التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَلَا تُؤۡتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ أَمۡوَٰلَكُمُ ٱلَّتِي جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمۡ قِيَٰمٗا وَٱرۡزُقُوهُمۡ فِيهَا وَٱكۡسُوهُمۡ وَقُولُواْ لَهُمۡ قَوۡلٗا مَّعۡرُوفٗا} (5)

ثم نهى - سبحانه - عن إيتاء الأموال للسفهاء ، لدفع توهم إيجاب أن يؤتى كل مال لمالكه ولو كان سفيها فقال تعالى : { وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء . . . } .

وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا ( 5 )

والسفهاء جمع سفيه . والسفه - كما يقول الراغب - : خفة في البدن ، ومنه قيل : زمام سفيه أى كثير الأضطراب ، وثوب سفيه ردئ النسج ، واستعمل في خفة النفس لنقصان العقل ، ويكون في الأمور الدنيوية والأخروية ، قال - تعالى - في السفه الدنيوي : { وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ } وقال في السفه الأخروي { وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى الله شَطَطاً } والمراد من السفهاء هنا : ضعفاء العقول والأفكار الذين لا يحسنون التصرف .

والمراد من قوله { قِيَاماً } ما به القيام والتعيش . يقال فلان قيام أهله : أي يقيم شأنهم ويصلهم . وهو المفعول الثاني لجعل . أما المفعول الأول لجعل فمحذوف ويرجع إلى ضمير الأموال .

وقرأ نافع وابن عامر { التي جَعَلَ الله لَكُمْ قيماً } على أنه مصدر مثل الحول والعوض .

وقرأ ابن عمر { قواما } - بكسر القاف وبواو وألف -

قال الآلوسي : وفيه وجهان :

الأول : أنه مصدر قاومت قواما مثل لاوذت لواذا فصحت الواو في المصدر كما صحت في الفعل .

والثاني : أنه اسم لما يقوم به الأمر وليس بمصدر .

هذا ، وقد اختلف المفسرون في تعيين المخاطبين بقوله - تعالى - { وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ } كما اختلفوا في المراد من السفهاء على أقوال أشهرها :

أن المخاطبين بهذه الآية هم أولياء اليتامى ، وأن المراد من السفهاء هم اليتامى الذين لم يحسنوا التصرف في أموالهم لصغرهم أو لضعف عقولهم ، واضطراب أفكارهم . وأن المراد بالأموال فى قوله { أَمْوَالَكُمُ } هي أموال هؤلاء اليتامى لا أموال الأولياء .

فيكون المقصود من الاية الكريمة نهى الأولياء عن إيتاء السفهاء من اليتامى أموالهم التي جعلها الله مناط تعيشهم ، خشية إساءة التصرف فيها لخفة أحلامهم .

وإنما أضيفت الأموال في الآية الكريمة إلى ضمير المخاطبين وهم الأولياء ، مع أن هذه الأموال في الحقيقة لليتامى :

للتنبيه إلى أن أموال اليتامى كأنها عين أموالهم ، مبالغة في حملهم على وجوب حفظها وصيانتها من أى إتلاف أو إضرار بها .

قال الفخر الرازى ما ملخصه : والدليل على أن الخطاب في الآية الكريمة للأولياء قوله - تعالى - بعد ذلك { وارزقوهم فِيهَا واكسوهم } وأيضا فعلى هذا القول يحسن تعليق هذه الآية بما قبلها فكأنه - تعالى - يقول إنى وإن كنت أمرتكم بإيتاء اليتامى أموالهم . فإنما قلت ذلك إذا كانوا عاقلين بالغين متمكنين من حفظ أموالهم ، فأما إذا كانوا غير بالغين أو غير عقلاء ، أو إن كانوا بالغين عقلاء إلا أنهم كانوا سفهاء مسرفين ، فلا تدفعوا إليهم أموالهم وأمسكوها لأجلهم إلى أن يزول عنهم السفه . والمقصود من كل ذلك الاحتياط في حفظ أموال الضعفاء والعاجزين .

وقيل : إن الخطاب في الآية الكريمة للأباء ، والمراد من السفهاء الأولاد الذين لا يستقلون بحفظ المال وإصلاحه ، بل إذا أعطى لهم أفسدوه وأتلفوه .

وعلى هذا الرأى تكون إضافة الأموال الى المخاطبين على سبيل الحقيقة .

ويكون المعنى : لا تؤتوا أيها الأباء أموالكم لأولادكم السفهاء ؛ لأن فى إعطائكم إياهم لهم إفسادا لهم مع أن فيها قوام حياتكم وصلاح أحوالكم .

والذى نراه أن الخطاب في الآية الكريمة لجميع المكلفين حاكمين ومحكومين ليأخذ كل من يصلح لهذا الحكم حظه من الامتثال . وأن المراد بالسفهاء كل من لا يحسن المحافظة على ماله لصغره ، أو لضعف عقله ، أو لسوء تصرفاته سواءً أكان من اليتامى أم من غيرهم ؛ لأن التعميم في الخطاب وفي الألفاظ - عند عدم وجود المخصص - أولى ، لأنه أوفر معنى ، وأوسع تشريعا .

وفي إضافة الأموال إلى جميع المخاطبين المكلفين من المسلمين إشارة بديعة إلى أن المال المتداول بينهم هو حق لمالكية المختصين به في ظاهر الأمر ، ولكنه عند التأمل تلوح فيه حقوق الأمة جمعاء ؛ لأن وضعه في المواضع التي أمر الله بها منفعة للأمة كلها ، وفي وضعه في المواضع التي نهى الله عنها مضمرة بالأمة كلها ، وتعاليم الإسلام التي تجعل المسلمين جميعا أمة واحدة متكافلة متراحمة تعتبر مصلحة كل فرد من أفرادها عين مصلحة الآخرين .

وبعد أن نهى - سبحانه - عن إيتاء المال للسفهاء ، أمر بثلاثة أشياء ، أولها وثانيها قوله - تعالى - { وارزقوهم فِيهَا واكسوهم } .

أي اجعلوا هذه الأموال مكانا لرزقهم وكسوتهم ، بأن تتجروا فيها حتى تكون نفقاتهم من الأرباح لا من أصل لئلا يفنيه الإِنفاق منه .

وإنما قال : { وارزقوهم فِيهَا } ولم يقل " منها " ؛ لئلا يكون ذلك أمراً بأن يجعلوا بعض أموالهم رزقا لهم ، بل أمرهم أن يجعلوا أموالهم مكانا لرزقهم بأن يتجروا فيها ويستثمروها فيجعلوا أرزاقهم من الأرباح لا من أصول الأموال .

أما الأمر الثالث فهو قوله - تعالى - : { وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } .

والقول المعروف هو كل ما تسكن إليه النفس لموافقته للشرع والعقول السليمة ، كأن يكلموهم كلاما لينا تطيب به نفوسهم ، وكأن يعدوهم عدة حسنة بأن يقولوا لهم : إذا صلحتم ورشدتم سلمنا أموالكم . وكأن ينصحوهم بما يصلحهم ويبعدهم عن السفه وسوء التصرف .

وفى أمره - سبحانه - للمخاطبين بأن يقولوا لهؤلاء السفهاء قولا معروفا ، بعد أمره لهم برزقهم وكسوتهم ، إشعار بأن من الواجب عليهم أن يقدموا إليهم الرزق والكسوة مصحوبين بوجه طلق ، وبقول جميل بعيد عن المن والأذى ، فقد جرت عادة من تحت يده المال أن يستثقل إخراجه لمن سأله إياه .

هذا ، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية الكريمة : وجوب المحافظة على الأموال وعدمت تضييعها .

قال صاحب الكشاف : وكان السلف يقولون : المال سلاح المؤمن . ولأن أترك مالا يحاسبنى الله عليه ، خير من أن أحتاج إلى الناس . وعن سفيان - وكانت له بضاعة يقبلها - : لولاها لتمندل بى بنو العباس - أي لولاها لأتخذوني كالمنديل يسخروننى لمصالحهم - وقيل لأبى الزناد : لم تحب الدراهم وهى تدنيك من الدنيا ؟ فقال : لئن أدنتنى من الدنيا فقد صانتنى عنها .

وكانوا يقولون : اتجروا واكتسبوا فإنكم في زمان إذا احتاج أحدكم كان أول ما يأكل دينه . وربما رأوا رجلا في جنازة ، فقالوا له : اذهب إلى دكانك .

وقال بعض العلماء : ولنقف عند قوله - تعالى - { وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ التي جَعَلَ الله لَكُمْ قِيَاماً } لنعلم ما يوحى به من تكافل الأمة ومسئولية بعضها عن بعض . ومن أن المال الذى في يد بعض الأفراد " قوام للجميع " ينتفعون به في المشروعات العامة ، ويفرجون به أزماتهم وضائقاتهم الخاصة عن طريق الزكاة ، وعن طريق التعاون وتبادل المنافع . وهذا هو الوضع المال في نظر الشريعة الإِسلامية ، فليس لأحد أن يقول : مالى مالى . هو مالى وحدى لا ينتفع به سواى ، ليس أحد أن يقول هذا أو ذاك . فالمال مال الجميع ، والمال مال الله ، ينتفع به الجميع عن الطريق الذى شعره الله في سد الحاجات ودفع الملمات . وهو ملك لصاحبه يتصرف فيه لا كما يشاء ويهوى بل كما رسم الله وبين في كتابه ، حتى إذا ما أخل بذلك فأسرف وبذر أو ضن وقتر حجر عليه .

كذلك من الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية الكريمة : وجوب الحجر على السفهاء ، لأن الله - تعالى - قد أمر بذلك . ووجوب إقامة الوصى والولى والكفيل على الأيتام الصغار ومن فى حكمهم ممن لا يحسنون التصرف .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَلَا تُؤۡتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ أَمۡوَٰلَكُمُ ٱلَّتِي جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمۡ قِيَٰمٗا وَٱرۡزُقُوهُمۡ فِيهَا وَٱكۡسُوهُمۡ وَقُولُواْ لَهُمۡ قَوۡلٗا مَّعۡرُوفٗا} (5)

عطف على قوله : { وآتوا النساء صدقاتهن } [ النساء : 4 ] لدفع توهّم إيجاب أن يؤتى كلّ مال لمالكه من أجل تقدّم الأمر بإتيان الأموال مالكيها مرّتين في قوله : { وآتوا اليتامى أموالهم وآتوا النساء صدقاتهن } [ النساء : 2 ، 4 ] . أو عطف على قوله : { وآتوا اليتامى } وما بينهما اعتراض .

والمقصود بيان الحال التي يمنع فيها السفيه من ماله ، والحال التي يؤتى فيها مالَه ، وقد يقال كان مقتضى الظاهر على هذا الوجه أن يقدّم هنالك حكم منع تسليم مال اليتامى لأنّه أسبق في الحصول ، فيتّجه لمخالفة هذا المقتضى أن نقول قدّم حكم التسليم ، لأنّ الناس أحرص على ضدّه ، فلو ابتدأ بالنهي عن تسليم الأموال للسفهاء لاتّخذه الظالمون حجّة لهم ، وتظاهروا بأنّهم إنّما يمنعون الأيتام أموالهم خشية من استمرار السفه فيهم ، كما يفعله الآن كثير من الأوصياء والمقدّمين غير الأتقياء ، إذ يتصدّون للمعارضة في بيّنات ثبوت الرشد لمجرّد الشغب وإملال المحاجير من طلب حقوقهم .

والخطاب في قوله : { ولا تؤتوا السفهاء } كمثل الخطاب في { وآتوا اليتامى وآتوا النساء } هو لعموم الناس المخاطبين بقوله : { يا أيها الناس اتّقوا ربكم } [ الحج : 1 ] ليأخذ كل من يصلح لهذا الحكم حظّه من الامتثال .

والسفهاء يجوز أن يراد به اليتامى ، لأنّ الصغر هو حالة السفه الغالبة ، فيكون مقابلاً لقوله : { وآتوا اليتامى } لبيان الفرق بين الإيتاء بمعنى الحفظ والإيتاء بمعنى التمكين ، ويكون العدول عن التعبير عنهم باليتامى إلى التعبير هنا بالسفهاء لبيان علّة المنع . ويجوز أن يراد به مطلق من ثبت له السفه ، سواء كان عن صغر أم عن اختلال تصرّف ، فتكون الآية قد تعرّضت للحجر على السفيه الكبير استطراداً للمناسبة ، وهذا هو الأظهر لأنّه أوفر معنى وأوسع تشريعاً . وتقدّم بيان معاني السفه عند قوله تعالى : { إلا من سفه نفسه } في سورة البقرة ( 130 ) .

والمراد بالأموال أموال المحاجير المملوكة لهم ، ألا ترى إلى قوله : { وارزقوهم فيها } وأضيفت الأموال إلى ضمير المخاطبين ب ( يا أيّها الناس ) إشارة بديعة إلى أنّ المال الرائج بين الناس هو حقّ لمالكية المختصّين به في ظاهر الأمر ، ولكنّه عند التأمّل تلوح فيه حقوق الأمة جمعاء لأنّ في حصوله منفعة للأمّة كلّها ، لأنّ ما في أيدي بعض أفرادها من الثروة يعود إلى الجميع بالصالحة ، فمن تلك الأموال يُنفق أربابها ويستأجرون ويشترون ويتصدّقون ثم تورث عنهم إذا ماتوا فينتقل المال بذلك من يد إلى غيرها فينتفع العاجز والعامل والتاجر والفقير وذو الكفاف ، ومتى قلَّت الأموال من أيدي الناس تقاربوا في الحاجة والخصاصة ، فأصبحوا في ضنك وبؤس ، واحتاجوا إلى قبيلة أو أمّة أخرى وذلك من أسباب ابتزاز عزّهم ، وامتلاك بلادهم ، وتصيير منافعهم لخدمة غيرهم ، فلأجل هاته الحكمة أضاف الله تعالى الأموال إلى جميع المخاطبين ليكون لهم الحقّ في إقامة الأحكام التي تحفظ الأموال والثروة العامة .

وهذه إشارة لا أحسب أنّ حكيماً من حكماء الاقتصاد سبق القرآن إلى بيانها . وقد أبْعَدَ جماعة جعلوا الإضافة لأدنى ملابسة ، لأنّ الأموال في يد الأولياء ، وجعلوا الخطاب للأولياء خاصّة . وجماعة جعلوا الإضافة للمخاطبين لأنّ الأموال من نوع أموالهم ، وإن لم تكن أموالهم حقيقة ، وإليه مال الزمخشري . وجماعة جعلوا الإضافة لأنّ السفهاء من نوع المخاطبين فكأنّ أموالَهم أموالُهم وإليه مال فخر الدين . وقارب ابن العرب إذ قال : « لأنّ الأموال مشتركة بين الخلق تنتقل من يد إلى يد وتخرج من ملك إلى ملك » وبما ذكرته من البيان كان لكلمته هذه شأن . وأبعَدَ فريق آخرون فجعلوا الإضافة حقيقية أي لا تؤتوا يا أصحاب الأموال أموالكم لمن يضيعها من أولادكم ونسائكم ، وهذا أبعد الوجوه ، ولا إخال الحامل على هذا التقدير إلاّ الحيرة في وجه الجمع بين كون الممنوعين من الأموال السفهاء ، وبين إضافة تلك الأموال إلى ضمير المخاطبين ، وإنّما وصفته بالبعد لأنّ قائله جعله هو المقصود من الآية ولو جعله وجهاً جائزاً يقوم من لفظ الآية لكان له وجه وجيه بناء على ما تقرّر في المقدّمة التاسعة .

وأجرى على الأموال صفة تزيد إضافتها إلى المخاطبين وضوحاً وهي قوله : { التي جعل اللَّه لكم قياماً } فجاء في الصفة بموصول إيماء إلى تعليل النهي ، وإيضاحاً لمعنى الإضافة ، فإنّ ( قيما ) مصدر على وزن فِعَل بمعنى فِعَال : مثل عِوذَ بمعنى عياذ ، وهو من الواوي وقياسُه قِوَم ، إلاّ أنّه أعلّ بالياء شذوذاً كما شذّ جياد في جمع جَواد وكما شذّ طيال في لغة ضَبَّةَ في جمع طويل ، قصدوا قلب الواو ألفاً بعد الكسرة كما فعلوه في قيام ونحوه ، إلاّ أنّ ذلك في وزن فِعال مطّرد ، وفي غيره شاذّ لكثرة فِعال في المصادر ، وقلّة فِعَل فيها ، وقيم من غير الغالب . كذا قرأه نافع ، وابن عامر : « قيما » بوزن فِعَل ، وقرأه الجمهور « قياماً » ، والقيام ما به يتقوّم المعاش وهو واوي أيضاً وعلى القراءتيْن فالإخبار عن الأموال به إخبار بالمصدر للمبالغة مثل قول الخنساء :

فإنَّمَا هي إقْبَال وإدْبَار

والمعنى أنّها تقويم عظيم لأحوال الناس . وقيل : قيما جمع قِيمة أي التي جعلها الله قيماً أي أثماناً للأشياء ، وليس فيه إيذان بالمعنى الجليل المتقدّم .

ومعنى قوله : { وارزقوهم فيها واكسوهم } واقع موقع الاحتراس أي لا تؤتوهم الأموال إيتاء تصرّف مطلق ، ولكن آتوهم إيّاها بمقدار انتفاعهم من نفقة وكسوة ، ولذلك قال فقهاؤنا : تسلّم للمحجور نفقته وكِسْوته إذا أمن عليها بحسب حاله وماله ، وعدل عن تعدية { ارزقوهم واكسوهم } ب ( مِن ) إلى تعديتها ب ( في ) الدالّة على الظرفية المجازية ، على طريقة الاستعمال في أمثاله ، حين لا يقصد التبعيض الموهم للإنقاص من ذات الشيء ، بل يراد أنّ في جملة الشيء ما يحصل به الفعل : تارة من عينه ، وتارة من ثمنه ، وتارة من نتاجه ، وأنّ ذلك يحصل مكرّراً مستمرّاً .

وانظر ذلك في قول سَبرة بن عمرو الفَقْعسي :

نُحابِي بها أكفاءنَا ونُهيِنَها *** ونَشْرَب في أثْمَانِها ونُقامِر

يريد الإبل التي سيقت إليهم في دية قتيل منهم ، أي نشرب بأثمانها ونقامر ، فإمّا شربنا بجميعها أو ببعضها أو نسترجع منها في القمار ، وهذا معنى بديع في الاستعمال لم يسبق إليه المفسّرون هنا ، فأهمل معظمهم التنبيه على وجه العدول إلى ( في ) ، واهتدى إليه صاحب « الكشاف » بعض الاهتداء فقال : أي اجعلوها مكاناً لرزقهم بأن تتّجروا فيها وتتربَّحوا حتّى تكون نفقتهم من الربح لا من صلب المال . فقوله : « لا من صلب المال » مستدرك ، ولو كان كما قال لاقتضى نهياً عن الإنفاق من صلب المال .

وإنّما قال : { وقولوا لهم قولاً معروفاً } ليسلم إعطاؤهم النفقة والكسوة من الأذى ، فإنّ شأن من يُخرج المال من يده أن يستثقل سائل المال ، وذلك سواء في العطايا التي من مال المعطي ، والتي من مال المعطَى ، ولأنّ جانب السفيه ملموز بالهون ، لقلّة تدبيره ، فلعلّ ذلك يحمل ولّيه على القلق من معاشرة اليتيم فيسمعه ما يكره مع أنّ نقصان عقله خلل في الخلقة ، فلا ينبغي أن يشتم عليه ، ولأنّ السفيه غالباً يستنكر منعَ ما يطلبُه من واسع المطالب ، فقد يظهر عليه ، أو يصدر منه كلمات مكروهة لوليّه ، فأمر الله لأجل ذلك كلّه الأولياء بأن لا يبتدئوا محاجيرهم بسَيّىء الكلام ، ولا يجيبوهم بما يسوء ، بل يعظون المحاجير ، ويعلّمونهم طرق الرشاد ما استطاعوا ، ويذكّرونهم بأنّ المال مالهم ، وحفظه حفظ لمصالحهم ، فإنّ في ذلك خيراً كثيراً ، وهو بقاء الكرامة بين الأولياء ومواليهم ، ورجاء انتفاع الموالي بتلك المواعظ في إصلاح حالهم حتّى لا يكونوا كما قال :

إذا نُهِي السفيهُ جرى إليه *** وخالف والسفيه إلى خلاف

وقد شمل القَول المعروف كلّ قول له موقع في حال مقاله . وخرج عنه كلّ قول منكر لا يشهد العقل ولا الخُلُق بمصادفته المحزّ ، فالمعروف قد يكون ممّا يكرهه السفيه إذا كان فيه صلاح نفسه .