التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَٰبَ وَقَفَّيۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِۦ بِٱلرُّسُلِۖ وَءَاتَيۡنَا عِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَيَّدۡنَٰهُ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِۗ أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمۡ رَسُولُۢ بِمَا لَا تَهۡوَىٰٓ أَنفُسُكُمُ ٱسۡتَكۡبَرۡتُمۡ فَفَرِيقٗا كَذَّبۡتُمۡ وَفَرِيقٗا تَقۡتُلُونَ} (87)

ثم ذكرهم - سبحانه - بعد ذلك بلون آخر من ألوان جناياتهم ، فقال تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب وَقَفَّيْنَا . . . }

في هاتين الآيتين تذكير لبني إسرائيل بضرب من النعم التي أمدهم الله بها ثم قابلوها بالكفر والإِجرام .

والمراد بالكتاب الذي أعطاه الله لموسى التوراة ، فقد أنزلها عليه لهدايتهم ولكنهم حرفوها وبدلوها وخالفوا أوارمه وأولوها تأويلا سقيما .

ومعنى { وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بالرسل } أردفنا وأرسلنا من عبد موسى رسلا كثيرين متتابعين ، لإِرشاد بني إسرائيل ، وإخراجهم من الظلمات إلى النور .

يقال : قفا أثره يقفوه قفواً وقفواً ، إذا تبعه . وقفى على أثره بفلان إذا أتبعه إياه . وقفيته زيداً به : أتبعته إياه . واشتقاقه من : قفوته إذا أتبعت قفاه ، والقفا مؤخر العنق ، ثم أطلق على كل تابع ولو بعد الزمن بينه وبين متبوعه .

والرسل : جمع رسول بمعنى مرسل ، وقد أرسل الله - تعالى - رسلا بعد موسى - عليه السلام - : منهم : داود ، وسليمان ، وإلياس ، واليسع ، ويونس ، وزكريا ، ويحيى - عليهم الصلاة والسلام - .

فمن مظاهر نعم الله على بني إسرائيل ، أنه لم يكتف بإنزال الكتب لهدايتهم ، وإنما أرسل فيهم بجانب ذلك رسلا متعددين ، لكي يبشروهم وينذروهم ، ولكن بني إسرائيل قابلوا نعم الله بالجحود والكفران ، فقد حرفوا كتب الله ، وقتلوا بعض أنبيائه .

والمراد بالبينات في قوله : { وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات } الحجج والبراهين والآيات الدالة على صدقه وصحة نبوته ، فتشمل كل معجزة أعطاها الله لعيسى كإبراء الأكمة والأبرص ، وإحاء الموتى ، والإِخبار ببعض المغيبات ، وغير ذلك من المعجزات التي أيد الله بها عيسى - عليه السلام - .

وخص القرآن عيسى بالذكر لكونه صاحب كتاب هو الإِنجيل ، ولأن شرعه نسخ أحكاما من شريعة موسى - عليه السلام - .

وفي إضافة عيسى إلى أمه إبطال لما يزعمه اليهود من أن له أباً من البشر .

وقوله : { وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس } أي : قويناه مأخوذ من الأَيْدِ وهو القوة .

وروح القدس هو جبريل - عليه السلام - ، قال - تعالى - :

{ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس مِن رَّبِّكَ بالحق . . . } والإِضافة فيه من إضافة الموصوف إلى الصفة ، أي : الروح المقدس . ووصف بالقدس لطهارته وبركته . وسمى روحاً لمشابهته الروح الحقيقي في أن كلا منهما مادة لحياة البشر . فجبريل من حيث ما يحمل من الرسالة الإِلهية تحيا به القلوب . والروح تحيا به الأجسام .

أي : أننا أعطينا عيسى بن مريم الحجج الدالة على صدقه في نبوته وقويناه على ذلك كله بوحينا الذي أوحيناه إليه عن طريق جبريل - عليه السلام - .

ثم وبخ الله اليهود على أفعالهم القبيحة فقال : { أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تهوى أَنْفُسُكُمْ استكبرتم فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ } .

أي : أفكلما جاءكم يا بني إسرائيل رسول بما لا تحبه أنفسكم الشريرة استكبرتم عن اتباعه والإِيمان به وأقبلتم على هؤلاء الرسل ففريقاً منهم كذبتم ، وفريقاً آخر منهم تقتلونه غير مكتفين بالتكذيب :

وتهوى : من هوى إذا أحب " والهوى يكون في الحق ويكون في الباطل كما في هذه الآية .

واستكبرتم : تكبرتم ، والتكبر ينشأ عن الأعجاب بالنفس الذي هو أثر الجهل بها . وهو من الصفات التي متى تمكنت في النفس أوردتها المهالك ، وساقتها إلى سوء المصير .

وقدم تكذيبهم للرسل على قتلهم إياهم ، لأن التكذيب أول ما يصدر عنهم من الشر .

وعبر في جانب القتل بالفعل المضارع فقال : { تَقْتُلُونَ } ولم يقل قتلتم كما قال كذبتم ، لأن الفعل المضارع كما هو المألوف في أساليب البلاغة . يستعمل في الأفعال الماضية التي بلغت من الفظاعة مبلغاً عظيماً . ووجهه أن المتكلم يعمد بذلك الفعل القبيح كقتل الأنبياء ، ويعبر عنه بالفعل المضارع الذي يدل بحسب وضه على الفعل الواقع في الحال . فكأنه أحضر صورة قتل الأنبياء أمام السامع ، وجعله ينظر إليها بعينه ، فيكون إنكاره لها أبلغ ، واستفظاعه لها أعظم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَٰبَ وَقَفَّيۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِۦ بِٱلرُّسُلِۖ وَءَاتَيۡنَا عِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَيَّدۡنَٰهُ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِۗ أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمۡ رَسُولُۢ بِمَا لَا تَهۡوَىٰٓ أَنفُسُكُمُ ٱسۡتَكۡبَرۡتُمۡ فَفَرِيقٗا كَذَّبۡتُمۡ وَفَرِيقٗا تَقۡتُلُونَ} (87)

{ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ }( 87 )

و { الكتاب } التوراة ، ونصبه على المفعول الثاني ل { آتينا } ، { وقفينا } مأخوذ من القفا ، تقول قفيت فلاناً بفلان إذا جئت به من قبل قفاه ، ومنه قفا يقفو إذا اتبع . وهذه الأية مثل قوله تعالى : { ثم أرسلنا رسلنا تترا }( {[909]} ) [ المؤمنون : 144 ] ، وكل رسول جاء بعد موسى عليه السلام فإنما جاء بإثبات التوراة والأمر بلزومها إلى عيسى عليه السلام( {[910]} ) ، وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر «بالرسْل » ساكنة السين( {[911]} ) ، ووافقهما أبو عمرو إذا انضاف ذلك إلى ضمير نحو رسلنا ورسلهم ، و { البينات } الحجج التي أعطاها الله عيسى ، وقيل هي آياته من إحياء وإبراء وخلق طير ، وقيل هي الإنجيل ، والآية تعم جميع ذلك ، و { أيدناه } معناه قويناه ، والأيد القوة ، وقرأ ابن محيصن والأعرج وحميد «آيدناه »( {[912]} ) . وقرأ ابن كثير ومجاهد «روح القدْس » بسكون الدال . وقرأ الجمهور بضم القاف والدال ، وفيه لغة فتحهما( {[913]} ) ، وقرأ أبو حيوة «بروح القدوس » بواو ، وقال ابن عباس رضي الله عنه «روح القدس هو الاسم الذي به كان يحيي الموتى » ، وقال ابن زيد : «هو الإنجيل كما سمى الله تعالى القرآن روحاً » وقال السدي والضحاك والربيع وقتادة : «روح القدس جبريل صلى الله عليه وسلم » ، وهذا أصح الأقوال( {[914]} ) . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت : «اهج قريشاً وروح القدس معك »( {[915]} ) ومرة قال له «وجبريل معك » ، وقال الربيع ومجاهد : { القدس } اسم من أسماء الله تعالى كالقدُّوس( {[916]} ) ، والإضافة على هذا إضافة الملك إلى المالك ، وتوجهت لما كان جبريل عليه السلام من عباد الله تعالى ، وقيل { القدس } الطهارة ، وقيل { القدس } البركة .

وكلما ظرف ، والعامل فيه { استكبرتم } ، وظاهر الكلام الاستفهام ، ومعناه التوبيخ والتقرير( {[917]} ) ، ويتضمن أيضاً الخبر عنهم ، والمراد بهذه الآية بنو إسرائيل .

ويروى أن بني إسرائيل كانوا يقتلون في اليوم ثلاثمائة نبي ثم تقوم سوقهم آخر النهار( {[918]} ) ، وروي سبعين نبياً ثم تقوم سوق بقلهم آخر النهار( {[919]} ) ، وفي { تهوى } ضمير من صلة ما لطول اللفظ ، والهوى أكثر ما يستعمل فيما ليس بحق ، وهذه الآية من ذلك ، لأنهم إنما كانوا يهوون الشهوات ، وقد يستعمل في الحق ، ومنه قول عمر رضي الله عنه في قصة أسرى بدر : «فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت »( {[920]} ) ، و { استكبرتم } من الكبر ، { وفريقاً } مفعول مقدم .


[909]:- من الآية 44 من سورة المؤمنون.
[910]:- يعني أن عيسى عليه السلام ختم بني إسرائيل، وجاء بمخالفة التوراة في بعض الأحكام كما قال تعالى إخبارا عنه: (ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم، وجئتكم بآية من ربكم) فكذبه بنو إسرائيل، واشتد حسدهم له- ولذلك أيده الله بالآيات التي تدل على صدقة فيما جاء به، كما قال تعالى: [وأيدناه بروح القدس].
[911]:- التثقيل والتخفيف لغتان: الأولى لغة الحجاز، والثانية لغة تميم، وكان أبو عمرو البصري يخفف عند الإضافة إلى حرفين، ويُثقل عند الإضافة إلى حرف واحد.
[912]:- يقال: أيدناه بالتشديد، وآيدناه بالمد، والقراءة الأولى مشهورة، والثانية شاذة، وكلاهما من الأبد، والآد، بمعنى القوة، ونظيرهما في البناء: الذيْم والذام، والعيْب والعاب.
[913]:- أي الدال كصُرد، وعليه فهي لغات ثلاث.
[914]:- انظر تفسير ابن (ك)، فقد بسط القول في وجوه ترجيح ترجيح هذا القول من الكتاب والسنة وأقوال السلف الصالح.
[915]:- خرجه البخاري ومسلم.
[916]:- بضم القاف وشد الدال، أي: الطاهر المنزّه عن العيوب والنقائص. وكل فَعُّول مفتوح الأول إلا قُدّوس وفُرّوج (فرخ الدجاجة) و ذُرّوج (الذباب الهندي) كما قال بعض أهل اللغة، ولكن جاء في صحاح الجوهري أن سيبويه كان يقول: (قَدُّوس، وسبُّوح) بالفتح فيهما- وفي كثير من المعاجم ضبطت (فَروج)، بفتح الفاء.
[917]:- وفي بعض النسخ: "والتقريع".
[918]:- روى ذلك أبو داود الطيالسي ونصه: حدثنا شعبة، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي معمر، عن عبد الله بن مسعود قال: كانت بنو إسرائيل في اليوم تقتل ثلاثمائة نبي، ثم يقيمون سوق بَقلهم من آخر النهار. انتهى من (ك) عند تفسير قوله تعالى: [وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله].
[919]:- لأنهم كانوا أصحاب بقول وخضروات حتى قالوا: (لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها) الآية. وإقامتهم للسوق الذي تباع فيه أرذل الأشياء آخر النهار دلالة على قلة مبالاتهم بما فعلوا من تقتيل الأنبياء، فكيف بالأسواق التي تباع فيها النفائس؟.
[920]:- ومنه كذلك قول عائشة رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "والله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك". والحديثان خرجهما الإمام مسلم رحمه الله.