التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ جَآءَتۡ رُسُلُنَآ إِبۡرَٰهِيمَ بِٱلۡبُشۡرَىٰ قَالُواْ سَلَٰمٗاۖ قَالَ سَلَٰمٞۖ فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجۡلٍ حَنِيذٖ} (69)

ثم ساقت السورة الكريمة جانباً من قصة إبراهيم - عليه السلام - مع الملائكة ، الذين جاءوه بالبشارة ، فقال - تعالى - :

{ وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ . . . } .

هذه قصة إبراهيم - عليه السلام - مع الملائكة الذين جاءوا لبشارته بابنه إسحاق ، وبإخباره بإهلاك قوم لوط - عليه السلام - .

وقد ودرت هذه القصة فى سور أخرى منها سورة الحجر فى قوله - تعالى - : { وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ . إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ . . . } ومنها سورة الذاريات فى قوله - تعالى - { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ المكرمين . إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ . . . } والمراد بالرسل فى قوله - تعالى - { وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بالبشرى } جماعة من الملائكة الذين أرسلهم الله - تعالى - لتبشير إبراهيم بابنه إسحاق .

وقد اختلفت الروايات فى عددهم فعن ابن عباس أنهم ثلاثة وهم : جبريل وميكائيل وإسرافيل ، وعن الضحاك أنهم كانوا تسعة ، وعن السدى أنهم كانوا أحد عشر ملكاً . .

والحق أنه لم يرد فى عددهم نقل صحيح يعتمد عليه ، فلنفوض معرفة عددهم إلى الله - تعالى - .

والبشرى : اسم للتبشير والبشارة وهى الخبر السار ، فهى أخص من الخبر ، وسميت بذلك لأن آثارها تظهر على بشرة الوجه أى : جلده .

وجاءت هذه الجملة الكريمة بصيغة التأكيد للاهتمام بمضمونها ، وللرد على مشركى قريش وغيرهم ممن كان ينكر هذه القصة وأمثالها .

والباء فى قوله - سبحانه - { بالبشرى } للمصاحبة والملابسة ، أى : جاءوا مصاحبين وملتبسين بالبشرى .

وقوله : { قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ } حكاية لتحيتهم له ولرده عليهم .

{ وسلاما } منصوب بفعل محذوف . أى قالوا نسلم عليك سلاما .

{ وسلام } مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف . أى قال أمرى سلام .

وقرأ حمزة والكسائى : قال سلم وهو اسم للمسألمة .

ثم بين - سبحانه - ما فعل إبراهيم مع هؤلاء الرسل من مظاهر الحفاوة والتكريم فقال : { فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ } .

و " ما " فى قوله { فَمَا لَبِثَ } نافية ، والفاء للتعقيب ، واللبث فى المكان معناه : عدم الانتقال عنه . والعجل : الصغير من البقر .

أى : فما أبطأ وما تأخر إبراهيم - عليه السلام - عن إكرامهم ، بل بمجرد أن انتهى من رد التحية عليهم ، أسرع إلى أهله فجاءهم بعجل حنيذ . . .

وهذا الفعل منه - عليه السلام - يدل على سعة جوده ، وعظيم سخائه ، فإن من آداب الضيافة ، تعجيل القرى للضيف .

قال أبو حيان : والأقرب فى إعراب { فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ . . . } أن تكون { ما } نافية ، ولبث معناه تأخر وأبطأ و { أَن جَآءَ } فاعل لبث والتقدير ؛ فما تأخر مجيئه . .

ويجوز أن يكون فاعل لبث ضمير إبراهيم ، وأن جاء على إسقاط حرف الجر ، أى فما تأخر فى أن جاء بعجل حينذ . .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ جَآءَتۡ رُسُلُنَآ إِبۡرَٰهِيمَ بِٱلۡبُشۡرَىٰ قَالُواْ سَلَٰمٗاۖ قَالَ سَلَٰمٞۖ فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجۡلٍ حَنِيذٖ} (69)

عطف قصة على قصة .

وتأكيد الخبر بحرف ( قد ) للاهتمام به كما تقدّم في قوله : { ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه } [ هود : 25 ] .

والغرض من هذه القصّة هو : الموعظة بمصير قوم لوط إذْ عصوا رسول ربّهم فحلّ بهم العذاب ولم تغن عنهم مجادلة إبراهيم . وقدّمت قصة إبراهيم لذلك وللتنويه بمقامه عند ربّه على وجه الإدماج ، ولذلك غيّر أسلوب الحكاية في القصص الّتي قبلها والتي بعدها نحو { وإلى عاد } [ هود : 50 ] إلخ .

والرّسل : الملائكة . قال تعالى : { جاعل الملائكة رسلاً } [ فاطر : 1 ] .

والبشرى : اسم . للتبشير والبشارة . وتقدّم عند قوله تعالى : { وبشّر الذين آمنوا وعَمِلوا الصالحات } في أوّل سورة [ البقرة : 25 ] . هذه البشرى هي التي في قوله : فبشّرناها بإسحاق } لأنّ بشارة زوجه بابننٍ بشارة له أيضاً .

والباء في { بالبشرى } للمصاحبة لأنّهم جاءوا لأجل البشرى فهي مصاحبة لهم كمصاحبة الرسالة للمرسل بها .

وجملة { قالوا سلاماً } في موضع البيان ل { البشرى } ، لأنّ قولهم ذلك مبدأ البشرى ، وإنّ ما اعترض بينها حكاية أحوال ، وقد انتهى إليها في قوله : { فبشّرناها بإسحاق إلى قوله إنّه حميد مجيد } .

والسّلام : التحيّة . وتقدّم في قوله : { وإذا جاءك الّذين يؤمنون بآياتنا فقل سلامٌ عليكم } في سورة [ الأنعام : 54 ] .

وسلاماً } مفعول مطلق وقع بَدَلاً من الفعل . والتّقدير : سلّمنا سلاماً .

و { سلام } المرفوع مصدر مرفوع على الخبر لمبتدأ محذوف ، تقديره : أمري سلام ، أي لكم ، مثل { فصبرٌ جميلٌ } [ يوسف : 18 ] . ورفع المصدر أبلغ من نصبه ، لأنّ الرّفع فيه تناسي معنى الفعل فهو أدلّ على الدّوام والثّبات . ولذلك خالف بينهما للدّلالة على أنّ إبراهيم عليه السّلام ردّ السّلام بعبارة أحسن من عبارة الرسل زيادة في الإكرام .

قال ابن عطيّة : حيّاً الخليل بأحسن ممّا حُيّيَ به ، أي نظراً إلى الأدب الإلهي الذي عَلّمَهُ لَنَا في القرآن بقوله : { وإذا حيّيتم بتحيةٍ فَحَيّوا بأحسن منها أو رُدُّوها } [ النساء : 86 ] ، فَحكيَ ذلك بأوجز لفظ في العربية أداءً لمعنى كلام إبراهيم عليه السّلام في الكلدانيّة .

وقرأ الجمهور { قال سَلامٌ } بفتح السّين وبِألِف بعد اللاّم . وقرأه حمزة ، والكسائي ، وخلف : { قال سِلْم } بكسر السّين وبدون ألِف بعد اللاّم وهو اسم المسالمة . وسمّيت به التحية كما سمّيت بمرادفِه ( سَلام ) فهو من باب اتّحاد وزن فَعال وفِعْل في بعض الصفات مثل : حرام وحِرم ، وحلال وحلّ .

والفاء في قوله : { فما لبث } للدّلالة على التعقيب إسراعاً في إكرام الضّيف ، وتعجيل القرى سنّة عربيّة : ظنهم إبراهيم عليه السّلام ناساً فبادر إلى قراهم .

واللّبث في المكان يقتضي الانتقال عنه ، أيْ فما أبطأ . و { أن جاء } يجوز أن يكون فاعل { لَبِثَ } ، أي فما لبث مجيئه بعجل حنيذ ، أي فما أبطأ مَجيئه مصاحباً له ، أي بل عجّل . ويجوز جعل فاعل { لبث } ضمير إبراهيم عليه السّلام فيقدّر جارّ ل { جاء } .

والتّقدير : فما لبث بأن جاء به . وانتفاء اللبث مبالغة في العجل .

والحنيذ : المشوي ، وهو المحنوذ . والشيُّ أسْرَع من الطبخ ، فهو أعون على تعجيل إحضار الطعام للضيف .