التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{أَلَمۡ يَرَوۡاْ كَمۡ أَهۡلَكۡنَا مِن قَبۡلِهِم مِّن قَرۡنٖ مَّكَّنَّـٰهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مَا لَمۡ نُمَكِّن لَّكُمۡ وَأَرۡسَلۡنَا ٱلسَّمَآءَ عَلَيۡهِم مِّدۡرَارٗا وَجَعَلۡنَا ٱلۡأَنۡهَٰرَ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهِمۡ فَأَهۡلَكۡنَٰهُم بِذُنُوبِهِمۡ وَأَنشَأۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِمۡ قَرۡنًا ءَاخَرِينَ} (6)

{ أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ } .

قال القرطبى : " القرن الأمة من الناس والجمع القرون . قال الشاعر :

إذا ذهب القرن الذى كنت فيهم . . . وخلفت فى قرن فأنت غريب

فالقرن كل عالم فى عصره ، مأخوذ من الاقتران ، أى عالم مقترن بعضهم إلى بعض ، وفى الحديث الشريف : " خير الناس قرنى - يعنى أصحابى - ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم " فالقرن على هذا مدة من الزمان ، قيل : ستون عاما ، وقيل : سبعون ، وقيل ، ثمانون ، وقيل مائة - وعليه أكثر أصحاب الحديث - أن القرن مائة سنة ، واحتجوا بأن النبى صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله ابن بشر : " تعيش قرنا " فعاش مائة .

والاستفهام الذى صدرت به الآية الكريمة لتوبيخ الكفار وتبكيتهم ، وإنكار ما وقع منهم من إعراض واستهزاءن وهو داخل على فعل محذوف دل عليه سابق الكلام ولاحقه .

والتقدير : أعموا عن الحق وأعرضوا عن دلالئله ، ولم يروا بتدبر وتفكر كم أهلكنا من قبلهم من أقوام كانوا أشد منهم قوة وأكثر جمعا .

وجملة { أَهْلَكْنَا } سدت فسد مفعول رأى إن كانت بصرية ، وسدت مسد مفعوليها إن كانت علمية ، و { كَمْ } مفعول مقدم لأهلكنا ، و { مِن قَبْلِهِم } على حذف المضاف ، أى : من قبل زمنهم ووجودهم .

قال صاحب المنار : وكان الظاهر أن يقال : مكناهم فى الأرض - أى القرون - ما لم نمكنهم ، أى الكفار المحكى عنهم المستفهم عن حالهم ، فعدل عن ذلك بالالتفات من الغيبة إلى الخطاب ، لما فى إيراد الفعلين بضميرى الغيبة من إيهام اتحاد مرجعهما ، وكون المثبت عين المفنى ، فقيل ما لم نمكن لكم .

و { مَا } في قوله { مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ } يحتمل أن تكون موصولة بمعنى الذى ، وهى حينئذ صفة لمصدر محذوف . والتقدير : مكناهم فى الأرض التمكين الذى لم نمكن لكم ، والعائد محذوف : أى الذى لم نمكنه لكم . ويحتمل أن تكون نكرة موصوفة بالجملة المنفية بعدها والعائد محذوف .

أى : مكناهم فى الأرض شيئاً لم نمكنه لكم .

وفى تعدية الأول وهو { مَّكَّنَّاهُمْ } بنفسه والثانى هو { نُمَكِّن لَّكُمْ } باللام إشارة إلى أن السابقين قد مكنوا بالفعل من وسائل العيش الرغيد ما لم يتيسر مثله لهؤلاء المنكرين لدعوة الإسلام ، وهذا أعظم فى باب القدرة على إهلاك هؤلاء الذين هم أعجز من سابقيهم .

هذا ، وقد وصف الله أولئك المهلكين بسبب اجتراحهم للسيئات بصفات ثلاث لم تتوفر للمشركين المعاصرين للنبى صلى الله عليه وسلم .

وصفهم - أولا - بأنهم كانوا أوسع سلطانا ، وأكثر عمرانا ، وأعظم استقراراً ، كما يفيده قوله تعالى { مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ } .

قال صاحب الكشاف : " والمعنى لم نعط أهل مكة نحو ما أعطينا قوم عاد وثمود وغيرهم من البسطة فى الأجسام ، والسعة فى الأموال ، والاستظهار بأسباب الدنيا " .

ووصفهم - ثانيا - بأنهم كانوا أرغد عيشا ، وأسعد حالا ، وأهنأ بالا ، يدل على ذلك قوله تعالى :

{ وَأَرْسَلْنَا السمآء عَلَيْهِم مِّدْرَاراً } أى : أنزلنا عليهم المطر النافع بغزارة وكثرة ، وعبر عنه بالسماء لأنه ينزل منها .

ووصفهم - ثالثا - بأنهم كانوا منعمين بالمياه الكثيرة التى يسيرون مجاريها كما يشاءون ، فيبنون مساكنهم على ضفافها . ويتمتعون بالنظر إلى مناظرها الجميلة ، كما يرشد إليه قوله - تعالى - : { وَجَعَلْنَا الأنهار تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ } أى : صيرنا الأنهار تجرى من تحت مساكنهم .

ولكن ماذا كانت عاقبة هؤلاء المنعمين بتلك النعم الوفيرة التى لم تتيسر لأهل مكة ؛ كانت عاقبتهم - كما أخبر القرآن عنهم - { فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ } أى : فكفروا بنعمة الله وجحدوا فأهلكناهم بسبب ذلك ، إذ الذنوب سبب الانتقام وزوال النعم .

والإهلاك بسبب الذنوب له مظهران :

أحدهما : أن الذنوب ذاتها تهلك الأمم ، إذ تشيع فيها الترف والغرور والفساد فى الأرض ، وبذلك تنحل وتضمحل وتذبه قوتها .

والمظهر الثانى : إهلاك الله - تعالى - لها عقابا على أوزارها .

وقوله - تعالى - فى ختام الآية { وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ } يدل على كمال قدرة الله ، ونفاذ إرادته ، وأن إهلالكه لتلك الأمم بسبب ذنوبها لم ينقص من ملكه شيئا ، لأنه - سبحانه - كلما أهلك أمة أنشأ من بعدها أخرى .

قال - تعالى - { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم } ثم بين القرآن توغلهم فى الجحود والعناد ، وانصرافهم عن الحق مهما قويت أدلته ،

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{أَلَمۡ يَرَوۡاْ كَمۡ أَهۡلَكۡنَا مِن قَبۡلِهِم مِّن قَرۡنٖ مَّكَّنَّـٰهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مَا لَمۡ نُمَكِّن لَّكُمۡ وَأَرۡسَلۡنَا ٱلسَّمَآءَ عَلَيۡهِم مِّدۡرَارٗا وَجَعَلۡنَا ٱلۡأَنۡهَٰرَ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهِمۡ فَأَهۡلَكۡنَٰهُم بِذُنُوبِهِمۡ وَأَنشَأۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِمۡ قَرۡنًا ءَاخَرِينَ} (6)

هذا حض على العبرة ، والرؤية هنا رؤية القلب ، و { كم } في موضع نصب ب { أهلكنا } ، والقرن :الأمة المقترنة في مدة من الزمان ، ومنه قوله عليه السلام : ( خير الناس قرني ) الحديث{[4823]} ، واختلف الناس في مدة القرن كم هي ؟ فالأكثر على أنها مائة سنة ، ويرجح ذلك الحديث الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أرأيتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة منها لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد » قال ابن عمر : يريد أنها تخرم{[4824]} ذلك القرن ، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن بشر{[4825]} : تعيش قرناً فعاش مائة سنة ، وقيل : القرن ثمانون سنة ، وقيل سبعون وقيل ستون ، وتمسك هؤلاء بالمعترك{[4826]} وحكى النقاش أربعين وذكر الزهراوي في ذلك أنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وحكى النقاش أيضاً ثلاثين ، وحكى عشرين ، وحكى ثمانية عشر وهذا كله ضعيف ، وهذه طبقات وليست بقرون إنما القرن أن يكون وفاة الأشياخ ثم ولادة الأطفال ، ويظهر ذلك من قوله تعالى : { ثم أنشأنا من بعدهم قرناً آخرين }{[4827]} ، وإلى مراعاة الطبقات وانقراض الناس بها أشار ابن الماجشون في الواضحة في تجويز شهادة السماع في تقادم خمسة عشر عاماً فصاعداً ، وقيل القرن الزمن نفسه ، وهو على حذف مضاف تقديره من أهل قرن ، والضمير في { مكناهم } عائد على القرن ، والمخاطبة في { لكم } هي للمؤمنين ولجميع المعاصرين لهم من سائر الناس ، فكأنه قال : ما لم نمكن يا أهل العصر لكم ، فهذا أبين ما فيه ، ويحتمل أن يقدر في الآية معنى القول لهؤلاء الكفرة ، كأنه قال يا محمد قل لهم : { ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ، ما لم نمكن لكم } وإذا أخبرت أنك قلت لغائب أو قيل له أو أمرت أن يقال ذلك في فصيح كلام العرب أن تحكي الألفاظ المقولة بعينها فتجيء بلفظ المخاطبة ، ولك أن تأتي بالمعنى في الألفاظ بذكر غائب دون مخاطبة . و{ السماء } المطر ومنه قول الشاعر :

إذا نزل السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا{[4828]}

و { مدراراً } بناء تكثير كمذكار ومئناث ، ومعناه يدر عليهم بحسب المنفعة ، لأن الآية إنما سياقها تعديد النعم وإلا فظاهرها يحتمل النعمة ويحتمل الإهلاك ، وتحتمل الآية أن تراد السماء المعروفة على تقدير وأرسلنا مطر السماء لأن مدراراً لا يوصف به إلا المطر ، وقوله تعالى : { فأهلكناهم } معناه فعصوا وكفروا { فأهلكناهم } ، { وأنشأنا } اخترعنا وخلقنا ، وجمع { آخرين } حملاً على معنى القرن .


[4823]:-الحديث رواه الإمام أحمد، والبخاري، ومسلم، والترمذي عن ابن مسعود، ونصه: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء أقوام تستبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته) وفي بعض الروايات (خيركم).
[4824]:- بمعنى أنها تنهي ذلك القرن وتفنيه، والحديث في البخاري، وفي مسند الإمام أحمد.
[4825]:- هكذا في الأصول وضبطه محقق القرطبي (بُسر) بالباء المضمومة والسين، وعبد الله ابن بشر الحمصي ذكره البغوي في الصحابة، وعبد الله بن بسر النصري ذكره أبو زرعة الدمشقي في الصحابة، ولا نقطع بصحة الاسم خصوصا وأن المصادر ذكرت أيضا عبد الله بن بُسر المازني، ولم تحدد أي الثلاثة هو صاحب الحديث، وروى ابن الأثير الحديث في النهاية: "أنه مسح على رأس غلام". ولم يذكر اسمه.
[4826]:-إشارة إلى الحديث: "معترك المنايا ما بين الستين إلى السبعين"، قال في الجامع الصغير: رواه الحكيم عن أبي هريرة، ورمز له بالضعف.
[4827]:- الآية (31) من سورة (المؤمنون).
[4828]:-ينسب هذا البيت لمعوّد الحكماء- معاوية بن مالك- وسمي بذلك لقوله: أعوّد مثلها الحكماء بعدي إذا ما الحق في الحدثان نابا وقد روي البيت: "إذا سقط السماء" بدلا من "إذا نزل..."