وبعد أن أمر - سبحانه - المؤمنين بأن يعاملوا الناس على حسب ظواهرهم ونهاهم عند جهادهم عن التعجل فى القتل . أتبع ذلك ببيان فضل المجاهدين المخلصين فقال - تعالى - { لاَّ يَسْتَوِي . . . . غَفُوراً رَّحِيماً } .
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ( 95 ) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ( 96 )
قال الآلوسى : قوله - تعالى - { لاَّ يَسْتَوِي القاعدون } . شروع فى الحث على الجهاد ليأنفوا عن تركه ، وليرغبوا عما يوجب خللا فيه . والمراد بالقاعدين : الذين أذن لهم فى القعود عن الجهاد اكتفاء بغيرهم . وروى البخارى عن ابن عباس : هم القاعدون عن بدر وهو الظاهر الموافق للتاريخ على ما قيل . وقال أبو حمزة : إنهم المتخلفون عن تبوك . وروى أن الآية نزلت فى كعب بن مالك من بنى سلمة ومرارة بن الربيع من بنى عمرو بن عوف . وهلال بن أمية من بنى واقف حين تخلفوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم فى تلك الغزوة .
وقوله { غَيْرُ أُوْلِي الضرر } جملة معترضة جئ بها لبيان أنهم غير مقصودين بعدم المساواة مع المجاهدين فى الأجر .
والضرر : مصد ضرِر مثل مرض . وهذه الزنة تجئ - غالبا - فى العاهات ونحوها ، مثل عمى وحصر وعرج ورِمد .
والمراد بقوله { غَيْرُ أُوْلِي الضرر } أى : غير أصحاب العلل والأمراض التى تحول بينهم وبين الجهاد فى سبيل الله من عمى أو عرج أو ضعف أو غير ذلك من الأعذار .
وقد روى المفسريون فى سبب نزول قوله - تعالى - { غَيْرُ أُوْلِي الضرر } روايات منها ما أخرجه البخارى عن البراء قال : لما نزلت { لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين } . دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا فكتبها جاء ابن أم مكتوب فشكا ضرارته . فأنزل الله : { غَيْرُ أُوْلِي الضرر } .
وقال القرطبى : روى الأئمة - واللفظ لأبى داود عن زيد بن ثابت قال : كنت إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فغشيته السكينة فوقعت فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذى فما وجدت ثقل شئ أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم سرى عنه فقال : " أكتب " فكتبت فى كتف - أى فى عظم عريض كانوا يكتبون فيه لقلة القراطيس عندهم - { لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِي الضرر والمجاهدون فِي سَبِيلِ الله } . . . . الآية .
فقام ابن أم مكتوم - وكان رجلا أعمى - لما سمع فضيلة المجاهدين فقال : يا رسول الله فكيف بمن لا يستطيع الجهاد من المؤمنين ؟ فلما قضى كلامه غشيت رسول الله السكينة فوقعت فخذه على خفذى . ووجدت من ثقلها فى المرة الثاينة كما وجدت فى المرة الأولى ثم سرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : اقرأ يا زيد . فقرأت : { لا يستوى الأقاعدون من المؤمنين } . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { غَيْرُ أُوْلِي الضرر } الاية كلها .
قال زيد : فأنزلها الله وحدها فألحقتها . والذى نفسى بيده لكأنى أنظر إلى ملحقها عند صدع فى كتف .
والمعنى : لا يستوى عند الله - تعالى - الذين قعدوا عن الجهاد لإِعلاء كلمة الحق دون أن يكون عندهم من الأعذار ما يمنعهم من ذلك ، لا يستوى هؤلاء مع الذين جاهدوا فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم . أما الذين قعدوا عن الجهاد لأعذار تمنعهم عن مباشرته ، فإن نيتهم الصادقة سترفع منزلتهم عند الله - تعالى - ، وستجعلهم فى مصاف المجاهدين بأموالهم وأنفسهم أو قريبين منهم .
ويشهد لذلك ما رواه البخارى وأبو داود عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال - وهو يسر إلى تبوك : " إن بالمدينة أقواما ما سرتم من سير ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه . قالوا : يا رسول الله ، وهم بالمدينة قال : نعم حبسهم العذر " .
قال ابن كثير : وفى هذا المعنى قال الشاعر :
يا راحلين إلى البيت العتيق لقد . . . سرتم جسوماً وسرنا نحن أرواحا
إنا أقمنا على عذر وعن قدر . . . ومن أقام على عذر كمن راحا
وقوله : { لاَّ يَسْتَوِي } نفى لاستواء المجاهدين والقاعدين ، والمقصود بهذا النفى التعريض بالمفضول لتفريطه وزهده فى الخير ، وحض على الاقتداء بمن هو أفضل منه ، إذ من المعروف أن القاعد عن الجهاد لا يساوى المجاهد فى الفضل والثواب . فتعين أن يكون المراد بهذا التعبير التعريض بالقاعدين ليتأسوا بالمجاهدين ، وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله :
فإن قلت : معلوم أن القاعد بغير عذر والمجاهد لا يستويان فما فائدة نفى الاستواء ؟ قلت : معناه الإِذكار بما بينهما من التفاوت العظيم ، والبون البعيد ، ليأنف القاعد ويترفع بنفسه عن انحطاط منزلته . فيهتز للجهاد ويرغب فيه ، وفى ارتفاع طبقته ، ونحوه : { هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ } أريد به التحريك من الجهل إلى التعلم . ولينهض الشخص بنفسه عن صفة الجهل إلى شرف العلم .
وقوله { مِنَ المؤمنين } جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من القاعدين .
وفائدة قوله : { مِنَ المؤمنين } الإِيذان من أول الأمر بأن قعودهم عن الجهاد لم يمنعهم عن الوصف بالإِيمان ، لأن قعودهم عن الجهاد لم يكن عن نفاق أو عن ضعف فى دينهم ، وإنما كان عن تراخ أو اشتغال ببعض الأمور الدنيوية .
قال الجمل وقوله : { غَيْرُ أُوْلِي الضرر } : قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وعاصم { غَيْرُ } بالرفع : وقرأ الباقون بالنصب . وقرأ الأعمش بالجر .
أظهرما أنه على البدل من { القاعدون } . وإنما كان هذا أظهر لأن الكلام نفى والبدل معه أرجح .
والثاني : أنه رفع على أنه صفة لقوله { القاعدون } لأنهم لما لم يكونوا أناساً بأعيانهم بل أريد بهم الجنس أشبهوا النكرة فوصفوا بها .
وأما النصب فعلى : الاستثناء من { القاعدون } وهو الأظهر ، لأنه المحدث عنه . وأما الجر فعلى أنه صفة للمؤمنين .
وقوله : { فَضَّلَ الله المجاهدين بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى القاعدين دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى } بيان لمزية المجاهدين على غيرهم .
والمراد بالقاعدين هنا - الذين قعدوا عن الجهاد لسبب مانع من مباشرته أى : فضل الله - تعالى - المجاهدين بأموالهم وأنفسهم من أجل إعزاز دينه ، فضلهم درجة على القاعدين بأعذار ، لأن المجاهدين قد عرضوا أنفسهم للمخاطر والأهوال ، وبذلوا أرواحهم وأمولهم فى سبيل إعلاء كلمة الله .
والدرجة هنا مستعارة للعلو المعنوى أى أن المراد بها هو الفضل ، ووفرة الأجر وزيادة الثواب . والتنوين فيها للتعظيم .
قال ابن جرير : فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين من أولى الضرر درجة واحدة ، يعنى فضيلة واحدة . وذلك بفضل جهادهم بأنفسهم فأما فيما سوى ذلك فهما مستويان .
وقوله { وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى } جملة معترضة جئ بها تاركا لما عسى أن يوهمه تفضيل أحد الفريقين على الآخر من حرمان المفضول .
أى : وكل واحد من فريقى المجاهدين والقاعدين من أهل الضرر وعده الله المثوبة الحسنى وهى الجنة لحسن عقيدتهم وخلوص نيتهم ، وإنما التفاوت فى زيادة العمل المتقضى لمزيد الثواب .
وقوله { كُلاًّ } مفعول أول لما يعقبه قدم عليه لإِفادة القصر تأكيدا للوعد وتنوينه عوض عن المضاف إليه . وقوله { الحسنى } مفعول ثان .
ثم بين - سبحانه - أنه قد فضل المجاهدين على القاعدين بغير عذر بدرجات عظيمة فقال { وَفَضَّلَ الله المجاهدين عَلَى القاعدين أَجْراً عَظِيماً } .
أى : وفضل الله - تعالى - المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين دون أن يكون هناك عذر يمنعهم عن الجهاد ، فضل الله المجاهدين على هؤلاء القاعدين بالأجر العظيم والثواب الجزيل ، والمنزلة الرفيعة .
وقوله { أَجْراً عَظِيماً } منصوب على النيابة عن المفعول المطلق المبين للنوع ، لأن الأجر هو ذلك التفضيل . أو على نزع الخافض أى فضلهم بأجر عظيم . أو على أنه مفعول ثان بتضمين فضل معنى أعطى أى أعطاهم أجرا تفضلا منه .
في قوله : { لا يستوي } إبهام على السامع هو أبلغ من تحديد المنزلة التي بين المجاهد والقاعد ، فالمتأمل يمشي مع فكرته ولا يزال يتخيل الدرجات بينهما ، و { القاعدون } عبارة عن المتخلفين ، إذ القعود هيئة من لا يتحرك إلى الأمر المقعود عنه في الأغلب ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة ، «غيرُ أولي الضرر » برفع الراء من غير ، وقرأ الأعمش وأبو حيوة «غيرِ » بكسر الراء فمن رفع جعل غير صفة للقاعدين عند سيبويه ، كما هي عنده صفة في قوله تعالى : { غير المغضوب } [ الفاتحة : 7 ] بجر غير صفة ، ومثله قول لبيد : [ الرمل ]
وَإذَا جُوزِيتَ قِرْضاً فاجْزِهِ *** إنَّما يُجْزَى الْفَتى غَيْرَ الْجَمَلْ{[4219]}
قال المؤلف : كذا ذكره أبو علي ، ويروى ليس الجمل ، ومن قرأ بنصب الراء جعله استثناء من القاعدين ، قال أبو الحسن : ويقوي ذلك أنها نزلت بعدها على طريق الاستثناء والاستدراك .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وقد يتحصل الاستدراك بتخصيص القاعدين بالصفة ، قال الزجّاج : يجوز أيضاً في قراءة الرفع أن يكون على جهة الاستثناء ، كأنه قال : «لا يستوي القاعدون والمجاهدون إلا أولو الضرر » فإنهم يساوون المجاهدين .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وهذا مردود ، لأن { أولي الضرر } لا يساوون المجاهدين ، وغايتهم أن خرجوا من التوبيخ والمذمة التي لزمت القاعدين من غير عذر ، قال : ويجوز في قراءة نصب الراء أن يكون على الحال ، وأما كسر الراء فعلى الصفة للمؤمنين ، وروي من غير طريق أن الآية نزلت { لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون } فجاء ابن أم مكتوم حين سمعها ، فقال : يا رسول الله هل من رخصة ؟ فإني ضرير البصر فنزلت عند ذلك { غير أولي الضرر } قال الفلقان بن عاصم{[4220]} كنا قعوداً عند النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل عليه ، وكان إذا أوحي إليه دام بصره مفتوحة عيناه وفرغ سمعه وبصره لما يأتيه من الله ، وكنا نعرف ذلك في وجهه ، فلما فرغ قال للكاتب : اكتب { لا يستوي القاعدونَ من المؤمنين والمجاهدون } إلى آخر الآية . قال : فقام الأعمى ، فقال : يا رسول الله ما ذنبنا ؟ قال : فأنزل الله على رسوله ، فقلنا للأعمى : إنه ينزل عليه ، قال : فخاف أن ينزل فيه شيء فبقي قائماً مكانه يقول : أتوب الى رسول الله حتى فرغ رسول الله ، فقال الكاتب : اكتب { غير أولي الضرر } وأولو الضرر هم أهل الأعذار إذ قد أضرت بهم حتى منعتهم الجهاد . قاله ابن عباس وغيره . وقوله تعالى { بأموالهم وأنفسهم } هي الغاية في كمال الجهاد . ولما كان أهل الديوان متملكين بذلك العطاء يصرفون في الشدائد وتروعهم البعوث والأوامر . قال بعض العلماء : هم أعظم أجراً من المتطوع لسكون جأشه ونعمة باله في الصوائف الكبار ونحوها{[4221]} .
واحتج بهذه الآية المظهرة لفضل المال من قال : إن الغنى أفضل من الفقر ، وإن متعلقه بها لبين . وفسر الناس الآية على أن تكملة التفضيل فيها ب «الدرجة » ثم بالدرجات إنما هو مبالغة وتأكيد وبيان ، وقال ابن جريج الفضل بدرجة هو على القاعدين من أهل العذر .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : لأنهم مع المؤمنين بنياتهم كما قال النبي عليه السلام في غزوة تبوك «إن بالمدينة رجالاً ما قطعنا وادياً ولا سلكنا جبلاً ولا طريقاً إلا وهم معنا حبسهم العذر »{[4222]} قال ابن جريج . والتفضيل «بالأجر العظيم والدرجات » هو على القاعدين من غير أهل العذر ، و { الحسنى } الجنة ، وهي التي وُعدها المؤمنون ، وكذلك قال السدي وغيره .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
قوله سبحانه: {لا يستوي القاعدون} عن الغزو {من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم}: لا يستوي في الفضل القاعد الذي لا عذر له، والمجاهد بنفسه وماله في سبيل الله، وهي غزوة تبوك، قال عز وجل: {فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين} من أهل العذر، {درجة}، يعني فضيلة على القاعدين، {وكلا}: المجاهد والقاعد المعذور، {وعد الله الحسنى}: الجنة، ثم قال سبحانه: {وفضل الله المجاهدين على القاعدين} الذين لا عذر لهم {أجرا عظيما}...
أخبرني الزهري عن خارجة بن زيد قال: قال زيد بن ثابت: "كنت أكتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم {لا يستوي القاعدون من المؤمنين} وابن أم مكتوم عند النبي فقال: يا رسول الله قد أنزل الله في فضل الجهاد ما أنزل، وأنا رجل ضرير فهل لي من رخصة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أدري. قال زيد بن ثابت: وقلمي رطب ما جف حتى غشي النبي صلى الله عليه وسلم الوحي، ووقع فخذه على فخذي حتى كادت تدق من ثقل الوحي، ثم جلى عنه فقال لي: اكتب يا زيد {غير أولي الضرر}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{لا يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غيرُ أُولى الضّرَرِ وَالمُجاهِدُونَ}: لا يعتدل المتخلفون عن الجهاد في سبيل الله من أهل الإيمان بالله وبرسوله، المؤثرون الدعة والخفض والقعود في منازلهم على مقاساة حزونة الأسفار والسير في الأرض ومشقة ملاقاة أعداء الله بجهادهم في ذات الله وقتالهم في طاعة الله، إلا أهل العذر منهم بذهاب أبصارهم، وغير ذلك من العلل التي لا سبيل لأهلها للضرر الذي بهم إلى قتالهم وجهادهم في سبيل الله والمجاهدون في سبيل الله، ومنهاج دينه، لتكون كلمة الله هي العليا، المستفرغون طاقتهم في قتال أعداء الله وأعداء دينهم بأموالهم، إنفاقا لها فيما أوهن كيد أعداء أهل الإيمان بالله وبأنفسهم، مباشرة بها قتالهم، بما تكون به كلمة الله العالية، وكلمة الذين كفروا السافلة.
{فَضّلَ اللّهُ المُجاهِدِينَ بأمْوَالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ على القاعِدِينَ دَرَجَةً}: فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين من أولي الضرر درجة واحدة، يعني فضيلة واحدة، وذلك بفضل جهاد بنفسه، فأما فيما سوى ذلك فهما مستويان.
{وكُلاّ وَعَدَ اللّهُ الحُسْنَى}: وعد الله الكلّ من المجاهدين بأموالهم وأنفسهم، والقاعدين من أهل الضرر الحسنى. ويعني جلّ ثناؤه بالحسنى: الجنة¹، والله يؤتي كلّ ذي فضل فضله.
{وَفَضّلَ اللّهُ المُجاهِدِينَ على القاعِدِينَ أجْرا عَظِيما}: وفضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين من غير أولي الضرر أجرا عظيما.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{غير أولي الضرر} استثنى أهل الضرر مجملا في هذه الآية، وبين أمرهم، وما أزال عنهم من فرض الجهاد في آية أخرى، وهو قوله تعالى: {ليس على الأعمى حرج} (النور: 61) وقوله عز وجل: {ليس على الضعفاء ولا على المرضى} الآية (التوبة: 91). وهذا مما أجمع عليه أهل العلم، وأزالوا الحرج عمن كان في مثل هؤلاء الذين وصفهم الله تعالى، وعذرهم في تخلفهم عن الجهاد...
قوله تعالى: {لاَ يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولي الضَّرَرِ} الآية، يعني به تفضيل المجاهدين على القاعدين والحضّ على الجهاد ببيان ما للمجاهدين من منزلة الثواب التي ليست للقاعدين عن الجهاد؛ ودل به على أن شرف الجزاء على قدر شرف العمل، فذكر بدياً أنهما غير متساويين، ثم بين التفضيل بقوله: {فَضَّلَ اللَّهُ المُجَاهِدِينَ بأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى القَاعِدِينَ دَرَجَةً}...
وهذا دليل على أن فرض الجهاد على الكفاية وليس على كل أحد بعينه؛ لأنه وعد القاعدين الحسنى كما وعد المجاهدين؛ وإن كان ثواب المجاهدين أشرف وأجزل، ولو لم يكن القعود عن الجهاد مباحاً إذا قامت به طائفة لما وعد القاعدين الثواب، وفي ذلك دليل على ما ذكرنا أن فرض الجهاد غير معين على كل أحد في نفسه...
وقوله تعالى: {وَفَضَّلَ اللَّهُ المُجَاهِدِينَ عَلَى القَاعِدِينَ أجْراً عَظِيماً دَرَجَاتٍ مِنْهُ}؛ ذكر ههنا: {دَرَجَاتٍ مِنْهُ} وذكر في أول الآية: {دَرَجَةً}، فإنه رُوي عن ابن جريج أن الأول على أهل الضرر فُضِّلوا عليهم درجة واحدة، والثاني على غير أهل الضرر فضلهم عليهم درجات كثيرة وأجراً عظيماً. وقيل إن الأول على الجهاد بالنفس ففُضِّلوا درجة واحدة، والآخر الجهاد بالنفس والمال ففُضّلوا درجات كثيرة. وقيل إنه أراد بالأول درجة المدح والتعظيم وشرف الدين، وأراد بالآخر درجات الجنة...
آراء ابن حزم الظاهري في التفسير 456 هـ :
نص تعالى على أن المتخلف عن الجهاد بغير عذر مذموم أشد الذم في غير ما موضع من القرآن، منها: قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل * إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم}، وفي آيات كثيرة جدا. ثم بين الله تعالى أن المجاهدين مفضلون على القاعدين درجة ودرجات، فصح أنه إنما عنى القاعدين المعذورين الذين لهم نصيب من وعد الله الحسنى والأجر، لا الذين توعدوا بالعذاب...
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر} أي الأصحاء الذين لا علة بهم تضرهم وتقطعهم عن الجهاد لا يستوي هؤلاء {والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين} من أهل العذر {درجة} لأن المجاهدين باشروا الطاعة والقاعدين من أهل العذر قصدوها وإن كانوا في الهمة والنية على قصد الجهاد فمباشرة الطاعة فوق قصدها بالنية {وكلا} من المجاهدين والقاعدين المعذورين {وعد الله الحسنى} الجنة {وفضل الله المجاهدين على القاعدين} من غير عذر {أجرا عظيما}...
أحكام القرآن لإلكيا الهراسي 504 هـ :
{لاَ يَسْتَوي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولي الضرَرِ} الآية [95]: يدل على أن كثرة الجزاء على قدر شرف العمل، وأن الذي لا يجاهد لا يثاب ثواب المجاهدين، إلا أن يعلم الله تعالى من نيته أنه لو كان الجهاد لجاهد، فإنه يستحق الأجر على قدر نيته، لقوله تعالى: {غَيْرُ أُولي الضرَرِ}...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: معلوم أن القاعد بغير عذر والمجاهد لا يستويان، فما فائدة نفي الاستواء؟ قلت: معناه الإذكار بما بينهما من التفاوت العظيم والبون البعيد، ليأنف القاعد ويترفع بنفسه عن انحطاط منزلته، فيهتز للجهاد ويرغب فيه وفي ارتفاع طبقته، ونحوه {هَلْ يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] أريد به التحريك من حمية الجاهل وأنفته ليهاب به إلى التعلم، ولينهض بنفسه عن صفة الجهل إلى شرف العلم.
{فَضَّلَ الله المجاهدين} جملة موضحة لما نفي من استواء القاعدين والمجاهدين كأنه قيل: ما لهم لا يستوون، فأجيب بذلك. والمعنى على القاعدين غير أولي الضرر لكون الجملة بياناً للجملة الأولى المتضمنة لهذا الوصف {وَكُلاًّ} وكل فريق من القاعدين والمجاهدين {وَعَدَ الله الحسنى} أي المثوبة الحسنى وهي الجنة وإن كان المجاهدون مفضلين على القاعدين درجة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم:
« لقد خلفتم بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم» وهم الذين صحت نياتهم ونصحت جيوبهم وكانت أفئدتهم تهوى إلى الجهاد، وبهم ما يمنعهم من المسير من ضرر أو غيره.
فإن قلت: قد ذكر الله تعالى مفضلين درجة ومفضلين درجات، فمن هم؟ قلت: أما المفضلون درجة واحدة فهم الذين فضلوا على القاعدين الأضراء وأما المفضلون درجات فالذين فضلوا على القاعدين الذين أذن لهم في التخلف اكتفاء بغيرهم، لأن الغزو فرض كفاية.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
في قوله: {لا يستوي} إبهام على السامع هو أبلغ من تحديد المنزلة التي بين المجاهد والقاعد، فالمتأمل يمشي مع فكرته ولا يزال يتخيل الدرجات بينهما، و {القاعدون} عبارة عن المتخلفين، إذ القعود هيئة من لا يتحرك إلى الأمر المقعود عنه في الأغلب،.. لأن {أولي الضرر} لا يساوون المجاهدين، وغايتهم أن خرجوا من التوبيخ والمذمة التي لزمت القاعدين من غير عذر،...
وقوله تعالى {بأموالهم وأنفسهم} هي الغاية في كمال الجهاد...
الأول: ما ذكرناه أنه تعالى لما رغب في الجهاد أتبع ذلك بيان أحكام الجهاد. فالنوع الأول من أحكام الجهاد: تحذير المسلمين عن قتل المسلمين، وبيان الحال في قتلهم على سبيل الخطأ كيف، وعلى سبيل العمد كيف، وعلى سبيل تأويل الخطأ كيف، فلما ذكر ذلك الحكم أتبعه بحكم آخر وهو بيان فضل المجاهد على غيره وهو هذه الآية.
الوجه الثاني: لما عاتبهم الله تعالى على ما صدر منهم من قتل من تكلم بكلمة الشهادة، فلعله يقع في قلبهم أن الأولى الاحتراز عن الجهاد لئلا يقع بسببه في مثل هذا المحذور، فلا جرم ذكر الله تعالى في عقيبه هذه الآية وبين فيها فضل المجاهد على غيره إزالة لهذه الشبهة.
الوجه الثالث: أنه تعالى لما عاتبهم على ما صدر منهم من قتل تكلم بالشهادة ذكر عقيبه فضيلة الجهاد، كأنه قيل: من أتى بالجهاد فقد فاز بهذه الدرجة العظيمة عند الله تعالى، فليحترز صاحبها من تلك الهفوة لئلا يخل منصبه العظيم في الدين بسبب هذه الهفوة...
الضرر: النقصان سواء كان بالعمى أو العرج أو المرض، أو كان بسبب عدم الأهبة...
لقائل أن يقول: إنه تعالى قال: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم} فقدم ذكر النفس على المال، وفي الآية التي نحن فيها وهي قوله: {المجاهدين بأموالهم وأنفسهم} قدم ذكر المال على النفس، فما السبب فيه؟ وجوابه: أن النفس أشرف من المال، فالمشتري قدم ذكر النفس تنبيها على أن الرغبة فيها أشد، والبائع أخر ذكرها تنبيها على أن المضايقة فيها أشد، فلا يرضى ببذلها إلا في آخر المراتب...
لقائل أن يقول: إنه تعالى ذكر أولا {درجة}، وهاهنا {درجات}، وجوابه من وجوه: الأول: المراد بالدرجة ليس هو الدرجة الواحدة بالعدد، بل بالجنس، والواحد بالجنس يدخل تحته الكثير بالنوع، وذلك هو الأجر العظيم، والدرجات الرفيعة في الجنة المغفرة والرحمة.
الرابع: قال في أول الآية {وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما} ولا يمكن أن يكون المراد من هذا المجاهد هو المجاهد بالمال والنفس فقط، وإلا حصل التكرار، فوجب أن يكون المراد منه من كان مجاهدا على الإطلاق في كل الأمور، أعني في عمل الظاهر، وهو الجهاد بالنفس والمال والقلب وهو أشرف أنواع المجاهدة، وحاصل هذا الجهاد صرف القلب من الالتفات إلى غير الله إلى الاستغراق في طاعة الله، ولما كان هذا المقام أعلى مما قبله لا جرم جعل فضيلة الأول درجة، وفضيلة هذا الثاني درجات...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{لا يستوي القاعدون} أي عن الجهاد حال كونهم {من المؤمنين} أي الغريقين في الإيمان، ليفيد التصريح بتفضيل المؤمن المجاهد على المؤمن القاعد لئلا يخصه أحد بالكافر الجاحد... ولما ذكر القاعد أتبعه قسيمه المجاهد بقوله: {والمجاهدون في سبيل الله} أي دين الملك الأعظم الذي من سلكه وصل إلى رحمته {بأموالهم وأنفسهم} ولما كان نفي المساواة سبباً لترقب كل من الحزبين الأفضلية، لأن القاعد وإن فاته الجهاد فقد تخلف الغازي في أهله، إذ يحيي الدين بالاشتغال بالعلم ونحوه؛ قال متسأنفاً: {فضل الله} أي الذي له صفات الكمال {المجاهدين} ولما كان المال في أول الأمر ضيقاً قال مقدماً للمال: {بأموالهم وأنفسهم} أي جهاداً كائناً بالفعل {على القاعدين} أي عن ذلك وهم متمكنون منه بكونهم في دار الهجرة {درجة} أي واحدة كاملة لأنهم لم يفوقوهم بغيرها، و في البخاري في المغازي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين عن بدر والخارجون إلى بدر". ولما شرك بين المجاهدين والقاعدين بقوله: {وكلاً} أي من الصنفين {وعد الله} أي المحيط بالجلال والإكرام أجراً على إيمانهم {الحسنى} بين أن القاعد المشارك إنما هو الذي فيه قوة الجهاد القريبة من الفعل، وهو التمكن من تنفيذ الأمر بسبب هجرته لأرض الحرب وكونه بين أهل الإيمان، وأما القاعد عن الهجرة مع التمكن فليس بمشارك في ذلك، بل هو ظالم لنفسه فإنه ليس متمكناً من تنفيذ الأوامر فلا هو مجاهد بالفعل ولا بالقوة القريبة منه، فقال: {وفضل الله} أي الملك الذي لا كفوء له فلا يجبر عليه {المجاهدين} أي بالفعل مطلقاً بالنفس أو المال {على القاعدين} أي عن الأسباب الممكنة من الجهاد ومن الهجرة {أجراً عظيماً}...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
أي: لا يستوي من جاهد من المؤمنين بنفسه وماله ومن لم يخرج للجهاد ولم يقاتل أعداء الله، ففيه الحث على الخروج للجهاد، والترغيب في ذلك، والترهيب من التكاسل والقعود عنه من غير عذر. وأما أهل الضرر كالمريض والأعمى والأعرج والذي لا يجد ما يتجهز به، فإنهم ليسوا بمنزلة القاعدين من غير عذر، فمن كان من أولي الضرر راضيًا بقعوده لا ينوي الخروج في سبيل الله لولا [وجود] المانع، ولا يُحَدِّث نفسه بذلك، فإنه بمنزلة القاعد لغير عذر. ومن كان عازمًا على الخروج في سبيل الله لولا وجود المانع يتمنى ذلك ويُحَدِّث به نفسه، فإنه بمنزلة من خرج للجهاد، لأن النية الجازمة إذا اقترن بها مقدورها من القول أو الفعل ينزل صاحبها منزلة الفاعل...
ثم صرَّح تعالى بتفضيل المجاهدين على القاعدين بالدرجة، أي: الرفعة، وهذا تفضيل على وجه الإجمال، ثم صرح بذلك على وجه التفصيل، ووعدهم بالمغفرة الصادرة من ربهم، والرحمة التي تشتمل على حصول كل خير، واندفاع كل شر. والدرجات التي فصلها النبي صلى الله عليه وسلم بالحديث الثابت عنه في "الصحيحين "أن في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، أعدها الله للمجاهدين في سبيله. وهذا الثواب الذي رتبه الله على الجهاد، نظير الذي في سورة الصف في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} إلى آخر السورة...
وتأمل حسن هذا الانتقال من حالة إلى أعلى منها، فإنه نفى التسوية أولا بين المجاهد وغيره، ثم صرَّح بتفضيل المجاهد على القاعد بدرجة، ثم انتقل إلى تفضيله بالمغفرة والرحمة والدرجات. وهذا الانتقال من حالة إلى أعلى منها عند التفضيل والمدح، أو النزول من حالة إلى ما دونها، عند القدح والذم -أحسن لفظا وأوقع في النفس. وكذلك إذا فضَّل تعالى شيئا على شيء، وكل منهما له فضل، احترز بذكر الفضل الجامع للأمرين لئلا يتوهم أحد ذم المفضل عليه كما قال هنا: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} وكما [قال تعالى] في الآيات المذكورة في الصف في قوله: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} وكما في قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} أي: ممن لم يكن كذلك. ثم قال: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} وكما قال تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} فينبغي لمن بحث في التفضيل بين الأشخاص والطوائف والأعمال أن يتفطن لهذه النكتة...
وكذلك لو تكلم في ذم الأشخاص والمقالات ذكر ما تجتمع فيه عند تفضيل بعضها على بعض، لئلا يتوهم أن المفضَّل قد حصل له الكمال. كما إذا قيل: النصارى خير من المجوس فليقل مع ذلك: وكل منهما كافر. والقتل أشنع من الزنا، وكل منهما معصية كبيرة، حرمها الله ورسوله وزجر عنها...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
الجهاد والهجرة هذا الدرس وثيق الصلة، شديد اللحمة بالدرس السابق والدرس الذي قبله كذلك. فهو تكملة موضوعية لموضوع الدرسين السابقين. ولولا الرغبة في إقرار مبادئ المعاملات الدولية -كما يقررها الإسلام- لاعتبرناهما معا مع هذا الدرس درسا واحدا وقد تلا هذه الفقرة فقرة أخرى فيها تحذير وتهديد لمن يظلون قاعدين هنالك في دار الكفر -وهم قادرون على الهجرة منها بدينهم وعقيدتهم- حتى تتوفاهم الملائكة (ظالمي أنفسهم).. (فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرًا).. ثم تلتها فقرة أخرى عن ضمان الله سبحانه لمن يهاجر في سبيله، منذ اللحظة التي يخرج فيها من بيته، قاصدا الهجرة إلى الله خالصة. عالج فيها كل المخاوف التي تهجس في النفس البشرية وهي تقدم على هذه المخاطرة، المحفوفة بالخطر، الكثيرة التكاليف في الوقت ذاته.. فالحديث مطرد عن الجهاد والهجرة إلى دار المجاهدين، وأحكام التعامل بين المسلمين في دار الهجرة وبقية الطوائف خارج هذه الدار -بما في ذلك المسلمون الذين لم يهاجروا- والحديث موصول. كذلك يلم هذا الدرس بكيفية الصلاة عند الخوف -في ميدان القتال أو في أثناء طريق الهجرة- وتدل هذه العناية بالصلاة في هذه الآونة الحرجة، على طبيعة نظرة الإسلام إلى الصلاة -كما أسلفنا- كما يهيئ لإيجاد حالة تعبئة نفسية كاملة؛ في مواجهة الخطر الحقيقي المحدق بالجماعة المسلمة؛ من أعدائها الذين يتربصون بها لحظة غفلة أو غرة! وينتهي الدرس بلمسة قوية عميقة التأثير؛ في التشجيع على الجهاد في سبيل الله؛ في وجه الآلام والمتاعب التي تصيب المجاهدين. وذلك في تصوير ناصع لحال المؤمنين المجاهدين، وحال أعدائهم المحاربين؛ على مفرق الطريق: (ولا تهنوا في ابتغاء القوم.. إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون. وترجون من الله ما لا يرجون..) وبهذا التصوير يفترق طريقان؛ ويبرز منهجان؛ ويصغر كل ألم، وتهون كل مشقة. ولا يبقى مجال للشعور بالضنى وبالكلال.. فالآخرون كذلك يألمون. ولكنهم يرجون من الله ما لا يرجون! ويرسم هذا الدرس -بجملة الموضوعات التي يعالجها، وبطرائق العلاج التي يسلكها- ما كان يعتمل في جسم الجماعة المسلمة، وهي تواجه مشاق التكوين الواقعية؛ ومشكلات التكوين العملية. وما كان يشتجر في النفوس من عوامل الضعف البشري؛ ومن رواسب الماضي الجاهلي، ومن طبيعة الفطرة البشرية وهي تواجه التكاليف بمشاقها وآلامها؛ مع ما يصاحب هذه المشاق والآلام من أشواق ومن تطلع إلى الوفاء كذلك؛ يستثيرها المنهج الحكيم، ويستجيشها في الفطرة لتنهض بهذا الأمر العظيم. ونرى ذلك كله مرتسما من خلال الوصف للواقع؛ ومن خلال التشجيع والاستجاشة؛ ومن خلال المعالجة للمخاوف الفطرية والآلام الواقعية؛ ومن خلال التسليح في المعركة بالصلاة! وبالصلاة خاصة -إلى جانب التسلح بالعدة واليقظة- وبالثقة في ضمانة الله للمهاجرين، وثوابه للمجاهدين، وعونه للخارجين في سبيله، وما أعده للكافرين من عذاب مهين. ونرى طريقة المنهج القرآني الرباني في التعامل مع النفس البشرية في قوتها وضعفها؛ وفي التعامل مع الجماعة الإنسانية في أثناء تكوينها وإنضاجها. ونرى شتى الخيوط التي يشدها منها في الوقت الواحد وفي الآية الواحدة.. ونرى -على الأخص- كيف يملأ مشاعر الجماعة المسلمة بالتفوق على عدوها، في الوقت الذي يملأ نفوسها بالحذر واليقظة والتهيؤ الدائم للخطر، وفي الوقت الذي يدلها كذلك على مواطن الضعف فيها، ومواضع التقصير، ويحذرها إياها أشد التحذير. إنه منهج عجيب في تكامله وفي تقابله مع النفس البشرية؛ وفي عدد الأوتار التي يلمسها في اللمسة الواحدة،وعدد الخيوط التي يشدها في هذه النفس، فتصوت كلها وتستجيب! لقد كان التفوق في منهج التربية، والتفوق في التنظيم الاجتماعي الذي قام عليه؛ هو الأمر البارز الظاهر فيما بين المجتمع المسلم وسائر المجتمعات حوله من فروق.. ولقد كان هذا التفوق البارز هو كذلك أوضح الأسباب -التي يراها البشر- لتمكن هذا المجتمع الناشئ الشاب -بكل ما كان في حياته من ملابسات ومن ضعف أحيانا وتقصير- من طي تلك المجتمعات الأخرى، والغلبة عليها. لا غلبة معركة بالسلاح فحسب؛ ولكن غلبة حضارة فتية على حضارات شاخت. غلبة منهج على مناهج، ونموذج من الحياة على نماذج؛ ومولد عصر جديد على مولد إنسان جديد.. ونكتفي بهذا القدر حتى نواجه النصوص بالتفصيل: لا يستوي القاعدون من المؤمنين -غير أولي الضرر- والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم. فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة، وكلا وعد الله الحسنى. وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما. درجات منه ومغفرة ورحمة. وكان الله غفورا رحيمًا.. إن هذا النص القرآني كان يواجه حالة خاصة في المجتمع المسلم وما حوله؛ وكان يعالج حالة خاصة في هذا المجتمع من التراخي -من بعض عناصره- في النهوض بتكاليف الجهاد بالأموال والأنفس. سواء كان المقصود أولئك الذين تخلفوا عن الهجرة احتفاظا بأموالهم، إذ لم يكن المشركون يسمحون لمهاجر أن يحمل معه شيئا من ماله؛ أو توفيرا لعناء الهجرة وما فيها من مخاطر، إذ لم يكن المشركون يتركون المسلمين يهاجرون، وكثيرا ما كانوا يحبسونهم ويؤذونهم -أو يزيدون في إيذائهم بتعبير أدق- إذا عرفوا منهم نية الهجرة.. سواء كان المقصود هم أولئك الذين تخلفوا عن الهجرة -وهو ما نرجحه- أو كان المقصود بعض المسلمين في دار الإسلام، الذين لم ينشطوا للجهاد بالأموال والأنفس -من غير المنافقين المبطئين الذين ورد ذكرهم في درس سابق- أو كان المقصود هؤلاء وهؤلاء ممن لم ينشطوا للجهاد بالأموال والأنفس في دار الحرب ودار الإسلام سواء. إن هذا النص كان يواجه هذه الحالة الخاصة؛ ولكن التعبير القرآني يقرر قاعدة عامة؛ يطلقها من قيود الزمان، وملابسات البيئة؛ ويجعلها هي القاعدة التي ينظر الله بها إلى المؤمنين في كل زمان وفي كل مكان -قاعدة عدم الاستواء بين القاعدين من المؤمنين عن الجهاد بالأموال والانفس- غير اولي الضرر الذين يقعدهم العجز عن الجهاد بالنفس، او يقعدهم الفقر والعجز عن الجهاد بالنفس والمال -عدم الاستواء بين هؤلاء القاعدين والآخرين الذين يجاهدون بأموالهم وأنفسهم.. قاعدة عامة على الإطلاق:
(وكلا وعد الله الحسنى).. فللإيمان وزنه وقيمته على كل حال؛ مع تفاضل أهله في الدرجات وفق تفاضلهم في النهوض بتكاليف الإيمان؛ فيما يتعلق بالجهاد بالأموال والأنفس.. وهذا الاستدراك هو الذي نفهم منه أن هؤلاء القاعدين ليسوا هم المنافقين المبطئين. إنما هم طائفة أخرى صالحة في الصف المسلم ومخلصة؛ ولكنها قصرت في هذا الجانب؛ والقرآن يستحثها لتلافي التقصير؛ والخير مرجو فيها، والأمل قائم في أن تستجيب. فإذا انتهى من هذا الاستدراك عاد لتقرير القاعدة الأولى؛ مؤكدا لها، متوسعا في عرضها؛ ممعنا في الترغيب فيما وراءها من أجر عظيم: وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما. درجات منه ومغفرة ورحمة. وكان الله غفورا رحيمًا...
هذا كله يشي بحقيقتين هامتين: الحقيقة الأولى: هي أن هذه النصوص كانت تواجه حالات قائمة في الجماعة المسلمة كما أسلفنا وتعالجها. وهذا كفيل بأن يجعلنا أكثر إدراكا لطبيعة النفس البشرية، ولطبيعة الجماعات البشرية، وأنها مهما بلغت في مجموعها من التفوق في الإيمان والتربية فهي دائما في حاجة إلى علاج ما يطرأ عليها من الضعف والحرص والشح والتقصير في مواجهة التكاليف، وبخاصة تكاليف الجهاد بالأموال والأنفس، مع خلوص النفس لله، وفي سبيل الله. وظهور هذه الخصائص البشرية- من الضعف والحرص والشح والتقصير -لا يدعو لليأس من النفس أو الجماعة، ولا إلى نفض اليد منها، وازدرائها؛ طالما أن عناصر الإخلاص والجد والتعلق بالصف والرغبة في التعامل مع الله موفورة فيها.. ولكن ليس معنى هذا هو إقرار النفس أو الجماعة على ما بدا منها من الضعف والحرص والشح والتقصير؛ والهتاف لها بالانبطاح في السفح، باعتبار أن هذا كله جزء من "واقعها "! بل لا بد لها من الهتاف لتنهض من السفح والحداء لتسير في المرتقى الصاعد، إلى القمة السامقة. بكل ألوان الهتاف والحداء.. كما نرى هنا في المنهج الرباني الحكيم. والحقيقة الثانية: هي قيمة الجهاد بالأموال والأنفس في ميزان الله واعتبارات هذا الدين وأصالة هذا العنصر في طبيعة هذه العقيدة وهذا النظام. لما يعلمه الله- سبحانه -من طبيعة الطريق؛ وطبيعة البشر؛ وطبيعة المعسكرات المعادية للإسلام في كل حين...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
...ولمّا لام الله بعض المجاهدين على ما صدر منهم من التعمّق في الغاية من الجهاد، عقَّب ذلك ببيان فضل المجاهدين كيْلا يكون ذلك اللومُ موهِماً انحطاط فضيلتهم في بعض أحوالهم، على عادة القرآن في تعقيب النذارة بالبشارة دفعاً لليأس من الرحمة عن أنفُس المسلمين. يقول العرب « لا يستوي وليس سواءً» بمعنى أنّ أحد المذكورين أفضل من الآخر. ويعتمدون في ذلك على القرينة الدالّة على تعيين المفضّل لأنّ من شأنه أن يكون أفضل...
وإذ قد كان وجه التفاضل معلوماً في أكثر مواقع أمْثال هذا التركيب، صار في الغالب أمثال هذا التركيب مستعملة في معنى الكناية، وهو التعريض بالمفضول في تفريطه وزُهده فيما هو خير مع المكنة منه، وكذلك هو هنا لظهور أنّ القَاعد عن الجهاد لا يساوي المجاهد في فضيلة نصرة الدين، ولا في ثوابه على ذلك، فتعيّن التعريض بالقاعدين وتشنيع حالهم. وبهذا يظهر موقع الاستثناء بقوله: {غيرَ أولي الضرر} كيلا يحسِبَ أصحاب الضرر أنهم مقصودون بالتحريض فيَخرجوا مع المسلمين، فيكلفّوهم مؤونة نقلهم وحفظهم بلا جدوى، أو يظنّوا أنّهم مقصودون بالتعريض فتنكسر لذلك نفوسهم، زيادة على انكسارها بعجزهم، ولأنّ في استثنائهم إنصافاً لهم وعذراً بأنّهم لو كانوا قادرين لما قعدوا، فذلك الظنّ بالمؤمن، ولو كان المقصود صريحَ المعنى لما كان للاستثناء موقع...
والضرر: المرض والعاهة من عمّى أو عرج أو زَمانةٍ، لأنّ هذه الصيغة لمصادر الأدواء ونحوها، وأشهر استعماله في العمى، ولذلك يقال للأعمى: ضرير، ولا يقال ذلك للأعرج والزمن، وأحسب أنّ المراد في هذه الآية خصوص العمى وأنّ غيره مقيس عليه...
وقوله: {بأموالهم وأنفسهم} لأنّ الجهاد يقتضي الأمرين: بذل النفس وبذل المال، إلاّ أنّ الجهاد على الحقيقة هو بذل النفس في سبيل الله ولو لم يتفق شيئاً، بل ولو كان كَلاًّ على المؤمنين، كما أنّ من بَذل المال لإعانة الغزاة، ولم يجاهد بنفسه، لا يسمّى مجاهداً وإن كان له أجر عظيم، وكذلك من حبسه العذر وكان يتمنّى زوال عذره واللحاق بالمجاهدين، له فضل عظيم، ولكن فضل الجهاد بالفعل لا يساويه فضل الآخرين...
والدرجة هنا مستعارة للعلوّ المعنوي كما في قوله تعالى: {وللرجال عليهنّ درجة} [البقرة: 228] والعلوّ المراد هنا علوّ الفضل ووفرة الأجر...
وتنوين {درجة} للتعظيم. وهو يساوي مفاد الجمع في قوله الآتي {درجات منه}...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وقد بين الله سبحانه وتعالى أولى الضرر في آية أخرى، فقال: {ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم (91) ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون (92)} (التوبة)...
ونجد في النص الكريم إشارة إلى أن الجهاد بالمال جهاد، وإلى أن القعود نوعان: أولهما: قعود مادي حسي، بمعنى ألا يخرج من الدار والعدو متأهب لمنازلة أهل الإسلام، أو غزوهم في عقر دارهم، وما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا، كما قال فارس الإسلام علي -رضي الله عنه-، والثاني: قعود عن البذل والإنفاق في سبيل الحرب، وهذا قعود عن الجهاد بالمال، وهو لا يقل خطرا عن القعود والعدو قد أخذ الأهبة، ولذلك عدَّ القرآن الكريم البخل في هذه الحال مؤديا إلى التهلكة، ولذلك قال تعالى: {وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين (195)} (البقرة)...
والآية تشير إلى وجوب إعداد الشباب في الأمة للجهاد، بأن يتربوا منذ طفولتهم على أساليب الحرب والنزال، فإنه لا يسوغ استنفار طائفة إن حملت السلاح لا تستطيع الضرب، ولذلك وردت الآثار بتعليم الشباب الرماية، والدربة على القتال، ويعد ذلك ضروريا من ضروريات التعليم الديني. وإذا كان الإسلام قد منع العكوف في الصوامع للعبادة وحدها، فقد أمر الأمة كلها بالجهاد في سبيله، أو الاستعداد له، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"رهبانية أمَّتي الجهاد في سبيل الله"...
{فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى} وإذا كان التساوي بين المجاهدين والقاعدين من غير ضرر يمنعهم غير مستساغ، فإن الله تعالى فضل المجاهدين بالمال والنفس على القاعدين ذوي الضرر، وجعلهم في درجة أعلى من القاعدين لعذر، والمراد بالدرجة أن يكون لهم فضل أعظم، ومكانتهم عند الله من ذوي الأعذار؛ وذلك لأن جهاد هؤلاء عملي إيجابي، وموقف ذوي الأضرار سلبي، هو يعرضون أنفسهم للتلف، وأولئك لم يتعرضوا له، ويقدمون النفيس من المال، وأولئك لم يقدموه، ومع ذلك فإن الله تعالى وعد كلا من الفريقين الحسنى، أي العاقبة الحسنة، حيث لا يكون ثمة عقاب يوم القيامة بل، يكون النعيم المقيم لهما معا...
{فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى}. وسبحانه وعد الاثنين بالحسنى الإيمانية؛ لأن كلا منهما مؤمن، ولكن للمجاهد درجة على القاعد. وإن تساءل أحد: ولماذا وعد الله القاعد من أولي الضرر بالحسنى؟ وهنا أقول: علينا أن ننتبه وأن نحسن الفهم والتدبر عندما نقرأ القرآن؛ لأن الذي أصابته آفة فناله منها ضرر، فصبر لحكم الله في نفسه، ألا يأخذ ثوابا على هذه؟. لقد أخذ الثواب ولابد إذن أن يعطي الحق من لم يأخذ ثوابا مثله فرصة ليأخذ ثوابا آخر حتى يكون الجميع في الاستطراق الإيماني سواء. لذلك يقول سبحانه: {وكلا وعد الله الحسنى}. والحسنى في أولى الضرر أنه أخذ جزاء الصبر على المصيبة التي أصابته، والذي لم يصب بضرر سيأخذ ثواب الجهاد، وبذلك يكون الجميع قد نالوا الحسنى من الله...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
تناولت الآيات السابقة الحديث عن الجهاد، والآيتان الأخيرتان تبيّنان التمايز بين المجاهدين وغيرهم من القاعدين، فتؤكد عدم التساوي بين من يبذل المال والنفس رخيصين في سبيل الهدف الإِلهي السامي، وبين من يقعده عن هذا البذل سبب آخر غير المرض الذي يحول دونه ودون المشاركة في الجهاد، (لا يستوى القاعدون من المؤمنين غير أُولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم...). وواضح من هذه الآية أنّ المقصود بالقاعدين فيها هم أُولئك المؤمنون بالإِسلام الذين لم يشاركوا في الجهاد في سبيله بسبب افتقارهم إِلى العزم الكافي لذلك، وتبيّن هنا أيضاً أنّ الجهاد المقصود لم يكن واجباً عينياً، فلو كان واجباً عينياً لما تحدث القرآن عن هؤلاء التاركين للجهاد بمثل هذه اللهجة المرنة ولم يكن ليوعدهم بالثواب. وعلى هذا الأساس فإِنّ فضل المجاهدين على القاعدين لا يمكن إِنكاره حتى لو كان الجهاد ليس واجباً عينياً، ولا تشمل الآية بأي حال من الأحوال أُولئك الذين أحجموا عن المشاركة في الجهاد نفاقاً، وعدواناً ويجب الانتباه أيضاً إِلى أنّ عبارة (غير أُولي الضرر) لها مفهوم واسع يشمل كل أُولئك الذين يعانون من نقص العضو أو المرض أو الضعف الشديد، مما يحرمهم من المشاركة في الجهاد، فهؤلاء مستثنون من ذلك. وتكرر الآية من جديد مسألة التفاضل بشكل أوضح وأكثر صراحة، وتؤكد في نهاية المقارنة، أنّ الله وهب المجاهدين أجراً عظيماً، (فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة)...
ولكن كما أسلفنا لما كان في الجانب المقابل لهؤلاء المجاهدين يقف أُولئك الذين لم يكن الجهاد بالنسبة لهم واجباً عينياً أو لم يشاركوا في الجهاد بسبب مرض أو عجز أو علة أُخرى أعجزتهم عن هذه المشاركة، فذلك ولأجل أن لا يغفل ما لهؤلاء من نيّة صالحة وإِيمان وأعمال صالحة أُخرى فقد وعدوا خيراً حيث تقول الآية الكريمة: (...وكلا وعد الله الحسنى) إِلاّ أنّه من البديهي أن هناك فرقاً شاسعاً بين الخير الذي وعد به المجاهدون، وبين ذلك الذي يصيب القاعدين من العاجزين عن المشاركة في الجهاد. وتبيّن الآية القرآنية في هذا المجال: أنّ لكل عمل صالح نصيبا محفوظا من الثواب لا يغفل ولا ينسى، خاصّة وهي تتحدث عن قاعدين أحبّوا المشاركة في الجهاد وكانوا يرونه سامياً مقدساً، وبما أن عدم كون هذا الجهاد واجباً عينياً قد حال دون تحقق هذا الهدف السامي المقدس فإِن أُولئك الذين قعدوا عن المشاركة فيه سينالون من الثواب على قدر رغبتهم في المشاركة، أمّا أُولئك الذين عجزوا عن المشاركة بسبب عاهة أو مرض إِلاّ أنّهم كانوا يرغبون في الاشتراك في الجهاد برغبة جامحة، بل كانوا يعشقون الجهاد، لذلك فإِنّ لهم أيضاً سهما ونصيبا لا ينكر من ثواب المجاهدين...
وبما أنّ أهمية الجهاد في الإِسلام بالغة جداً، لذلك تتطرق الآية مرّة أُخرى للمجاهدين وتؤكد بأن لهم أجراً عظيماً يفوق كثيراً أجر القاعدين عن الجهاد عن عجز، (...وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً)...