وقوله - سبحانه - : { الذين أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا الله . . . } بيان لبعض الأسباب التى من أجلها شرع الله الجهاد فى سبيله .
أى : إن الله - تعالى - لقدير على نصر المؤمنين الذين أخرجهم الكافرون من ديارهم بغير حق ، وبغير أى سبب من الأسباب ، سوى أنهم كانوا يقولون ربنا الله - تعالى - وحده ، ولن نعبد من دونه إلها آخر .
أى : ليس هناك ما يوجب إخراجهم - فى زعم المشركين - سوى قولهم ربنا الله .
ثم حرض - سبحانه - المؤمنين على القتال فى سبيله ، بأن بين لهم أن هذا القتال يقتضيه نظام هذا العالم وصلاحه ، فقال - تعالى - : { وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيراً } .
والمراد بالدفع : إذن الله المؤمنين فى قتال المشركين . والمراد بقوله : { بَعْضَهُمْ } الكافرون . وبقوله : { بِبَعْضٍ } المؤمنون .
والصوامع : جمع صومعة ، وهى بناء مرتفع يتخذه الرهبان معابد لهم .
والبيع : جمع بيعة - بكسر الباء - وهى كنائس النصارى التى لا تختص بالرهبان .
والصلوات : أماكن العبادة لليهود .
أى : ولولا أن الله - تعالى - أباح للمؤمنين قتال المشركين ، لعاث المشركون فى الأرض فسادا ، ولهدموا فى زمن موسى وعيسى أماكن العبادة الخاصة بأتباعهما ، ولهدموا فى زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - المساجد التى تقام فيها الصلاة .
قال القرطبى : قوله - تعالى - : { وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ . . . } أى : ولولا ما شرعه الله - تعالى - للأنبياء والمؤمنين من قتال الأعداء لاستولى أهل الشرك . وعطلوا ما بناه أهل الديانات من مواضع العبادات ولكنه دفع بأن أوجب القتال ليتفرغ أهل الدين للعبادة . فالجهاد أمر متقدم فى الأمم . وبه صلحت الشرائع ، واجتمعت المتعبدات ، فكأنه قال : أذن فى القتال فليقاتل المؤمنون . ثم قوى هذا الأمر فى القتال بقوله : { وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس . . . } الآية أى : لولا الجهاد والقتال لتغلب أهل الباطل على أهل الحق فى كل أمة . . .
فالآية الكريمة تفيد أن الله - تعالى - قد شرع القتال لإعلاء الحق وإزهاق الباطل ، ولولا ذلك لاختل هذا العالم ، وانتشر فيه الفساد .
والتعبير بقوله - تعالى - : { لَّهُدِّمَتْ } بالتشديد للإشعار بأن عدم مشروعية القتال ، يؤدى إلى فساد ذريع ، وإلى تحطيم شديد لأماكن العبادة والطاعة لله - عز وجل - .
وقدم الصوامع والبيع والصلوات على المساجد ، باعتبار أنها أقدم منها فى الوجود ، أو للانتقال من الشريف إلى الأشرف .
ثم ساق - سبحانه - بأسلوب مؤكد سنة من سننه التى لا تتخلف فقال : { وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } .
أى : والله لينصرن - سبحانه - من ينصر دينه وأولياءه ، لأنه - تعالى - هو القوى على كل فعل يريده ، العزيز الذى لا يغالبه مغالب ، ولا ينازعه منازع .
وقد أنجز - سبحانه - وعده وسنته ، فسلط عباده المؤمنين من المهاجرين والأنصار ، على أعدائه ، فأذلوا الشرك والمشركين وحطموا دولتى الأكاسرة والقياصرة ، وأورثهم أرضهم وديارهم .
ثم وعد تعالى بالنصر في قوله { وإن الله على نصرهم لقدير } ، وقوله { الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق } يريد كل من نبت به مكة وآذاه أهلها حتى أخرجوا بإذايتهم طائفة إلى الحبشة وطائفة إلى المدينة ، ونسب الإخراج إلى الكفار لأن الكلام في معرض تقرير الذنب وإلزامه{[8389]} ، وقوله { إلا أن يقولوا ربنا الله } استثناء منقطع ليس من الأول هذا قول سيبويه ولا يجوز عنده فيه البدل وجوزه أبو إسحاق ، والأول أصوب{[8390]} ، وقوله { ولولا دفاع الله } الآية تقوية للأمر بالقتال وذكر الحجة بالمصلحة فيه وذكر أنه متقدم في الاسم وبه صلحت الشرائع واجتمعت المتعبدات{[8391]} ، فكأنه قال أذن في القتال فليقاتل المؤمنون ولولا القتال والجهاد لتغلب على الحق في كل أمة ، هذا أصوب تأويلات الآية ، ثم ما قيل بعد من مثل الدفاع تبع للجهاد ، وقال مجاهد { ولولا دفاع الله } ظلم قوم بشهادات العدول ونحو هذا ، ولولا دفع الله ظلم الظلمة بعد الولاة ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : المعنى ولولا دفع الله بأصحاب محمد الكفار عن التابعين فمن بعدهم وهذا كله فيه دفع قوم بقوم إلا أن معنى القتال أليق بما تقدم من الآية ، وقالت فرقة { ولولا دفاع الله } العذاب بدعاء الفضلاء ونحوه وهذا وما شاكله مفسد لمعنى الآية وذلك أن الآية تقتضي ولا بد مدفوعاً من الناس ومدفوعاً عنه فتأمله ، وقرأ نافع وابن كثير «لهدمت » مخففة الدال ، وقرأ الباقون «لهدّمت » مشددة وهذا تحسن من حيث هي صوامع كثيرة ففي هدمها تكرار وكثرة كما قال
{ بروج مشيدة }{[8392]} [ النساء : 78 ] فثقل الياء وقال { قصر مشيد }{[8393]} [ الحج : 45 ] فخفف لكونه فرداً { وغلقت الأبواب }{[8394]} [ يوسف : 43 ] و { مفتحة لهم الأبواب }{[8395]} [ ص : 50 ] و «الصومعة » موضع العبادة وزنها فوعلة وهي بناء مرتفع منفرد حديد الأعلى ، والأصمع ، من الرجال الحديد القول وكانت قبل الإسلام مختصة برهبان النصارى وبعباد الصابئين ، قاله قتادة ، ثم استعمل في مئذنة المسلمين والبيع كنائس النصارى واحدتها بيعة قال الطبري : وقيل هي كنائس اليهود ثم أدخل عن مجاهد ما لا يقتضي ذلك{[8396]} ، و «الصلوات » مشتركة لكل ملة واستعير الهدم للصلوات من حيث تعطل ، أو أراد وموضع صلوات ، وذهبت فرقة إلى أن الصلوات اسم لشنائع اليهود وأن اللفظة عبرانية عربت وليست بجميع صلاة ، وقال أبو العالية الصلوات مساجد الصابئين ، واختلفت القراءة فيها فقرأ جمهور الناس «صَلَوات » بفتح الصاد واللام وبالتاء بنقطتين وذلك إما بتقدير ومواضع صلوات وإما على أن تعطيل الصلاة هدمها ، وقرأ جعفر بن محمد «صَلْوات » بفتح الصاد وسكون اللام ، وقرأت فرقة بكسر الصاد وسكون اللام حكاها ابن جني ، وقرأ الجحدري فيما روي عنه «وصُلُوات » بتاء بنقطتين من فوق وبضم الصاد واللام على وزن فعول قال وهي مساجد النصارى ، وقرأ الجحدري والحجاج بن يوسف «وصُلُوب » بضم الصاد واللام والباء على أنه جمع صليب ، وقرأ الضحاك والكلبي «وصُلُوث » بضم الصاد واللام وبالثاء منقوطة ثلاثاً قالوا وهي مساجد اليهود ، وقرأت فرقة «صَلْوات » بفتح الصاد وسكون اللام{[8397]} ، وقرأت فرقة «صُلُوات » بضم الصاد واللام حكاها ابن جني ، وقرأت فرقة «صلوثا » بضم الصاد واللام وقصر الألف بعد الثاء ، وحكى ابن جني أن خارج باب الموصل بيوتاً يدفن فيها النصارى يقال لها «صلوات » ، وقرأ عكرمة ومجاهد «صلويثا » بكسر الصاد وسكون اللام وكسر الواو وقصر الألف بعد الثاء{[8398]} قال القاضي : وذهب خصيف إلى أن هذه الأسماء قصد بها متعبدات الأمم ، و «الصوامع » للرهبان ع وقيل للصابئين ، و «البيع » للنصارى ، و «الصلوات » لليهود و «المساجد » للمسلمين والأظهر أنها قصد بها المبالغة بذكر المتعبدات وهذه الأسماء تشترك الأمم في مسمياتها إلا البيعة فإنها مختصة بالنصارى في عرف لغة العرب ، ومعاني هذه الأسماء هي في الأمم التي لها كتاب على قديم الدهر ولم يذكر في هذه المجوس ولا أهل الاشتراك لأن هؤلاء ليس لهم ما تجب حمايته ولا يوجد ذكر الله إلا عند أهل الشرائع ، وقوله { يذكر فيها } الضمير عائد على جميع ما تقدم ثم وعد الله تعالى بنصره نصرة دينه وشرعه ، وفي ذلك حض على القتال والجد فيه ثم الآية تعم كل من نصر حقاً إلى يوم القيامة .