتداء والخبر ، ومن عطف على لفظ { مثقال ذرة } وجعل الفتح بدل الكسر لامتناع الصرف أو على محله مع الجار جعل الاستثناء منقطعا ، والمراد بالكتاب اللوح المحفوظ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.