الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ، وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين .
وبعد : فإن خير ما اشتغل به العقلاء ، هو خدمة كتاب الله –تعالى- ، الذي أنزله –سبحانه- على قلب محمد –صلى الله عليه وسلم- لكي يخرج الناس من الظلمات إلى النور .
ولقد عني المسلمون منذ فجر الإسلام عناية كبرى بشأن القرآن الكريم . وقد شملت هذه العناية جميع نواحيه ، وأحاطت بكل ما يتصل به ، وكان لها آثارها المباركة النافعة التي استفاد منها كل مظهر من مظاهر النشاط الفكري والعملي عرفه الناس في حياتهم الروحية والمادية .
وكان من أبرز مظاهر هذه العناية بشأن القرآن الكريم ، الاشتغال بتفسيره وتأويله على قدر الطاقة البشرية .
ولقد سبق لي أن كتبت تفسيراً وسيطا لسور : الفاتحة ، والبقرة ، وآل عمران .
ويسعدني أن أتبع ذلك بتفسير لسورة النساء ، حاولت فيه أن أكتب عما اشتملت عليه هذه السورة الكريمة من هدايات جامعة ، وتشريعات حكيمة وتوجيهات رشيدة ، وآداب سامية ، من شأنها أن توصل المتمسكين بها إلى طريق السعادة في دنياهم وآخرتهم .
وقبل أن أبدأ في تفسير آيات هذه السورة الكريمة بالتفصيل والتحليل . رأيت من الخير أن أسوق بين يديها تعريفاً بها ، يتناول زمان نزولها ، وعدد آياتها ، وسبب تسميتها بهذا الاسم ، ومناسبتها لما قبلها ، والمقاصد الإجمالية التي اشتملت عليها .
والله نسأل أن يوفقنا لخدمة كتابه ، وأن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده ، إنه أكرم مسئول وأعظم مأمول .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
1- سورة النساء هي الرابعة في ترتيب المصحف . فقد سبقتها سورة الفاتحة ، والبقرة ، وآل عمران .
ويبلغ عدد آياتها خمسا وسبعين ومائة آية عند علماء الحجاز والبصريين ، ويرى الكوفيون أن عدد آياتها ست وسبعون ومائة آية ، لأنهم عدوا قوله –تعالى- [ أن تضلوا السبيل ] آية .
ويرى الشاميون أن عدد آياتها سبع وسبعون ومائة آية ، لأنهم عدوا قوله –تعالى- [ وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذاباً أليما ] آية .
كما أنهم وافقوا الكوفيين في أن قوله –تعالى- [ أن تضلوا السبيل ] آية .
أما علماء الحجاز والبصريين فيرون أن ما ذكره الكوفيون والشاميون إنما هو جزء من آية وليس آية كاملة .
2- وسورة النساء من السور المدنية . وكان نزولها بعد سورة الممتحنة ويؤيد أنها مدنية ما رواه البخاري عن عائشة –رضي الله عنها- قالت : " ما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم " .
ومن المتفق عليه عند العلماء أن دخوله صلى الله عليه وسلم على عائشة كان بعد الهجرة . وروى العوفي عن ابن عباس أنه قال : نزلت سورة النساء بالمدينة . وكذا روى ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير وزيد بن ثابت .
قال الألوسي : " وزعم بعض الناس أنها مكية . مستندا إلى أن قوله –تعالى- : [ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها . . . ] نزلت بمكة في شأن مفتاح الكعبة . وتعقبه السيوطي بأن ذلك مستند واه ، لأنه لا يلزم من نزول آية أوآيات بمكة ، من سورة طويلة ، نزل معظمها بالمدينة ، أن تكون مكية . خصوصا أن الأرجح أن ما نزل بعد الهجرة فهو مدني . ومن راجع أسباب نزولها عرف الرد عليه " ( {[1]} ) .
والحق ، أن الذي يقرأ سورة النساء من أولها إلى آخرها بتدبر وإمعان ، يرى في أسلوبها وموضوعاتها سمات القرآن المدني . فهي زاخرة بالحديث عن الأحكام الشرعية : من عبادات ومعاملات وحدود . وعن علاقة المسلمين ببعضهم وبغيرهم . وعن أحوال أهل الكتاب والمنافقين ، وعن الجهاد في سبيل الله . إلى غير ذلك من الموضوعات التي يكثر ورودها في القرآن المدني .
ومن هنا قال القرطبي : " ومن تبين أحكامها علم أنها مدنية لا شك فيها " ( {[2]} ) .
3- وسورة النساء سميت بهذا الاسم ؛ لأن ما نزل منها في أحكام النساء أكثر مما نزل في غيرها .
وكثيراً ما يطلق عليها اسم " سورة النساء الكبرى " تمييزا لها عن سورة أخرى عرضت لبعض شئون النساء وهي " سورة الطلاق " التي كثيرا ما يطلق عليها اسم " سورة النساء الصغرى " .
4- ومن وجوه المناسبة بين هذه السورة وبين سورة آل عمران التي قبلها : أن سورة آل عمران اختتمت بالأمر بالتقوى في قوله –تعالى- : [ يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ] وسورة النساء افتتحت بالأمر بالتقوى . قال –تعالى- : [ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ] .
قال الآلوسي : " وذلك من آكد وجوه المناسبات في ترتيب السور . وهو نوع من أنواع البديع يسمى في الشعر : تشابه الأطراف . وقوم يسمونه بالتسبيغ . وذلك كقول ليلى الأخيلية :
إذا نزل الحجاج أرضا مريضة تتبع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العضال الذي بها غلام إذا هز القناة رواها
رواها فأرواها بشرب سجالها دماء رجال حيث نال حشاها( {[3]} ) .
ومنها أن في سورة آل عمران تفصيلا لغزوة أحد . وفي سورة النساء حديث موجز عنها في قوله –تعالى- : [ فمالكم في المنافقين فئتين والله أرسكهم بما كسبوا ] .
وكما في قوله –تعالى- : [ ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون ] .
ومنها : أن في كلتا السورتين محاجة لأهل الكتاب ، وبيانا لأحوال المنافقين ، وتفصيلا لأحكام القتال .
ومن أمعن نظره –كما يقول الألوسي- وجد كثيرا مما ذكر في هذه السورة مفصلا لما ذكر فيما قبلها . فحينئذ يظهر مزيد الارتباط وغاية الاحتباك " .
5- ومن الآثار التي وردت في فضل سورة النساء ، ما رواه قتادة عن ابن عباس أنه قال : ثماني آيات نزلت في سورة النساء خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت .
أولهن : [ يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم ] .
والثانية : [ والله يريد أن يتوب عليكم . ويريد اللذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما ] .
والثالثة : [ يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا ] .
والرابعة : [ إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ] .
والخامسة : [ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيائتكم ] .
والسادسة : [ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ] .
والسابعة : [ ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله ] .
والثامنة : [ ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيما ]( {[4]} ) .
وكأن ابن عباس –رضي الله عنهما- قد نظر إلى ما تدل عليه هذه الآيات الكريمة من فضل الله على عباده . ورحمة بهم ، وفتح لباب التوبة والمغفرة في وجوههم ، وإلا فإن القرآن كله بكل سوره وآياته خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت .
6- هذا ، وسورة النساء تعتبر أطول سورة مدنية بعد سورة البقرة ، وإنك لتقرؤها بتدبر وتفهم فتراها قد اشتملت على مقاصد عالية ، وآداب سامية . وتوجيهات حكيمة ، وتشريعات جليلة .
تراها تنظم المجتمع الإسلامي تنظيمة دقيقاً قويما ، يؤدي اتباعه إلى سعادة المجتمع واستقراره داخليا وخارجيا .
فأنت تراها في مطلعها تحض الناس على تقوى الله والخشية منه ، وتبين الارتباط الإنساني الجامع الذي تلتقي عنده البشرية جميعاً .
قال –تعالى- [ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيراً ونساء ] .
وإذا كان الناس جميعا ينتهون إلى أصل واحد ، فإن هذا الاتحاد يقتضي منهم أن يكونوا متراحمين متعاطفين ، ومن أبرز مظاهر التراحم ، الأخذ بيد الضعفاء ومعاونتهم في كل ما يحتاجون إليه .
لذا نجد السورة الكريمة بعد أن تفتتح بأمرالناس بتقوى الله ، تتبع ذلك بالأمر بالإحسان إلى اليتامى –الذين هم أوضح الضعفاء مظهرا- في خمس آيات في الربع الأول منها .
وهذه الآيات هي قوله –تعالى- : [ وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ] .
وقوله –تعالى- : [ وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ] .
وقوله –تعالى- : [ وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ] .
وقوله –تعالى- : [ وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه ] .
وقوله –تعالى- : [ إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا ] .
ولم تكتف السورة الكريمة في أوائلها بالحض على الإحسان إلى اليتامى ، بل حضت –أيضا- على الإحسان إلى النساء ، وإعطائهن حقوقهن كاملة .
ثم تراها بعد ذلك في الربع الثاني منها تتحدث عن التوزيع المالي للأسرة عندما يموت واحد منها ، وتضع لهذا التوزيع أحكم الأسس وأعدلها وأضبطها وتبين أن هذا التوزيع حد من حدود الله التي يجب التزامها وعدم مخالفتها .
قال –تعالى- : [ تلك حدود الله ، ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ، ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين ] .
ثم تحدثت السورة الكريمة عن حكم النسوة اللاتي يأتين الفاحشة ، وعن التوبة التي يقبلها الله –تعالى- ، والتوبة التي لا يقبلها . ووجهت نداء إلى المؤمنين نهتهم فيه عن أخذ شيء من حقوق النساء ، وأمرتهم بحسن معاشرتهن ، كما نهتهم عن نكاح أنواع معينة منهن ، لأن نكاحهن يتنافى مع شريعة الإسلام وآدابه .
قال –تعالى- : [ ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف ، إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا ] .
ثم تراها في الربع الثالث منها تتحدث عن المحصنات من النساء وعن حقوقهن ، وبينت للناس أن الله –تعالى- ما شرع هذه الأحكام القويمة إلا لمصلحتهم ومنفعتهم .
استمع إلى السورة الكريمة وهي تحكي هذا المعنى فتقول : [ يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم . والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما . يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا ] .
ثم صرحت السورة الكريمة بأن للرجال القوامة على النساء ، وذكرت ضروب التأديب التي يملكها الرجل على زوجته ، وكلها من غير قسوة ولا شذوذ ولا طغيان ، ودعت أهل الخير إلى الإصلاح بين الزوجين إذا ما نشب بينهما نزاع أو شقاق .
قال –تعالى- : [ وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ، إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما ، إن الله كان عليما خبيرا ] .
وبعد أن فصلت السورة الكريمة الحديث عما يجب أن تكون عليه العلاقة بين الزوجين ، وبين أفراد الأسرة ، انتقلت في الربع الرابع منها إلى بيان العلاقة بين العبد وخالقه ، وأنها يجب أن تقوم على إخلاص العبادة له –سبحانه- كما يجب على المسلم أن يجعل علاقته مع والديه ومع أقاربه ومع اليتامى والمساكين . وغيرهم ، قائمة على الإحسان وعلى التعاطف والتراحم .
ثم توعدت السورة الكريمة من يشرك بالله ، ويخالف أوامره بالعذاب الأليم . وبينت أن الكافرين سيندمون أشد الندم على كفرهم يوم القيامة ولكن ندمهم لن ينفعهم ، لأنه جاء بعد فوات الأوان .
قال –تعالى- [ يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول ، لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا ] .
ثم شنت السورة الكريمة حملة عنيفة على اليهود الذين كانوا يجاورون المؤمنين بالمدينة ، واللذين كانوا [ يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا ] والذين كانوا ينطقون بالباطل ويشهدون الزور عن تعمد وإصرار ، وقد بينت السورة الكريمة أن حسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم هو الذي دفعهم إلى افتراء الكذب على الله –تعالى- وأنهم قد طردوا من رحمة الله بسبب كفرهم وعنادهم وإيذائهم لمحمد صلى الله عليه وسلم الذي يعرفون صدقه كما يعرفون أبناءهم .
قال –تعالى- : [ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا . أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيراً . أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا . أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ، فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما . فمنهم من آمن به ، ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا ] .
ثم بينت السورة الكريمة بعد ذلك في الربع الخامس منها : الأساس الذي يقوم عليه الحكم في الإسلام ، فذكرت أن العدل والأمانة هما الدعامتان الراسختان اللتان يقوم عليهما الحكم في الإسلام . ووجهت إلى المؤمنين نداء أمرتهم فيه بطاعة الله وطاعة رسوله وأولي الأمر منهم ، كما أمرتهم بأن يردوا كل تنازع يحصل بينهم إلى ما يقضي به كتاب الله وسنة رسوله ، لأن التحاكم إلى غيرهما لا يليق بمؤمن .
ثم أخذت السورة الكريمة في توبيخ المنافقين الذين يزعمون أنهم مؤمنون ومع ذلك [ يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ] . وأمرت النبي صلى الله عليه وسلم بزجرهم وبالإعراض عنهم ، وأخبرته بأنهم لا إيمان لهم ما داموا لم يرتضوا حكمه .
قال –تعالى- : [ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ] .
وبعد هذا التهديد والتوبيخ للمنافقين ، ساقت السورة الكريمة البشارات السارة للمؤمنين الصادقين فقالت : [ ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وحسن أولئك رفيقاً . ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما ] .
ثم انتقلت السورة الكريمة بعد ذلك إلى الحديث عن الجهاد في سبيل الله ، لأن الحق يجب أن يكون هو السائد في الأرض ولأن المؤمن لا يليق به أن يستسلم للأعداء ، بل عليه أن يجاهدهم وأن يغلظ عليهم حتى تكون كلمة الله هي العليا .
لذا نجد السورة الكريمة توجه إلى المؤمنين نداء تأمرهم فيه بالحذر وأخذ الأهبة لقتال أعدائهم ، وتحرضهم على هذا القتال للأعداء ، بأقوى ألوان التحريض وأحكمها .
فأنت تراها في الربع السادس منها تأمر المؤمنين بالقتال في سبيل الله ، وتبشر هؤلاء المقاتلين بأنهم لن يصيبهم إلا إحدى الحسنيين ، [ ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجراً عظيما ] .
وتستبعد أن يقصر المؤمنون في أداء هذا الواجب ، لأن تقصيرهم يتنافى مع إيمانهم ، [ وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله ، والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان ] وتبين لهم أن قتالهم إنما هو من أجل إعلاء كلمة الله ، وقتال أعدائهم لهم إنما هو من أجل إعلاء كلمة الطاغوت .
[ الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله ، والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت ، فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا ] .
وتضرب لهم الأمثال بسوء عاقبة الذين جبنوا عن القتال حين كتب عليهم وقالوا : [ ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب ] .
وتخبرهم بأن الموت سيدرك المقدام كما يدرك الجبان فعليهم أن يكونوا من الذين يقدمون على الموت بدون جبن أو وجل ما دام الجبن لا يؤخر الحياة كما أن الإقدام لا ينقصها .
قال –تعالى- [ أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة ] .
وهكذا تحرض السورة الكريمة المؤمنين على القتال في سبيل الله بأسمى ألوان التحريض وأشدها وأنفعها .
ثم عادت السورة الكريمة إلى تحذير المؤمنين من المنافقين الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ، والذين يعوقون أهل الحق عن قتال أعدائهم ، وأمرت النبي –صلى الله عليه وسلم- بأن يمضي هو ومن معه في طريق القتال من أجل إعلاء كلمة الله دون أن يلتفت إلى هؤلاء المنافقين ، لأنهم لا يريدون بهم إلا الشر .
قال –تعالى- : [ فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك ، وحرض المؤمنين ، عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا ، والله أشد بأسا وأشد تنكيلا ] .
ثم واصلت السورة في الربع السابع منها حديثها عن المنافقين ، فذكرت ما ينبغي أن يعاملوا به ، وكشفت عن طبائعهم الذميمة ، وأخلاقهم القبيحة ، ونهت المؤمنين عن اتخاذهم أولياء أو نصراء ، وأمرتهم أن يضيقوا عليهم ويقتلوهم إذا ما استمروا في نفاقهم وشقاقهم وارتكاسهم في الفتنة .
قال –تعالى- : [ فما لكم في المنافقين فئتين ، والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ، ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا . ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء ، فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله ، فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ، ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا ] .
ثم تحدثت السورة عن حكم القتل الخطأ . وتوعدت من يقتل مؤمنا متعمدا بغضب الله عليه ، ولعنه له ، وإنزال العذاب العظيم به .
ثم أمرت المؤمنين بأن يجعلوا قتالهم من أجل إعلاء كلمة الله ، لا من أجل المغانم والأسلاب ، وألا يقاتلوا إلا من يقاتلهم . وبشرت المجاهدين في سبيل الله بما أعده الله لهم من درجات عالية يتميزون بها عن غيرهم من القاعدين ، وتوعدت الذين يرضون الذلة لأنفسهم بسوء المصير ، وذلك لأن الحق لا تعلو رايته في الأرض إلا إذا كان أتباعه أقوياء . يأبون الذل والخضوع لغير سلطان الله –تعالى- .
قال –سبحانه- : [ إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ، قالوا فيم كنتم ؟ قالوا : كنا مستضعفين في الأرض ، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ؟ فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا . إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان ، لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا . فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم ، وكان الله عفوا غفورا ] .
ثم بشرت السورة الكريمة في مطلع الربع الثامن منها الذين يهاجرون في سبيل الله ، بالخير الوفير والأجر الجزيل فقالت .
[ ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيراً وسعة ، ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما ] .
ثم أرشدت المؤمنين إلى الطريقة التي يؤدون بها فريضة الصلاة في حال جهادهم ، لأن الصلاة فريضة محكمة لا يسقطها الجهاد ، بل هي تقوي دوافعه ، وتحسن ثماره ونتائجه .
كما أمرتهم بالإكثار من ذكر الله في كل أحوالهم ، وبمواصلة جهاد أعدائهم بدون كلل أو ملل حتى تكون كلمة الله هي العليا .
قال –تعالى- : [ فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياماً وقعودا وعلى جنوبكم ، فإذا أطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا . ولا تهنوا في ابتغاء القوم ] .
ثم بينت السورة الكريمة أن الله –تعالى- قد أنزل القرآن على نبيه صلى الله عليه وسلم لكي يحكم بين الناس بالعدل الذي أراه الله إياه ، ونهت الأمة في شخصه صلى الله عليه وسلم عن الخيانة والميل مع الهوى ووبخت المنافقين الذين " يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله ، كما وبخت الذين يدافعون عنهم أو يسيرون في ركابهم . وذكرت جانبا من مظاهر عدله –سبحانه- ، ورحمته الشاملة .
أما عدله فمن مظاهره أنه جعل الجزاء من جنس العمل [ ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه ] .
وأما شمول رحمته فمن مظاهرها أنه –سبحانه- فتح باب التوبة لعباده وأكرمهم بقبولها متى صدقوا فيها : [ ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيما ] .
ثم بينت السورة الكريمة في مطلع الربع التاسع منها أن الاستخفاء بالأقوال والأفعال عن الرسول صلى الله عليه وسلم أكثره لا خير فيه فقالت :
[ لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ] .
ثم تحدثت عن الذين يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوعدتهم بسوء المصير ، ووبختهم على جهالاتهم وضلالاتهم وسيرهم في ركاب الشيطان الذي [ يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا . أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا ] .
ثم بينت أن الله –تعالى- لا تنفع عنده الأماني والأنساب ، وإنما الذي ينفع عنده هو الإيمان والعمل الصالح .
قال –تعالى- : [ ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب ، من يعمل سوءاً يجز به ، ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيراً . ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن ، فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً ] .
ثم تحدثت السورة الكريمة عن بعض الأحكام التي تتعلق بالنساء وأمرت بالإصلاح بين الزوجين ، وبينت أن العدل التام بين النساء من كل الوجوه غير مستطاع ، فعلى الرجال أن يكونوا متوسطين في حبهم وبغضهم ، وعليهم كذلك أن يعاشروا النساء بالمعروف وأن يفارقوهن كذلك بالمعروف [ وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعاً حكيما ] .
ثم وجهت السورة الكريمة في الربع العاشر منها نداء إلى المؤمنين أمرتهم فيه بأن يلتزموا الحق في كل شئونهم ، وأن يجهروا به ولو على أنفسهم أو الوالدين والأقربين ، لأن العدالة المطلقة التي أتى بها الإسلام لا تعرف التفرقة بين الناس .
ثم بينت السورة الكريمة حقيقة النفاق والمنافقين وكررت تحذيرها للمؤمنين من شرورهم . وإن أدق وصف لهؤلاء المنافقين هو قوله –تعالى- في شأنهم : [ مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ، ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا ] .
وقد توعدهم الله بسبب نفاقهم وخداعهم بأشد ألوان العذاب فقال –سبحانه- : [ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا . إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله ، وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجراً عظيما ] .
ثم حكت السورة الكريمة في الربع الحادي عشر منها ما أدب الله به عباده ، وما أرشدهم إليه من خلق كريم وهو منع الجهر بالسوء من القول ، ولكنه –سبحانه- رخص للمظلوم أن يتكلم في شأن ظالمه بالكلام الحق . لأنه –تعالى- لا تخفى عليه خافية . قال –تعالى [ لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعاً عليماً . إن تبدو خيراً أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفواً قديراً ] .
ثم تحدثت عن بعض رذائل اليهود . وعن العقوبات التي عاقبهم الله بها بسبب ظلمهم وفسوقهم .
قال –تعالى- : [ فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيراً . وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل ، وأعتدنا للكافرين منهم عذاباً أليماً ] .
أما في الربع الثاني عشر والأخير منها فقد تحدثت السورة الكريمة عن وحدة الرسالة الإلهية وبينت أن الله _تعالى_ قد أوحى إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم كما أوحى إلى النبيين من قبله ، وأن حكمته –سبحانه- قد اقتضت أن يرسل [ رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ] .
ثم وجهت في أواخرها نداء عاما إلى الناس نأمرهم فيه بالإيمان بما جاءهم به النبي صلى الله عليه وسلم . كما وجهت نداء آخر إلى أهل الكتاب تنهاهم فيه عن السير في طريق الضلالة ، وعن الأقوال الباطلة التي قالوها في شأن عيسى ، فإن عيسى كغيره من البشر من عباد الله –تعالى- ، ولن يستنكف أن يكون عبداً لله –تعالى_ :
[ لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ، ولا الملائكة المقربون ، ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر ، فسيحشرهم إليه جميعاً ] .
وكما تحدثت السورة الكريمة في أوائلها عن بعض أحكام الأسرة ، فقد اختتمت بالحديث عن ذلك ، لكي تبين للناس أن الأسرة هي عماد المجتمع ، وهي أساسه الذي لا صلاح له إلا بصلاحها .
قال –تعالى- : [ يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ، إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك ، وهو يرثها إن لم يكن لها ولد ، فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك ، وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين . يبين الله لكم أن تضلوا ، والله بكل شيء عليم ] .
هذا عرض إجمالي لبعض المقاصد السامية ، والآداب العالية ، والتشريعات الحكيمة ، والتوجيهات القويمة التي اشتملت عليها السورة الكريمة .
ومن هذا العرض نرى أن سورة النساء –كما يقول بعض العلماء- : [ قد عالجت أحوال المسلمين فيما يتعلق بتنظيم شئونهم الداخلية ، عن طريق إصلاح الأسرة وإصلاح المال في ظل تشريع قوي عادل ، مبني على مراعاة مقتضيات الطبيعة الإنسانية ، مجرد من تحكيم الأهواء والشهوات .
وذلك إنما يكون إذا كان صادرا عن حكيم خبير بنزعات النفوس واتجاهاتها وميولها .
كما عالجت أحوالهم فيما يختص بحفظ كيانهم الخارجي ، عن طريق التشريعات والتوجيهات التي اشتملت عليها السورة الكريمة ، والتي من شأنها أن تحفظ للأمة كيانها وشخصيتها متى تمسكت بها ، وأن تجعلها قادرة على دفع الشر الذي يطرأ عليها من أعدائها .
بل إن السورة الكريمة لم تقف عند حد التنبيه على عناصر المقاومة المادية ، وإنما نبهت على ما يجب أن تحفظ به عقيدة الأمة ومبادئها من التأثر بما يلقى في شأنها من الشكوك والشبه . وفي هذا إيحاء يجب على المسلمين أن يلتفتوا إليه ، وهو أن يحتفظوا بمبادئهم كما يحتفظون بأوطانهم . وأن يحصنوا أنفسهم من شر حرب أشد خطراً ، وأبعد في النفوس أثراً من حرب السلاح المادي : تلك هي حرب التحويل من مبدأ إلى مبدأ ، ومن دين إلى دين ، مع البقاء في الأوطان والإقامة في الديار والأموال .
ألا وإن شخصية الأمة ليتطلب بقاؤها الاحتفاظ بالجانبين : جانب الوطن والسلطان . وجانب العقيدة والإيمان . وعلى هذا درج سلفنا الصالح فعاشوا في أوطانهم آمنين . وبمبادئهم وعقائدهم متمسكين " ( {[5]} ) .
وبعد : فهذا تمهيد بين يدي تفسير سورة النساء . تعرضنا خلاله لعدد آياتها . ولزمان نزولها . ولسبب تسميتها بهذا الاسم ولوجه المناسبة بينها وبين سابقتها . ولجانب من فضائلها . وللمقاصد الإجمالية التي اشتملت عليها .
ولعلنا بذلك –أخي القارئ- نكون قد قدمنا لك تعريفا لهذه السورة يعينك على تفهم أسرارها ، ومقاصدها . وتوجيهاتها قبل أن نبدأ في تفسير آياتها بالتفصيل والتحليل . .
والله نسأل أن يوفقنا جميعا لما يحبه ويرضاه وأن يجنبنا فتنة القول والعمل . وأن يجعل أعمالنا وأقوالنا ونوايانا خالصة لوجهه الكريم .
افتتحت السورة الكريمة بهذا النداء الشامل لجميع المكلفين من وقت نزولها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، وذلك لأن لفظ الناس لا يختص بقبيل دون قبيل ، ولا بقوم دون قوم ، وقد دخلته الألف واللام المفيدة للاستغراق ؛ ولأن ما في مضمون هذا النداء من إنذار وتبشير وأمر بمراقبة الله وخشيته ، يتناول جميع المكلفين لا أهل مكة وحدهم كما ذكره بعضهم ؛ لأن تخصيص قوله - تعالى - { ياأيها الناس } بأهل مكة تخصيص بغير مخصص .
والمراد بالنفس الواحدة هنا : آدم - عليه السلام - . وقد جاء الوصف وهو واحدة بالتأنيث باعتبار لفظ النفس فإنها مؤنثة .
ومن فى قوله { مِنْهَا } للتبعيض . والضمير المؤنث " ها " يعود إلى النفس الواحدة .
والمراد بقوله - تعالى - : { زَوْجَهَا } حواء ؛ فإنها أخرجت من آدم كما يقتضيه ظاهر قوله - تعالى - { مِنْهَا } .
قال الفخر الرازى ما ملخصه : " المراد من هذا الزوج هو حواء . وفى كون حواء مخلوقة من آدم قولان :
الأول : وهو الذي عليه الأكثرون : أنه لما خلق الله - تعالى - آدم ألقى عليه النوم ، ثم خلق حواء من ضلع من أضلاعه ، فلما استيقظ رآها ومال إليها وألفها ، لأنها كانت مخلوقة من جزء من أجزائه . واحتجوا عليه بقول النبى صلى الله عليه وسلم : " إن المرأة خلقت من ضلع أعوج فإن ذهبت تقيمها كسرتها وإن تركتها وفيها عوج استمتعت بها "
والقول الثانى : وهو اختيار أبى مسلم الأصفهانى : أن المراد من قوله { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } أى من جنسها . وهو كقوله - تعالى - { والله جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } وكقوله { إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } وقوله { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ } قال القاضى : والقول الأول أقوى ، لكى يصح قوله : { خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } ، إذ لو كانت حواء مخلوقة ابتداء لكان الناس مخلوقين من نفسين لا من نفس واحدة .
وقد تضمن هذا النداء لجميع المكلفين تنبيهم إلى أمرين :
أولهما : وحدة الاعتقاد بأن ربهم جميعا واحد لا شريك له . فهو الذى خلقهم وهو الذى رزقهم ، وهو الذى يميتهم وهو الذى يحييهم ، وهو الذى أوجد أبيضهم وأسودهم ، وعربيهم وأعجميهم .
وثانيهما : وحدة النوع والتكوين ، إذ الناس جميعاً على اختلاف ألسنتهم وألوانهم وأجناسهم قد انحدروا عن أصل واحد وهو آدم - عليه السلام - .
فيجب أن يشعر الجميع بفضل الله عليهم . وأن يخلصوا له العبادة والطاعة ، وأن يتعاونوا على البر والتقوى لا على الإِثم والعدوان ، وأن يوقنوا بأنه لا فضل لجنس على جنس ، ولا للون على لون إلا بمقدار حسن صلتهم بربهم وما لكهم ومدبر أمورهم .
والمعنى : يا أيها الناس اتقوا ربكم بأن تطيعوه فلا تعصوه ، وبأن تشكروه فلا تكفروه ، فهو وحده الذى أوجدكم من نفس واحدة هى نفس أبيكم آدم ، وذلك من أظهر الأدلة على كمال قدرته - سبحانه ، ومن أقوى الدواعى إلى اتقاء موجبات نقمته ، ومن أشد المقتضيات التى تحملكم على التاطف والتراحم والتعاون فيما بينكم ، إذ أنتم جميعا قد أوجدكم - سبحانه - من نفس واحدة .
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : " فإن قلت : الذى يقتضيه سداد نظم الكلام وجزالته ، أن يجاء عقيب الأمر بالتقوى بما يوجبها أو يدعو إليها ويحث عليها فكيف كان خلقه إياهم من نفس واحدة على التفصيل الذى ذكره موجبا للتقوى وداعيا إليها ؟
قلت : لأن ذلك مما يدل على القدرة العظيمة . ومن قدر على نحوه كان قادرا على كل شىء ، ولأنه يدل على النعمة السابغة عليهم ، فحقهم أن يتقوه فى كفرانها والتفريط فيما يلزمهم من القيام بشكرها . أو أراد بالتقوى تقوى خاصة ، وهى أن يتقوه فيما يتصل بحفظ الحقوق بينهم ، فلا يقطعوا ما يجب عليهم وصله فقيل : اتقوا ربكم الذى وصل بينكم ؛ حيث جعلكم صنوانا مفرعة من أرومة واحدة فيما يجب على بعضكم لبعض ، فحافظوا عليه ولا تغفلوا عنه وهذا المعنى مطابق لمعانى السورة " .
وقوله : { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } معطوف على قوله { خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } . أو معطوفة على محذوف والتقدير : خلقكم من نفس واحدة ابتدأها وخلق منها زوجها .
ثم بين - سبحانه - ما ترتب على هذا الازدواج من تناسل فقال : { وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً } .
والبث معناه : النشر والتفريق . يقال : بث الخيل فى الغارة ، أى فرقها ونشرها . ويقال : يثثت البسط إذا نشرتها . قال - تعالى - { وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ } أى منشورة .
والمعنى : ونشر وفرق من تلك النفس الواحدة وزوجها على وجه التوالد والتناسل ، رجالا كثيرا ونساء كثيرة .
والتعبير بالبث يفيد أن هؤلاء الذين توالدوا وتناسلوا عن تلك النفس وزوجها ، قد تكاثروا وانتشروا فى أقطار الأرض على اختلاف ألوانهم ولغاتهم ، وأن من الواجب عليهم مهما تباعدت ديارهم ، واختلفت ألسنتهم وأشكالهم أن يدركوا أنهم جميعا ينتمون إلى أصل واحد ، وهذا يقتضى تراحمهم وتعاطفهم فيما بينهم . وقوله { كَثِيراً } صفة لقوله { رِجَالاً } وهو صفة مؤكدة لما إفاده التنكير من معنى الكثرة . وجاء الوصف بصيغة الإِفراد ، لأن { كَثِيراً } وإن كان مفردا لفظا إلا أنه دال على معنى الجمع . واستغنى عن وصف النساء بالكثرة ، اكتفاء بوصف الرجال بذلك ، ولأن الفعل { وَبَثَّ } يقضى الكثرة والانتشار .
وقال الفخر الرازى : خصص وصف الكثرة بالرجال دون النساء ، لأن شهرة الرجال أتم ، فكانت كثرتهم أظهر ، فلا جرم خصوا بوصف الكثرة . وهذا كالتنبيه على أن اللائق بحال الرجال الاشتهار والخروج البروز . واللائق بحال النساء الاختفاء والخمول " .
وقوله : { واتقوا الله الذي تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام } تكرير للأمر بالتقوى لتربية المهابة فى النفس وتذكير ببعض آخر من الأمور الموجبة لخشية الله وامتثال أوامره .
وقوله { تَسَآءَلُونَ } أصلها تتساءلون فطرحت إحدى التاءين تخفيفا . وهى قراءة عصام وحمزة الكسائى .
وقرأ الباقون " تساءلون " بالتشديد بإدغام تاء التفاعل فى السينه لتقاربهما فى الهمس . والأرحام : جمع رحم وهى القرابة . مشتقة من الرحمة ، لأن ذوى القرابة من شأنهم أن يتراحموا ويعطف بعضهم على بعض .
وكلمة { والأرحام } قرأها الجمهور بالنصب عطفا على اسم الله تعالى .
والمعنى ؛ واتقوا الله الذى يسأل بعضكم بعضا به ، بأن يقول له على سبيل الاستعطاف : أسألك بالله أن تفعل كذا ، أو أن تترك كذا . واتقوا الأرحام أن تقطعوها فلا تصلوها بالبر والإِحسان ، فإن قطيعتها وعدم صلتها مما يجب أن يتقى ويبعد عنه ، وإنما الذى يجب أن يفعل هو صلتها وبرها .
وقرأها حمزة بالجر عطفا على الضمير المجرور فى ( به ) . أى : اتقوا الله الذى تساءلون به وبالأرحام بأن يقول بعضكم لبعض مستعطفا أسألك بالله وبالرحم أن تفعل كذا .
وقد كان من عادة العرب أن يقرنوا الأرحام بالله تعالى - فى المناشدة والسؤال فيقولون : اسألك بالله وبالرحم .
ولم يرتض كثير من النحويين هذه القراءة من حمزة ، وقالوا : إنها تخالف القواعد النحوية التى تقول : إن عطف الاسم الظاهر على الضمير المجرور المتصل بدون إعادة الجار لا يصح ، لأن الضمير المجرور المتصل بمنزلة الحرف ، والحرف لا يصح عطف الاسم الظاهر عليه ، ولأن الضمير المجرور كبعض الكلمة لشدة اتصاله بها ، وكما أنه لا يجوز أن يعطف على بعض الكلمة فكذلك لا يجوز أن يعطف عليه . إلى غير ذلك مما قالوه فى تضعيف هذه القراءة . وقد دافع كثير من المفسرين عن هذه القراءة التى قرأها حمزة . وأنكروا على النحويين تشنيعهم عليه .
ومما قاله القرطبى فى دفاعه عن صحة هذه القراءة : ومثل هذا الكلام - أى من النحويين - مردود عند أئمة الدين ، لأن القراءات التى قرأ بها أئمة القراء ثبتت عن النبى صلى الله عليه وسلم تواترا يعرفه أهل الصنعة ، وإذا ثبت شىء عن النبى صلى الله عليه وسلم فمن رد ذلك فقد رد على النبى صلى الله عليه وسلم واسقبح ما قرأ به .
وهذا مقام محذور ، ولا يقلد فيه أئمة اللغة والنحو ، فإن العربية تتلقى من النبى صلى الله عليه وسلم ولا يشك أحد فى فصاحته .
ثم قال : والكوفى يجيز عطف الظاهر على الضمير المجرور ولا يمنع منه ، ومنه قولهم :
ومما قاله الفخر الرازى فى ذلك : واعلم أن هذه الوجوه - أى التى احتج بها النحويون في تضعيف قراءة حمزة - ليست وجوها قوية فى رفع الروايات الواردة فى اللغات ؛ وذلك لأن حمزة أحد القراء السبعة ، ولم يأت بهذه القراءة من عند نفسه ، بل رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك يوجب القطع بصحة هذه اللغة ، والقياس يتضاءل عند سماع لا سيما بمثل هذه الأقيسة التى هى أوهن من بيت العنكبوت .
أحدهما : أنها على تقدير تكرير الجار . كأنه قيل : تساءلون به وبالأرحام .
وثانيهما : أنه ورد ذلك فى الشعر ومنه :
نعلق فى مثل السوارى سيوفنا . . . وما بينها والكعب غوط نفائف
ثم قال : والعجب من هؤلاء النحاة أنهم يستحسنون إثبات هذه اللغة بمثل هذه الأبيات المجهولة ، ولا يستحسنوا إثباتها بقراءة حمزة ومجاهد ، مع أنهما كانا من أكابر علماء السلف فى علم القرآن " .
هذا ، وهناك قراءة بالرفع . قال الآلوسى : وقرأ ابن زيد { والأرحام } بالرفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر . أى والأرحام كذلك أى مما يتقى لقرينه { واتقوا } . أو مما يتساءل به لقرينة { تَسَآءَلُونَ } .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بما يحمل العقلاء على المبالغة فى تقوى الله ، وفى صلة الرحم فقال - تعالى : { إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } . أى حافظا يحصى عليكم كل شىء . من رقبه إذا حفظه .
أو مطلعا على جميع أحوالكم وأعمالكم ، ومنه المرقب للمكان العالى الذى يشرف منه الرقيب ليطلع على ما دونه .
وقد أكد - سبحانه - رقابته على خلقه ، واطلاعه على جميع أحوالهم بأوثق المؤكدات . فقد أكد - سبحانه - الجملة الكريمة بإن ، وبتكرار لفظ الجلالة التى يبعث فى النفوس كل معانى الخشية والعبودية له ، وبالتعبير بكان الدالة على الدوام والاستمرار ، وبذكر الفوقية التى يدل عليها لفظ { عَلَيْكُمْ } إذ هو يفيد معنى الاطلاع الدائم مع السيطرة والقهر ، وبالإِتيان بصيغة المبالغة وهى قوله : { رَقِيباً } أى شديد المراقبة لجميع أقوالكم وأعمالكم فهو يراها ويعلمها وسيحاسبكم عليها يوم القيامة
وقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة : وجوب مراقبته - سبحانه - وخشيته وإخلاص العبادة له ، لأنه هو الذى أوجدهم من نفس واحدة ، وهو الذى أوجد من هذه النفس الموحدة زوجها ، وهو الذى أوجد منها عن طريق التناسل الذكور والإِناث الذين يملؤون أقطار الأرض على اختلاف صفاتهم وألوانهم ولغاتهم ، وهو الذى لا تخفى عليه خافية من أحوالهم ، بل هو مطلع عليهم وسيحاسبهم على أعمالهم يوم الدين ، ومن كان كذلك فمن حقه أن يتقى ويخضى ويطاع ولا يعصى .
كما أخذوا منها جواز المسألة بالله - تعالى - لأنه - سبحانه - قد أقرهم على هذا التساؤل ؛ لكونهم يعتقدون عظمته وقدرته .
وقد ورد فى هذا الباب أحاديث متعددة منها ما أخرجه الإِمام أحمد وأبو داود والنسائى وابن حبان عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من استعاذ بالله فأعيذه ، ومن سألكم بالله فأعطوه ، ومن دعاكم فأجيبوه . ومن أسدى إليكم معروفا فكافئوه ، فإن لم تجدوا ما تكافئون به فادعوا له حتى تعلموا أن قد كافأتموه " .
نعم من أداه التساؤل باسمه - تعالى - إلى التساهل فى شأنه ، وجعله عرضة لعدم إجلاله ، فإنه يكون محظورا قطعا . وعليه يحمل ما ورد من أحاديث تصرح بلعن من سأل بوجه الله . ومنها ما رواه الطبرانى عن أبى موسى الأشعرى مرفوعا : ملعون من سأل بوجه الله . وملعون من سئل بوجه الله ثم منع سائله ما لم يسأل هجراً . أى ما لم يسأل أمرا قبيحا لا يليق .
كما أخذوا منها أيضا وجوب صلة الرحم ، فقد جعل - سبحانه - الإِحسان إلى الآباء وإلى الأقارب فى المنزلتين الثانية والثالثة بعد الأمر بعبادته فقال : { واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وبالوالدين إِحْسَاناً وَبِذِي القربى واليتامى والمساكين } ومن الأحاديث التى وردت فى وجوب صلة الرحم ما رواه البخارى عن أبى هريرة قال : " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من سره أن يبسط له فى رزقه ، وأن ينسأ له فى أجله ، فليصل رحمه "
وأخرج الإِمام مسلم فى صحيحه عن عائشة - رضى الله عنها - عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " الرحم مغلفة بالعرش . تقول : من وصلنى وصله الله ، ومن قطعنى قطعه الله "
وأخرج البخارى عن عبد الله بن عمرو عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ليس الواصل بالمكافىء "
ولكن الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها .
إلى غير ذلك من الأحاديث التى وردت فى الترغيب فى صلة الرحم والترهيب من قطيعتها .
سميت هذه السورة في كلام السلف سورة النساء ؛ ففي صحيح البخاري عن عائشة قالت : ما نزلت سورة البقرة وسورة النساء إلا وأنا عنده . وكذلك سميت في المصاحف وفي كتب السنة وكتب التفسير ، ولا يعرف لها اسم آخر ، لكن يؤخذ مما روي في صحيحي البخاري عن ابن مسعود من قوله : > يعني سورة الطلاق أنها شاركت هذه السورة في التسمية الطولى ، ولم أقف عيه صريحا . ووقع في كتاب بصائر ذوي خبرة التمييز للفيروز أبادي أن هذه السورة تسمى سورة النساء الكبرى ، واسم سورة الطلاق سورة النساء الصغرى . ولم أره لغيره{[1]} .
ووجه تسميتها بإضافة إلى النساء أنها افتتحت بأحكام صلة الرحم ، ثم بأحكام تخص النساء ، وأن بها أحكاما كثيرة من أحكام النساء : الأزواج ، والبنات ، وختمت بأحكام تخص النساء .
وكان ابتداء نزولها بالمدينة ، لما صح عن عائشة أنها قالت : ما نزلت سورة البقرة وسورة النساء إلا وأنا عنده . وقد علم أن النبي صلى الله عليه وسلم بنى بعائشة في المدينة في شوال ، لثمان أشهر خلت من الهجرة ، واتفق العلماء على أن سورة النساء نزلت بعد البقرة ، فتعين أن يكون نزولها متأخرا عن الهجرة بمدة طويلة . والجمهور قالوا : نزلت بعد آل عمران ، ومعلوم أن آل عمران نزلت في خلال ثلاث أي بعد أحد ، فيتعين أن تكون سورة النساء نزلت بعدها . وعن ابن عباس : أن أول ما نزل بالمدينة سورة البقرة ، ثم الأنفال ثم آل عمران ، ثم سورة الاحزاب ، ثم الممتحنة ، ثم النساء ، فإذا كان كذلك تكون سورة النساء نازلة بعد الأحزاب التي هي في أواخر سنة أربع أو أول سنة خمس من الهجرة ، وبعد صلح الحديبية الذي هو في سنة ست حيث تضمنت سورة الممتحنة شرط إرجاع من يأتي المشركين هاربا إلى المسلمين عدا النساء ، وهي آية { إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات } الآية . وقد قيل : إن آية { وآتوا اليتامى أموالهم } نزلت في رجل من غطفان له ابن أخ له يتيم ، وغطفان أسلموا بعد وقعة الأحزاب ، إذ هم من جملة الاحزاب ، أي بعد سنة خمس . ومن العلماء من قال : نزلت سورة النساء عند الهجرة . وهو بعيد . وأغرب منه من قال : إنها نزلت بمكة لأنها افتتحت بـ{ يا أيها الناس } ، وما كان { يا أيها الناس } فهو مكي ، ولعله يعني أنها نزلت بمكة أيام الفتح لا قبل الهجرة لأنهم يطلقون المكي بإطلاقين . وقال بعضهم : نزل صدرها بمكة وسائرها بالمدينة . والحق أن الخطاب ب{ يا أيها الناس } لا يدل إلا على إرادة دخول أهل مكة في الخطاب ، ولا يلزم أن يكون ذلك بمكة ، ولا قبل الهجرة ، فإن كثيرا مما فيه { يا أيها الناس } مدني بالاتفاق . ولا شك في أنها نزلت بعد آل عمران لأن في سورة النساء من تفاصيل الأحكام ما شأنه أن يكون بعد استقرار المسلمين بالمدينة ، وانتظام أحواله وأمنهم من أعدائهم . وفيها آية التيمم ، والتيمم شرع يوم غزوة المريسيع سنة خمس ، وقيل : سنة ست . فالذي يظهر أن نزول سورة النساء كان في حدود سنة سبع وطالت مدة نزولها ، ويؤيد ذلك أن كثيرا من الأحكام التي جاءت فيها مفصلة تقدمت مجملة في سورة البقرة من أحكام الأيتام والنساء والمواريث ، فمعظم ما في سورة النساء شرائع تفصيلية في معظم نواحي حياة المسلمين الاجتماعية من نظم الموال والمعاشرة والحكم وغير ذلك ، على أنه قد قيل : إن آخر آية منها ، آية الكلالة ، هي آخر آية نزلت من القرآن ، على أنه يجوز أن يكون بين نزول سائر سورة النساء وبين نزول آية الكلالة ، التي في آخرها مدة طويلة ، وأنه لما نزلت آية الكلالة الأخيرة أمروا بإلحاقها بسورة النساء التي فيها الآية الأولى . ووردت في السنة تسمية آية الكلالة الأولى آية الشتاء ، وآية الكلالة الأخيرة آية الصيف . ويتعين ابتداء نزولها قبل فتح مكة لقوله تعالى { وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها } يعني مكة . وفيها آية { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } نزلت يوم فتح مكة في قصة عثمان بن طلحة الشيبي ، صاحب مفتاح الكعبة ، وليس فيها جدال مع المشركين سوى تحقير دينهم ، نحو قوله { ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما فقد ضل ضلالا بعيدا } الخ ، وسوى التهديد بالقتال ، وقطع معذرة المتقاعدين عن الهجرة . وتوهين بأسهم عن المسلمين ، مما يدل على أن أمر المشركين قد صار إلى وهن ، وصار المسلمون في قوة عليهم ، وأن معظمها ، بعد التشريع ، جدال كثير مع اليهود وتشويه لأحوال المنافقين ، وجدال مع النصارى ليس بكثير ، ولكنه أوسع مما في سورة آل عمران ، مما يدل على أن مخاطبة المسلمين للنصارى أخذت تظهر بسبب تفشي الإسلام في تخوم الحجاز الشامية لفتح معظم الحجاز وتهامة .
وقد عدت الثالثة والتسعين من السور ، نزلت بعد سورة الممتحنة وقبل سورة { إذا زلزلت الأرض } .
وعدد آيها مائة وخمس وسبعون في عدد أهل المدينة ومكة والبصرة ، ومائة وست وسبعون في عدد أهل الكوفة ، ومائة وسبع وسبعون في عدد أهل الشام .
وقد اشتملت على أغراض وأحكام كثيرة أكثرها تشريع معاملات الأقرباء وحقوقهم ، فكانت فاتحتها مناسبة لذلك بالتذكير بنعمة خلق الله ، وأهم محقوقون بأن يشكروا ربهم على ذلك ، وأن يراعوا حقوق النوع الذي خلقوا منه ، بأن يصلوا أرحامهم القريبة والبعيدة ، وبالرفق بضعفاء النوع من اليتامى ، ويراعوا حقوق صنف النساء من نوعهم بإقامة العدل في معاملاتهن ، والإشارة إلى النكاح والصداق ، وشرع قوانين المعاملة مع النساء في حالتي الاستقامة والانحراف من كلا الزوجين ، ومعاشرتهن والمصالحة معهن ، وبيان ما يحل للتزوج منهن ، والمحرمات بالقرابة أو الصهر ، وأحكام الجواري بملك اليمين . وكذلك حقوق مصير المال إلى القرابة ، وتقسيم ذلك ، وحقوق حفظ اليتامى في أموالهم وحفظها لهم والوصاية عليهم .
ثم أحكام المعاملات بين جماعة المسلمين في الأموال والدماء وأحكام القتل عمدا وخطأ ، وتأصيل الحكم الشرعي بين المسلمين في الحقوق والدفاع عن المعتدى عليه ، والأمر بإقامة العدل بدون مصانعة ، والتحذير من اتباع الهوى ، والأمر بالبر ، والمواساة ، وأداء الأمانات ، والتمهيد لتحريم شرب الخمر .
وطائفة من أحكام الصلاة ، والطهارة ، وصلاة الخوف . ثم أحوال اليهود ، لكثرتهم بالمدينة ، وأحوال المنافقين وفضائحهم ، وأحكام الجهاد لدفع شوكة المشركين . وأحكام معاملة المشركين ومساويهم ، ووجوب هجرة المؤمنين من مكة ، وإبطال مآثر الجاهلية .
وقد تخلل ذلك مواعظ وترغيب ، ونهي عن الحسد ، وعن تمني ما للغير من المزايا التي حرم منها من حرم بحكم الشرع ، أو بحكم الفطرة . والترغيب في التوسط في الخير والإصلاح . وبث المحبة بين المسلمين .
{ ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذى خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ واحدة وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً } .
جاء الخطاب بيأيُّها الناس : ليشمل جميع أمّة الدعوة الذين يسمعون القرآن يومئذ وفيما يأتي من الزمان . فضمير الخطاب في قوله : { خلقكم } عائد إلى الناس المخاطبين بالقرآن ، أي لئلاّ يختصّ بالمؤمنين ، إذ غير المؤمنين حينئذ هم كفّار العرب وهم الذين تلقّوا دعوة الإسلام قبل جميع البشر لأنّ الخطاب جاء بلغتهم ، وهم المأمورون بالتبليغ لبقية الأمم ، وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتبه للروم وفارس ومصر بالعربية لتترجم لهم بلغاتهم . فلمَّا كان ما بعد هذا النداء جامعاً لما يؤمر به الناس بين مؤمن وكافر ، نودي جميع الناس ، فدعاهم الله إلى التذكّر بأنّ أصلهم واحد ، إذ قال : { اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة } دعوة تظهر فيها المناسبة بين وحدة النوع ووحدة الاعتقاد ، فالمقصود من التقوى في { اتّقوا ربّكم } اتّقاء غضبه ، ومراعاة حقوقه ، وذلك حقّ توحيده والاعتراف له بصفات الكمال ، وتنزيهه عن الشركاء في الوجود والأفعال والصفات .
وفي هذه الصلة براعة استهلال مناسبة لما اشتملت عليه السورة من الأغراض الأصلية ، فكانت بمنزلة الديباجة .
وعبّر ب ( ربّكم ) ، دون الاسم العلم ، لأنّ في معنى الربّ ما يبعث العباد على الحرص في الإيمان بوحدانيته ، إذ الربّ هو المالك الذي يربّ مملوكه أي ، يدبّر شؤونه ، وليتأتّى بذكر لفظ ( الربّ ) طريق الإضافة الدالّة على أنّهم محقوقون بتقواه حقّ التقوى ، والدالّة على أنّ بين الربّ والمخاطبين صلة تعدّ إضاعتها حماقة وضلالاً . وأمّا التقوى في قوله : { واتقوا اللَّه الذي تساءلون به والأرحام } فالمقصد الأهمّ منها : تقوى المؤمنين بالحذر من التساهل في حقوق الأرحام واليتامى من النساء والرجال . ثم جاء باسم الموصول { الذي خلقكم } للإيماء إلى وجه بناء الخبر لأنّ الذي خلق الإنسان حقيق بأن يتّقى .
ووَصْل { خلقكم } بصلة { من نفس واحدة } إدماج للتنبيه على عجيب هذا الخلق وحقّه بالاعتبار . وفي الآية تلويح للمشركين بأحقّيّة اتّباعهم دعوة الإسلام ، لأنّ الناس أبناء أب واحد ، وهذا الدين يدعو الناس كلّهم إلى متابعته ولم يخصّ أمّة من الأمم أو نسباً من الأنساب ، فهو جدير بأن يكون دين جميع البشر ، بخلاف بقية الشرائع فهي مصرّحة باختصاصها بأمم معيّنة . وفي الآية تعريض للمشركين بأنّ أولى الناس بأن يتّبعوه هو محمد صلى الله عليه وسلم لأنّه من ذوي رحمهم . وفي الآية تمهيد لما سَيُبَيَّنُ في هذه السورة من الأحكام المرتّبة على النسب والقرابة .
والنفس الواحدة : هي آدم . والزوج : حوّاء ، فإنّ حوّاء أخرجت من آدم . من ضلعه ، كما يقتضيه ظاهر قوله : { منها } .
و ( مِن ) تبعيضية . ومعنى التبعيض أنّ حوّاء خلقت من جزء من آدم .
قيل : من بقية الطينة التي خلق منها آدم . وقيل : فصلت قطعة من ضلعه وهو ظاهر الحديث الوارد في « الصحيحين » .
ومن قال : إنّ المعنى وخلق زوجها من نوعها لم يأت بطائل ، لأنّ ذلك لا يختصّ بنوع الإنسان فإنّ أنثى كلّ نوع هي من نوعه .
وعُطف قوله : { وخلق منها زوجها } على { خلقكم من نفس واحدة } ، فهو صلة ثانية . وقوله : { وبث منهما } صلة ثالثة لأنّ الذي يخلق هذا الخلق العجيب جدير بأن يتّقى ، ولأنّ في معاني هذه الصلات زيادة تحقيق اتّصال الناس بعضهم ببعض ، إذ الكلّ من أصل واحد ، وإن كان خَلْقهم ما حصل إلاّ من زوجين فكلّ أصل من أصولهم ينتمي إلى أصل فوقه .
وقد حصل من ذكر هذه الصلات تفصيل لكيفية خلق الله الناس من نفس واحدة . وجاء الكلام على هذا النظم توفية بمقتضى الحال الداعي للإتيان باسم الموصول ، ومقتضى الحال الداعي لتفصيل حالة الخلق العجيب . ولو غير هذا الأسلوب فجيء بالصورة المفصّلة دون سبق إجمال ، فقيل : الذي خلقكم من نفس واحدة وبثّ منها رجالاً كثيراً ونساء لفاتت الإشارة إلى الحالة العجيبة . وقد ورد في الحديث : أنّ حواء خلقت من ضلع آدم ، فلذلك يكون حرف ( مِن ) في قوله : { وخلق منها } للابتداء ، أي أخرج خلق حواء من ضلع آدم . والزوج هنا أريد به الأنثى الأولى التي تناسل منها البشر ، وهي حوّاء . وأطلق عليها اسمُ الزوج لأنّ الرجل يكون منفرداً فإذا اتّخذ امرأة فقد صارا زوجاً في بيت ، فكلّ واحد منهما زوج للآخر بهذا الاعتبار ، وإن كان أصل لفظ الزوج أن يطلق على مجموع الفردين ، فإطلاق الزوج على كلّ واحد من الرجل والمرأة المتعاقدين تسامح صار حقيقة عرفية ، ولذلك استوى فيه الرجل والمرأة لأنّه من الوصف بالجامد ، فلا يقال للمرأة ( زوجة ) ، ولم يسمع في فصيح الكلام ، ولذلك عدّه بعض أهل اللغة لحناً . وكان الأصمعي ينكره أشد الإنكار قيل له : فقد قال ذو الرمّة :
أذو زوجة بالمصِر أمْ ذو خصومة *** أراك لها بالبصرة العام ثاويا
فقال : إنّ ذا الرّمة طالما أكل المالح والبقْل في حوانيت البقّالين ، يريد أنّه مولّد .
وإنّ الذي يسعى ليفسد زوجتي *** كساع إلى أسد الشرى يستبيلها
وشاع ذلك في كلام الفقهاء ، قصدوا به التفرقة بين الرجل والمرأة عند ذكر الأحكام ، وهي تفرقة حسنة . وتقدّم عند قوله تعالى : { وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة } في سورة البقرة ( 35 ) .
وقد شمل { وخلق منها زوجها } العبرة بهذا الخلق العجيب الذي أصله واحد ، ويخرج هو مختلف الشكل والخصائص ، والمنّة على الذكران بخلق النساء لهم ، والمنّة على النساء بخلق الرجال لهنّ ، ثم منّ على النوع بنعمة النسل في قوله : { وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء } مع ما في ذلك من الاعتبار بهذا التكوين العجيب .
والبثّ : النشر والتفريق للأشياء الكثيرة قال تعالى : { يوم يكون الناس كالفراش المبثوب } [ القارعة : 4 ] .
ووصف الرجال ، وهو جمع ، بكثير ، وهو مفرد ، لأنّ كثير يستوي فيه المفرد والجمع ، وقد تقدّم في قوله تعالى : { وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير } في سورة آل عمران ( 146 ) . واستغنى عن وصف النساء بكثير لدلالة وصف الرجل به ما يقتضيه فعل البث من الكثرة .
{ واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا }
شروع في التشريع المقصود من السورة ، وأعيد فعل { اتّقوا } : لأنّ هذه التقوى مأمور بها المسلمون خاصّة ، فإنّهم قد بقيت فيهم بقية من عوائد الجاهلية لا يشعرون بها ، وهي التساهل في حقوق الأرحام والأيتام .
واستحضر اسم الله العلم هنا دون ضمير يعود إلى ربّكم لإدخال الرّوع في ضمائر السامعين . لأنّ المقام مقام تشريع يناسبه إيثار المهابة بخلاف مقام قوله : { اتقوا ربكم } فهو مقام ترغيب . ومعنى { تسَّاءلون به } يَسْأل بعضكم بعضاً به في القسم فالمسايلة به تؤذن بمنتهى العظمة ، فكيف لا تتّقونه .
وقرأ الجمهور { تسَّاءلون } بتشديد السين لإدغام التاء الثانية ، وهي تاء التفاعل في السين ، لقرب المخرج واتّحاد الصفة ، وهي الهمس . وقرأ حمزة ، وعاصم ، والكسائي ، وخلف : تساءلون بتخفيف السين على أنّ تاء الافتعال حذفت تخفيفاً .
{ والأرحام } قرأه الجمهور بالنصب عطفاً على اسم الله . وقرأه حمزة بالجرّ عطفاً على الضمير المجرور . فعلى قراءة الجمهور يكون الأرحام مأموراً بتقواها على المعنى المصدري أي اتّقائها ، وهو على حذف مضاف ، أي اتّقاء حقوقها ، فهو من استعمال المشترك في معنييه ، وعلى هذه القراءة فالآية ابتداء تشريع وهو ممّا أشار إليه قوله تعالى : { وخلق منها زوجها } وعلى قراءة حمزة يكون تعظيماً لشأن الأرحام أي التي يسأل بعضكم بعضاً بها ، وذلك قول العرب : « ناشدتك اللَّه والرحم » كما روى في « الصحيح » : أنّ النبي صلى الله عليه وسلم حين قرأ على عتبة بن ربيعة سورة فصّلت حتّى بلغ : { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود } [ فصلت : 13 ] فأخذت عتبة رهبة وقال : ناشدتك اللَّه والرحم . وهو ظاهر محمل هذه الرواية وإن أباه جمهور النحاة استعظاماً لعطف الاسم على الضمير المجرور بدون إعادة الجارّ ، حتّى قال المبرّد : « لو قرأ الإمام بهاته القراءة لأخذت نعلي وخرجت من الصلاة » وهذا من ضيق العطن وغرور بأنّ العربية منحصرة فيما يعلمه ، ولقد أصاب ابن مالك في تجويزه العطف على المجرور بدون إعادة الجارّ ، فتكون تعريضاً بعوائد الجاهلية ، إذ يتساءلون بينهم بالرحم وأواصر القرابة ثم يهملون حقوقها ولا يصلونها ، ويعتدون على الأيتام من إخوتهم وأبناء أعمامهم ، فناقضت أفعالُهم أقوالَهم ، وأيضاً هم قد آذوا النبي صلى الله عليه وسلم وظلموه ، وهو من ذوي رحمهم وأحقّ الناس بصلتهم كما قال تعالى : { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } [ التوبة : 128 ] وقال : { لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم } [ آل عمران : 164 ] . وقال : { قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى } [ الشورى : 23 ] . وعلى قراءة حمزة يكون معنى الآية تتمّة لمعنى التي قبلها .