ثم بين - سبحانه - أنه منزه عن الظلم بعد أن أقام الحجة على الظالمين ، ودعاهم إلى سلوك طريق الخير ، فقال { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً } .
والمثقال : مفعال من الثقل . ويطلق على الشئ القليل الذى يحتمل الوزن .
والذرة : تطلق على النملة ، وعلى الغبار الذى يتطاير من التراب عند النفخ .
وهذا أحقر ما يقدر به الشئ ، فعلم انتفاء ما هو أكثر منه بالأولى .
والمراد : أن الله - تعالى - لا ينقص أحدا من ثواب عمله شيئا مهما ضؤل هذا الشئ وحقر ، فخرج الكلام على أصغر شئ يعرفه الناس . كما قال - تعالى - { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } وكما فى قوله - تعالى - { وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى بِنَا حَاسِبِينَ }
ومفعول يظلم محذوف والتقدير : لا يظلم أحدا مثقال ذرة .
وقوله { مِثْقَالَ } منصوب على أنه نعت لمصدر محذوف أى لا يظلم أحد ظلما وزن ذرة . كما تقول : لا أظلم قليلا ولا كثيرا .
وقوله { وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً } بيان لسعة جوده - سبحانه - وعظيم رحمته وعفوه .
وقد قرأ نافع وابن كثير وأبو جعفر { حَسَنَةً } - بالضم - على أن { تَكُ } مضارع كان التامة أى وإن توجد أو تحصل حسنة يضاعفها .
وقرأ الباقون { حَسَنَةً } - بالنصب - على أنها خبر لقوله { تَكُ } المشتقة من كان النقاصة . وأصل { تَكُ } تكن فحذفت النون من آخر الفعل من غير قياس تشبيها لها بحروف العلة ، وتخفيفا لكثرة الاستعمال .
والضمير المستتر فى الفعل " تلك " يعود إلى المثقال . وجئ به مؤنثا مراعاة للفظ ذرة الذى أضيف إليه لفظ مثقال ؛ لأن لفظ مثقال مبهم لا يميزه إلا لفظ ذرة فكان كالمستغنى عنه .
وقيل : إنما جئ به مؤنثا حملا على المعنى ، لأنه بمعنى : وإن تك زنة ذرة حسنة يضاعفها .
وقيل : إنما جئ به كذلك لأن المضاف قد يكتسب التأنيث من المضاف إليه إذا كان جزأه كما فى نحو قولهم : كما شرقت صدر القناة من الدم . .
والمعنى : إن الله - تعالى - بفضله وجوده لا يظلم الناس شيئا ، ولا ينقصهم أى نقص من ثواب أعمالهم بل يجازيهم بها ويثيبهم عليها { وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا } أى وإن تك الفعلة الحسنة بالغة فى القلة مثقال ذرة يضاعف ثوابها بكرمه وجوده أضعافا كثيرة . وفوق ذلك فإنه - سبحانه - يعطى من يشاء إعطاءه عطاء عظيما من عنده ولا يعلم مقدار هذا العطاء إلا هو - سبحانه .
وفى إضافة هذا العطاء العظيم إلى ذاته - تعالى - فى قوله { مِن لَّدُنْهُ } تشريف له ، وتهويل من شأنه .
وسماه أجرا لكونه جزاء على العمل الصالح الذى عمله عباده المؤمنون الصادقون . هذا ، وقد أورد الإِمام ابن كثير جملة من الأحاديث فى معنى هذه الآية ومن ذلك ما رواه الشيخان عن أبى سعيد الخدرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حديث الشفاعة الطويل وفيه : فيقول الله - تعالى - لملائكته ! ارجعوا . فمن وجدتم فى قلبه مثقال حبة خردل من إيمان فأخرجوه من النار ، فيخرجون خلقا كثيرا . ثم يقول أبو سعيد : اقرؤا إن شئتم قوله - تعالى - { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } .
وروى أبو دواد الطيالسى فى مسنده عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الله لا يظلم المؤمن حسنة . يثاب عليها الرزق فى الدنيا . ويجزى بها فى الآخرة . وأما الكافر فيطعم بها فى الدنيا ، فإذا كان يوم القيامة لم يكن له حسنة " .
{ مثقال } مفعال من الثقل ، و «الذرة » : الصغيرة الحمراء من النمل ، وهي أصغر ما يكون إذا مر عليها حول ، لأنها تصغر وتجري كما تفعل الأفعى ، تقول العرب : أفعى جارية ، وهي أشدها ، وقال امرؤ القيس : [ الطويل ]
من الْقَاصِرات الطَّرْفِ لَوْ دَبَّ مُحِولٌ مِنَ الذَّرِّ فَوقَ الإتْبِ مِنْهَا لأثَّرا{[4036]}
فالمحول الذي أتى عليه حول . وقال حسان : [ الخفيف ]
لو يَدبُّ الحوليُّ من ولد الذ *** ر عليها لأنْدَبَتْها الكلومُ{[4037]}
وعبر عن الذرة يزيد بن هارون «بأنها دودة حمراء » وهي عبارة فاسدة ، وروي عن ابن عباس : «الذرة » رأس النملة ، وقرأ ابن عباس «إن الله لا يظلم مثقال نملة »{[4038]} و { مثقال } مفعول ثان ل { يظلم } ، والأول مضمر التقدير ، أن الله لا يظلم أحداً مثقال و { يظلم } لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد ، وإنما عدي هنا إلى مفعولين بأن يقدر في معنى ما يتعدى إلى مفعولين ، كأنه قال : إن الله لا ينقص أو لا يبخس أو لا يغصب ، ويصح أن يكون نصب { مثقال } على أنه بيان وصفة لمقدار الظلم المنفي ، فيجيء على هذا نعتاً لمصدر محذوف ، التقدير : إن الله لا يظلم ظلماً مثقال ذرة ، كما تقول : إن الأمير لا يظلم قليلاً ولا كثيراً ، أي لا يظلم ظلماً قليلاً ولا كثيراً ، فعلى هذا وقف { يظلم } على مفعول واحد ، وقال قتادة عن نفسه ، ورواه عن بعض العلماء ، لأن تفضل حسناتي سيئاتي بمثقال ذرة أحب إليَّ من الدنيا جميعاً ، وحذفت النون من { تكن } لكثرة الاستعمال ، وشبهها خفة بحروف المد واللين ، وقرأ جمهور السبعة «حسنةً » بالرفع على نقصان «كان » واسمها مضمر تقديره وإن تك زنة الذرة حسنة ، وقرأ نافع وابن كثير «حسنةٌ » بالرفع على تمام «كان » التقدير : وإن تقع حسنة أو توجد حسنة ، و { يضاعفها } جواب الشرط ، وقرأ ابن كثير وابن عامر «يضعفها » مشددة العين بغير ألف ، قال ابو علي : المعنى فيهما واحد ، وهما لغتان ، وقرأ الحسن «يضْعفها » بسكون الضاد وتخفيف العين ، ومضاعفة الشيء في كلام العرب : زيادة مثله إليه ، فإذا قلت : ضعفت فقد أتيت ببنية التكثير ، وإذا كانت صيغة الفعل دون التكثير تقتضي الطي{[4039]} مرتين فبناء التكثير يقتضي أكثر من المرتين إلى أقصى ما تريد من العدد ، وإذا قلت ضاعفت فليس ببنية تكثير ، ولكنه فعل صيغته دالة على الطي مرتين فما زاد ، هذه أصول هذا الباب على مذهب الخليل وسيبويه ، وقد ذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتاب المجاز : أن «ضاعفت » يقتضي مراراً كثيرة ، وضعفت يقتضي مرتين ، وقال مثله الطبري ومنه نقل ، ويدلك على تقارب الأمر في المعنى ما قرىء به في قوله { فيضاعفه له أضعافاً كثيرة } {[4040]} ، فإنه قرىء «يضاعفه ويضعفه » وما قرىء به في قوله تعالى : { يضاعف لها العذاب ضعفين }{[4041]} [ الأحزاب : 30 ] فإنها قرىء «يضعف لها العذاب ضعفين » وقال بعض المتأولين : هذه الآية خص بها المهاجرون ، لأن الله أعلم في كتابه : أن الحسنة لكل مؤمن مضاعفة عشر مرار ، وأعلم في هذه : أنها مضاعفة مراراً كثيرة جداً حسب ما روى أبو هريرة من أنها تضاعف ألفي ألف مرة ، وروى غيره من أنها تضاعف ألف ألف مرة{[4042]} ، ولا يستقيم أن يتضاد الخبران ، فهذه مخصوصة للمهاجرين السابقين ، حسبما روى عبد الله بن عمر : أنها لما نزلت { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها }{[4043]} في الناس كافة قال رجل : فما للمهاجرين ؟ فقال ما هو أعظم من هذا { إن الله لا يظلم }{[4044]} الآية فخصوا كما خصت نفقة سبيل الله بتضعيف سبعمائة مرة{[4045]} ، ولا يقع تضاد في الخبر ، وقال بعضهم : بل وعد بذلك جميع المؤمنين ، وروي في ذلك أحاديث ، وهي : أن الله عز وجل يجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد ، فينادي هذا فلان بن فلان ، فمن كان له عنده حق فليقم قال : فيحب الإنسان لو كان له يومئذ الحق على أبيه وابنه ، فيأتي كل من له حق فيأخذ من حسناته حتى يقع الانتصاف ، ولا يبقى له إلا وزن الذرة ، فيقول الله تعالى : أضعفوها لعبدي واذهبوا به إلى الجنة{[4046]} ، وهذا يجمع معاني ما روي مما لم نذكره ، والآية تعم المؤمنين والكافرين فأما المؤمنون فيجازون في الآخرة على مثاقيل الذر فما زاد وأما الكافرون فما يفعلون من خير فتقع المكافأة عليه بنعم الدنيا ويجيئون يوم القيامة ولا حسنة لهم ، و { لدنه } معناه من عنده ، قال سيبويه : ولدن : هي لابتداء الغاية ، فهي تناسب أحد مواضع من ، ولذلك التأما ودخلت { من } عليها{[4047]} ، والأجر العظيم : الجنة ، قاله ابن مسعود وسعيد بن جبير وابن زيد ، والله إذا منَّ بتفضله بلغ بعبده الغاية{[4048]} .