التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَهُمۡ يَنۡهَوۡنَ عَنۡهُ وَيَنۡـَٔوۡنَ عَنۡهُۖ وَإِن يُهۡلِكُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ} (26)

ثم بين - سبحانه - أنهم لا يكتفون بمحاربة الدعوة الإسلامية ، بل هم لفجورهم - يحرضون غيرهم على محاربتها معهم فقال - تعالى - :

{ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } .

النهى : الزجر ، والنأى : البعد ، والضمير " هم " يعود على المشركين .

والمعنى : إن هؤلاء المشركين لا يكتفون بمحاربة الحق ، بل يزجرون الناس عن اتباعه ، ويبعدونهم عن الاستماع إليه . فهم قد جمعوا بين فعلين قبيحين : محاربتهم للحق وحمل غيرهم معهم على محاربته والبعد عنه .

وهم بهذا العمل الباطل القبيح ما يهلكون إلا أنفسهم ولكنهم لا يشعرون بذلك لانطماس بصيرتهم ، وقسوة قلوبهم .

وعملهم هذا يدل على أنهم كانوا معترفين فى قرارة أنفسهم بأن القرآن حق ، لأنهم لو كانوا يعتقدون أنه أساطير الأولين - كما زعموا - لتركوا الناس يسمعونها ليتأكدوا من أنها خرافات وأوهام ، ولكنهم لما كانوا مؤمنين ببلاغة القرآن وصدقه ، فإنهم نهوا غيرهم عن سماعه حتى لا يؤمن به وابتعدوا هم عنه حتى لا يتأثروا به فيدخلوا فى دين الإسلام ، ولقد حكى الله عنهم هذا المعنى فى قوله - تعالى -

{ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } والضمير فى قوله - تعالى - { عَنْهُ } يرجع إلى النبى صلى الله عليه وسلم وما جاء به من آيات .

ويرى بعض المفسرين أن الضمير " هم " يرجع إلى عشيرة النبى صلى الله عليه وسلم فيكون المعنى : وهم - أى أعمام النبى صلى الله عليه وسلم وعشيرته ينهون الناس عن إيذائه والتعرض له بسوء ، ولكنهم فى الوقت نفسه ينأون عنه أى يبتعدون عن دعوته فلا يؤمنون بها ، ولعل أوضح مثل لذلك أبو طالب ، فقد كان يدافع عن النبى صلى الله عليه وسلم إلا أنه لم يدخل فى الإسلام مع تصريحه بأنه هو الدين الحق .

ومما روى عنه فى هذا المعنى قوله :

والله لن يصلوا إليك بجمعهم . . . حتى أوسد فى التراب دفيناً

فاصدع بأمرك ما عليك غضاضه . . . وابشر بذاك وقر منك عيوناً

ودعوتنى وزعمت أنك ناصحى . . . فلقد صدقت وكنت قبل أميناً

وعرضت ديناً قد عرفت بأنه . . . من خير أديان البرية ديناً

لولا الملامة أو حذار مسبة . . . لوجدتنى سمحاً بذاك يقيناً

والذى تطمئن إليه النفس أن الرأى الأول هو الأرجح . لأن الكلام مسوق فى بيان موقف المشركين من النبى صلى الله عليه وسلم ، وأنهم قد بلغ بهم السفه والعناد أنهم لا يكتفون بالإعراض عن الحق الذى جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بل تعدى شرهم إلى غيرهم ، وأنهم كانوا يحرضون الناس على إيذائه وعلى الابتعاد عنه .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَهُمۡ يَنۡهَوۡنَ عَنۡهُ وَيَنۡـَٔوۡنَ عَنۡهُۖ وَإِن يُهۡلِكُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ} (26)

عطف على جملة { ومنهم من يستمع إليك } ، والضميران المجروران عائدان إلى القرآن المشار إليه باسم الإشارة في قولهم : { إن هذا إلاّ أساطير الأولين } [ الأنعام : 25 ] . ومعنى النهي عنه النهي عن استماعه . فهو من تعليق الحكم بالذات . والمراد حالة من أحوالها يعيّنها المقام . وكذلك الناي عنه معناه النأي عن استماعه ، أي هم ينهون الناس عن استماعه ويتباعدون عن استماعه . قال النابغة :

لقد نَهَيتُ بني ذبيانَ عن أُقُر *** وعن تربّعهم في كلّ أصفار

يعني نهيتهم عن الرعي في ذي أقر ، وهو حمى الملك النعمان بن الحارث الغسّاني .

وبين قوله : { ينهون وينأون } الجناس القريب من التمام .

والقصر في قوله : { وإنْ يهْلِكُون إلاّ أنْفسهم } قصر إضافي يفيد قلب اعتقادهم لأنّهم يظنّون بالنهي والنأي عن القرآن أنّهم يضرّون النبي صلى الله عليه وسلم لئلاّ يتّبعوه ولا يتّبعه الناس ، وهم إنّما يُهلكون أنفسهم بدوامهم على الضلال وبتضليل الناس ، فيحملون أوزارهم وأوزار الناس ، وفي هذه الجملة تسلية للرسول عليه الصلاة والسلام وأنّ ما أرادوا به نكايته إنّما يضرّون به أنفسهم .

وأصل الهلاك الموت . ويطلق على المضرّة الشديدة لأنّ الشائع بين الناس أنّ الموت أشدّ الضرّ . فالمراد بالهلاك هنا ما يلقونه في الدنيا من القتل والمذلّة عند نصر الإسلام وفي الآخرة من العذاب .

والنأي : البعد . وهو قاصر لا يتعدّى إلى مفعول إلاّ بحرف جرّ ، وما ورد متعدّياً بنفسه فذلك على طريق الحذف والإيصال في الضرورة .

وعقّب قوله : { وإن يهلكون إلاّ أنفسهم } بقوله : { وما يشعرون } زيادة في تحقيق الخطأ في اعتقادهم ، وإظهاراً لضعف عقولهم مع أنّهم كانوا يعدّون أنفسهم قادة للناس ، ولذلك فالوجه أن تكون الواو في قوله : { وما يشعرون } للعطف لا للحال ليفيد ذلك كون ما بعدها مقصوداً به الإخبار المستقلّ لأنّ الناس يعُدّونهم أعظم عقلائهم .