ثم حكى القرآن بعض ما حدث بعد قتل الأخ أخاه فقال : { فَبَعَثَ الله غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأرض لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذا الغراب فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النادمين } .
وقوله : { فَبَعَثَ } من البعث بمعنى الإِرسال . وهو هنا مستعمل في الإِلهام بالطير إلى ذلك المكان بحيث يراه قابيل .
والغراب : طائر معروف . قالوا : والحكمة في كونه المبعوث دون غيره من الطيور أو الحيوان ، لأنه يتشاءم به في الفراق والاغتراب . أو لأن من عادة الغراب دفن الأشياء .
وقوله : { يَبْحَثُ فِي الأرض } أي : ينبش التراب بمنقابره ورجليه بحيث يستخرجه من الأرض ، ليعمل ما يشبه الحفرة .
والتعبير بالمضارع ، للإِشارة إلى أن البحث قد مكث وقتا ، وكان مجال استمرار .
وقوله : ( ليريه ) إما متعلق بقوله ( بعث ) فيكون الضمير في الفعل لله - تعالى - أو متعلق بقوله : ( يبحث ) فيكون الضمير للغراب .
قال القرطبي : قال مجاهد : بعث الله غرابين فاقتتلا حتى قتل أحدهما الآخر ثم حفر فدفنه - فتعلم قابيل ذلك من الغراب - وكان ابن آدم هذا أول من قتل . وقيل إن الغراب بحث الأرض على طعمه - أي : أكله - ليخفيه إلى وقت الحاجة إليه ، لأن عادة الغرب فعل ذلك ، فتنبه قابيل بذلك على مواراة أخيه " .
" والسوءة " ما تسوء رؤيته من الجسد ، والمراد بها هنا : جميع جسد الميت وقيل : المراد بها العورة ، لأنها تسوء ناظرها . وخصت بالذكر مع أن المراد مواراة جميع الجسد للاهتمام بها ، لأن سترها آكد .
وهذه الآية مرتبطة بكلام يسبقها لم يذكره القرآن الكريم لفهمه من السياق .
والتقدير : أن القاتل بعد أن ارتكب جريمته . ورأى جثة أخيه أمامه ملقاة في العراء . تحير ماذا يفعل فيها حتى لا يتركها عرضة لنهش السباع والطيور . { فَبَعَثَ الله غُرَاباً يَبْحَثُ } أي : يحفر وينبش بمنقاره ورجلريه متعمقا { فِي الأرض } { لِيُرِيَهُ } أي : ليعلم ذلك القاتل ويعرفه { كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ } أي : كيف يستر في التراب جسم أخيه بعد أن فارقته الحياة ، وأصبح عرضة للتغير والتعفن .
وقوله - تعالى - { قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذا الغراب فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي } بيان لما اعترى هذا القاتل من تحسر وندم .
وكلمة { قَالَ يَاوَيْلَتَا } أصلها : يا ويلتي . وهي كلمة جزت وتحسر . تستعمل عند وقوع المصيبة العظيمة كأن المتحسر ينادي ويلته ويطلب حضورها ، بعد تنزيلها منزلة من ينادي . ولا يكون ذلك إلى في أشد الأحوال ألما ، والويلة كالويل : ومعناهما الفضيحة والبلية والهلاك .
أي : قال القاتل لأخيه ظلما وحسدا بجزع وحسرة - بعد أن رأى غرابا يحفر حفرة ليدفن فيها شيئا - قال { يَاوَيْلَتَا } أي : يا فضيحيتي وبليتي أقبليي فهذا وقتك ، لأني قد نزلت بي أسبابك .
وقوله : { أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذا الغراب فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي } أي : أضعفت عن الحيلة التي تجعلني مثل هذا الغراب فأستر جسد أخي في التراب كما دفن الغراب بمنقاره ورجليه في الأرض ما أراد دفنه ؟ ! والاستفهام في ( أعجزت ) للتعجب من عدم اهتدائه إلى ما اهتدى إليه الغراب ، مع أنه إنسان فيه عقل ، والغراب طائر من أخس الطيور .
وقوله : ( فأوارى ) معطوف على قوله : ( أن أكون ) .
وقوله : { فَأَصْبَحَ مِنَ النادمين } ، تذييل قصد به بيان ما أصاب قابيل بعد أن قتل أخاه عدوانا وحسدا ، ولم يعرف كيف يستر جثته إلا من الغراب .
والندم : أسف الفاعل على فعل صدر منه .
قال الراغب : الندم والندامة التحسر من تغير رأى في أمر فائت . قال - تعالى - : { فَأَصْبَحَ مِنَ النادمين } .
وأصله من منادمة الحزن له وملازمته إياه .
والمعنى : فأصبح قابيل الذي قتل أخاه هابيل بغيا وحسدا من النادمين على ما اقترف من فواحش تدل على جهله ، وبغيه ، وتمكن الحقد من نفسه .
قال صاحب المنار : والندم الذي ندمه - قابيل - هو ما يعرض لكل إنسان عقب ما يصدر عنه من الخطأ في فعله فعله إذا ظهر له أن قفعله كان شرا له لا خيرا . وقد يكون الندم توبة إذا كان سببه الخوف من الله ، والتألم من تعدي حدوده ، وهذا هو المراد بحديث " الندم توبة " - رواه أحمد والبخاري في تاريخه والحاكم البيهقي .
وأما الندم الطبيعي الذي أشرنا إليه فلا يعد وحده توبة . وفي حديث ابن مسعود في الصحيحين مرفوعا : " لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم كفل - أي نصيب - من دمها ؛ لأنه أول من سن القتل " .
وقوله تعالى : { فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه } روي في معناه أن قابيل جعل أخاه في جراب ومشى به يحمله في عنقه مائة عام . وقيل : سنة واحدة ، وقيل : بل أصبح في ثاني يوم قتله يطلب إخفاء أمر أخيه ، فلم يدر ما يصنع به ، فبعث الله غرابا حيا إلى غراب ميت ، فجعل يبحث في الأرض ويُلقي التراب على الغراب الميت . وروى أن الله تعالى بعث غرابين فاقتتلا حتى قتل أحدهما الآخر ، ثم جعل القاتل يبحث ويواري الميت ، وروي أن الله تعالى إنما بعث غرابا واحدا فجعل يبحث ويلقي التراب على هابيل .
وظاهر هذه الآية أن هابيل هو أول ميت من بني آدم ، ولذلك جهلت سنة المواراة ، وكذلك حكى الطبري عن ابن إسحاق عن بعض أهل العلم بما في الكتب الأولى .
و[ يبحث ] معناه : يفتش التراب بمنقاره ويثير ، ومن هذا سميت سورة ( براءة )- البحوث{[4513]}- لأنها فتشت عن المنافقين ، ومن ذلك قول الشاعر :
إن الناس غطوني تغطيت عنهم *** وإن بحثوني كان فيهم مباحث{[4514]}
وفي مثل : لا تكن كالباحث عن الشفرة{[4515]} .
والضمير في قوله : [ سوءة أخيهِ يحتمل أن يعود على قابيل ، ويراد بالأخ هابيل ، ويحتمل أن يعود على الغراب الباحث ، ويراد بالأخ الغراب الميت ، والأول أشهر في التأويل ، والسوأة : العورة ، وخصت بالذكر مع أن المراد مواراة جميع الجسد للاهتمام بها ، ولأن سترها أوكد ، ويحتمل أن يراد بالسوأة هذه الحالة التي تسوء الناظر بمجموعها ، وأضيفت إلى المقتول من حيث نزلت به النازلة لا على جهة الغض منه ، بل الغض لاحق للقاتل ، وهو الذي أتى بالسوأة ، وقرأ الجمهور : [ فأواري ] بنصب الياء ، وقرأ طلحة بن مصرف ، والفياض بن غزوان : [ فأواري ] بسكون الياء ، وهي لغة لتوالي الحركات .
ولما رأى قابيل فعل الغراب تنبه على ما يجب أن يصنع بأخيه ، ورأى قصور نفسه وجهل البشر بالأمور ، فقال : [ يا ويلتي أعجزت ] الآية ، واحتقر نفسه ، ولذلك ندم ، وقرأ الجمهور : [ يا ويلتَى ] والأصل : يا ويلتي ، لكن من العرب من يبدل من الياء ألفا ويفتح الياء لذلك ، فيقولون : يا ويلتَى ويا غلامَا . ويقف بعضهم على هاء السكت فيقول : يا ويلتاه . وقرأ الحسن بن أبي الحسن : [ يا ويلتي ]{[4516]} . ونداء الويلة هو على معنى : احضري فهذا أوانك ، وهذا هو الباب في قوله : [ يا حسرة ]{[4517]} ، وفي قولهم : يا عجبا وما جرى مجراه من نداء هذه الأمور التي لا تعقل وهي معان . وقرأ الجمهور : [ أعجزت ] بفتح الجيم ، وقرأ ابن مسعود ، والحسن ، والفياض ، وطلحة بن سلميان : [ أعجزت ] بكسر الجيم ، وهي لغة{[4518]} .
ثم إن قابيل وارى أخاه ، وندم على ما كان منه من معصية الله في قتله حيث لا ينفع الندم ، اختلف العلماء في قابيل- هل هو من الكفار أو من العصاة ؟ والظاهر أنه من العصاة ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن الله ضرب لكم ابني آدم مثلا فخذوا من خيرهما ودعوا الشر ){[4519]} .