ثم ساق - سبحانه - جانبا مما قاله موسى - عليه السلام - لقومه . وكيف أنهم عندما انصرفوا عن الحق ، عاقبهم - سبحانه - بما يستحقون من عقاب فقال : { وَإِذْ قَالَ موسى . . . } .
موسى - عليه السلام - هو انب عمران ، وهو واحد من أولى العزم من الرسل ، وينتهى نسبه إلى إبراهيم - عليه السلام - .
وقد أرسله الله - تعالى - إلى فرعون وقومه وإلى بنى إسرائيل ، وقد لقى - عليه السلام - من الجميع أذى كثيرا .
ومن ذلك أن فرعون وقومه وصفوه بأنه ساحر ، وبأنه مهين ، ولا يكاد يبين .
وأن بنى إسرائيل قالوا له عندما أمرهم بطاعته : وسمعنا وعصينا ، وقالوا له : أرنا الله جهرة وقالوا له : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة . . . وقالوا له : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون .
وقالوا عنه : إنه مصاب فى جسده بالأمراض ، فبرأه الله - تعالى - مما قالوا .
قال ابن كثير : وفى هذا تسلية لرسوله - صلى الله عليه وسلم - فيما أصابه من الكفار من قومه وغيرهم ، وأمر له بالصبر ، ولهذا قال : " رحمة الله على موسى ، لقد أوذى بأكثر من هذا فصبر " .
وفيه نهى للمؤمنين عن أن ينالوا من النبى - صلى الله عليه وسلم - ، أو يوصلوا إليه أذى ، كما قال - تعالى - { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين آذَوْاْ موسى فَبرَّأَهُ الله مِمَّا قَالُواْ وَكَانَ عِندَ الله وَجِيهاً } أى : واذكر - أيها الرسول الكريم - وذكر أتباعك ليتعظوا ويعتبروا ، وقت أن قال موسى - عليه السلام - لقومه على سبيل الإنكار والتعجيب من حالهم .
{ ياقوم لِمَ تُؤْذُونَنِي } : قال لهم : يا أهلى ويا عشيرتى لماذا تلحقون الأذى بى ؟ .
" وقد " فى قوله - تعالى - : { وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ } للتحقيق ، والجملة حالية ، وجىء بالمضارعة بعد " قد " للدلالة على أن علمهم بصدقه متجدد بتجدد ما يأتيهم به من آيات ومعجزات .
قال الجمل : قوله : { وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ } قد للتحقيق . أى : تحقيق علمهم . أى : لا للتقريب ولا للتقليل ، وفائدة ذكرها التأكيد ، والمضارع بمعنى الماضى .
أى : وقد علمتم ، وعبر بالمضارع ليدل على استصحاب الحال ، وعلى أنها مقررة للإنكار . فإن العلم برسالته يوجب تعظيمه ، ويمنع إيذاءه ؛ لأن من عرف الله - تعالى - وعظمته ، عظَّم رسوله .
ثم بين - سبحانه - ما ترتب على إيثارهم الغى على الهدى ، فقال : { فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ } .
والزيغ : هو الميل عن طريق الحق ، يقال : زاغ يزيغ زيغا وزيغانا ، إذا مال عن الجادة ، وأزاغ فلان فلانا ، إذا حوله عن طريق الخير إلى طريق الشر .
أى : فلما أصروا على الميل عن الحق مع علمهم به . واستمروا على ذلك دون أن تؤثر المواعظ فى قلوبهم . . . أمال الله - تعالى - قلوبهم عن قبول الهدى .
لإيثارهم الباطل على الحق والضلالة على الهداية .
كما قال - تعالى - : { وَمَن يُشَاقِقِ الرسول مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين نُوَلِّهِ مَا تولى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً } وقوله - سبحانه - : { والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين } تذييل قصد به التقرير لما قبله ، من أن الزيغ يؤدى إلى عدم الهداية ، وبيان سنة من سنن الله فى خلقه ، وهى أن من استحب العمى على الهدى ، وأصر على ذلك . . . كانت عاقبه الخسران .
أى : وقد اقتضت حكمة الله - تعالى - أن لا يهدى القوم الخارجين عن طريق الحق ، إلى ما يسعدهم فى حياتهم وبعد مماتهم ، لأنهم هم الذين اختاروا طريق الشقاء ، وأصروا على سولكها .
{ وإذ قال موسى لقومه }مقدرا بأذكر أو كان كذا { يا قوم لم تؤذونني } بالعصيان والرمي بالادرة ، { وقد تعلمون أني رسول الله إليكم } بما جئتكم من المعجزات ، والجملة حال مقررة للإنكار فإن العلم بنبوته يوجب تعظيمه ويمنع إيذاءه وقد لتحقيق العلم ، { فلما زاغوا }عن الحق{ أزاغ الله قلوبهم }صرفها عن قبول الحق والميل إلى الصواب ، { والله لا يهدي الفاسقين }هداية موصلة إلى معرفة الحق أو إلى الجنة .
موقع هذه الآية هنا خفي المناسبة . فيجوز أن تكون الجملة معترضة استئنافاً ابتدائياً انتقل به من النهي عن عدم الوفاء بما وعدوا الله عليه إلى التعريض بقوم آذوا النبي صلى الله عليه وسلم بالقول أو بالعصيان أو نحو ذلك ، فيكون الكلام موجهاً إلى المنافقين ، فقد وسموا بأذى الرسول صلى الله عليه وسلم قوله تعالى : { إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة } [ الأحزاب : 57 ] الآية . وقوله تعالى : { والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم } [ التوبة : 61 ] وقوله : { ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن } [ التوبة : 61 ] .
وعلى هذا الوجه فهو اقتضاب نقل به الكلام من الغرض الذي قبله لتمامه إلى هذا الغرض ، أو تكون مناسبة وقعه في هذا الموقع حدوث سبب اقتضى نزوله من أذى قد حدث لم يطلع عليه المفسرون ورواة الأخبار وأسباب النزول .
والواو على هذا الوجه عطف غرض على غرض . وهو المسمّى بعطف قصة على قصة .
ويجوز أن يكون من تتمة الكلام الذي قبلها ضرب الله مثلاً للمسلمين لتحذيرهم من إتيان ما يؤذي رسوله صلى الله عليه وسلم ويسوؤوه من الخروج عن جادة الكمال الديني مثل عدم الوفاء بوعدهم في الإِتيان بأحبّ الأعمال إلى الله تعالى . وأشفقهم من أن يكون ذلك سبباً للزيغ والضلال كما حدث لقوم موسى لمَّا آذوه .
وعلى هذا الوجه فالمراد بأذى قوم موسى إياه : عدم توخي طاعته ورضاه ، فيكون ذلك مشيراً إلى ما حكاه الله عنه من قوله : { يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين } [ المائدة : 21 ] ، إلى قوله : { قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون } [ المائدة : 24 ] . فإن قولهم ذلك استخفاف يدل لذلك قوله عَقِبَه { قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين } [ المائدة : 25 ] .
وقد يكون وصفهم في هذه الآية بقوله : { والله لا يهدي القوم الفاسقين } ناظراً إلى وصفهم بذلك مرتين في آية سورة العقود في قوله : { فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين } [ المائدة : 25 ] وقوله : { فلا تأس على القوم الفاسقين } [ المائدة : 26 ] .
فيكون المقصود الأهم من القصة هو ما تفرع على ذكرها من قوله : { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } . ويناسب أن تكون هذه الآية تحذيراً من مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وعبرة بما عرض لهم من الهزيمة يوم أُحُد لما خالفوا أمره من عدم ثبات الرماة في مكانهم .
وقد تشابهت القصتان في أن القوم فرّوا يوم أُحُد كما فرّ قوم موسى يوم أريحا ، وفي أن الرماة الذين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يبرحوا مكانهم « ولو تخطَّفَنا الطير » وأن ينضحوا عن الجيش بالنبال خشية أن يأتيه العدوّ من خلفه لم يفعلوا ما أمرهم به وعصوا أمر أميرهم عبد الله بن جبير وفارقوا موقفهم طلباً للغنيمة فكان ذلك سبب هزيمة المسلمين يوم أُحُد .
والواو على هذا الوجه عطف تحذير مأخوذ من قوله : { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } على النهي الذي في قوله : { لم تقولون ما لا تفعلون } [ الصف : 2 ] الآية .
ويتبع ذلك تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم على ما حصل من مخالفة الرماة حتى تسببوا في هزيمة الناس .
و { إذ } متعلقة بفعل محذوف تقديره : اذْكُر ، وله نظائر كثيرة في القرآن ، أي اذكر لهم أيضاً وقت قول موسى لقومه أو اذكر لهم مع هذا النهي وقت قول موسى لقومه .
وابتداء كلام موسى عليه السلام ب { يا قوم } تعريض بأن شأن قوم الرسول أن يطيعوه بَلْهَ أن لا يؤذوه . ففي النداء بوصف { قوم } تمهيد للإِنكار في قوله : { لم تؤذونني } .
والاستفهام للإِنكار ، أي إنكار أن يكون للإِذاية سبب كما تقدم في قوله تعالى : { لم تقولون ما لا تفعلون .
وقد جاءت جملة الحال من قوله : { وقد تعلمون أني رسول الله } مصادفة المحلّ من الترقّي في الإِنكار .
و { قد } لتحقيق معنى الحالية ، أي وعلمكم برسالتي عن الله أمر محقق لما شاهدوه من دلائل رسالته ، وكما أكد علمهم ب { قَد } أكد حصول المعلوم ب ( أنّ ) المفتوحة ، فحصل تأكيدان للرسالة . والمعنى : فكيف لا يجري أمركم على وفق هذا العلم .
والإِتيان بعد { قد } بالمضارع هنا للدلالة على أن علمهم بذلك مجدّد بتجدد الآيات والوحي ، وذلك أجدى بدوام امتثاله لأنه لو جيء بفعل المضي لما دلّ على أكثر من حصول ذلك العلم فيما مضى . ولعله قد طرأ عليه ما يبطله ، وهذا كالمضارع في قوله : { قد يعلم الله المعوقين منكم } في سورة [ الأحزاب : 18 ] .
والزيغ : الميل عن الحق ، أي لما خالفوا ما أمرهم رسولهم جعل الله في قلوبهم زيغاً ، أي تمكن الزيغ من نفوسهم فلم ينفكوا عن الضلال .
وجملة { والله لا يهدي القوم الفاسقين } تذييل ، أي وهذه سنة الله في الناس فكان قوم موسى الذين آذوْه من أهل ذلك العموم .
وذُكر وصف { الفاسقين } جارياً على لفظ { القوم } للإِيماء إلى الفسوق الذي دخل في مقوّمات قوميتهم . كما تقدم عند قوله تعالى : { إن في خلق السماوات والأرض إلى قوله : { لآيات لقوم يعقلون } في [ البقرة : 164 ] .
فالمعنى : الذين كان الفسوق عن الحق سجية لهم لا يلطف الله بهم ولا يعتني بهم عناية خاصة تسوقهم إلى الهدى ، وإنما هو طوع الأسباب والمناسبات .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإذ قال موسى لقومه} وهم مؤمنون، وهم الأسباط اثنا عشر سبطا، {يا قوم لم تؤذونني}... ثم رجع إلى مخاطبة موسى، فقال: {وقد تعلمون أني رسول الله إليكم فلما زاغوا} يقول: مالوا عن الحق، وعدلوا عنه {أزاغ الله} يعني أمال الله {قلوبهم والله لا يهدي} إلى دينه من الضلالة {القوم الفاسقين} يعني العاصين...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واذكر يا محمد إذْ قالَ مُوسَى بن عمران" لِقَوْمِهِ يا قَوْم لِمَ تُؤذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ "حقا "أنى رَسُولُ اللّه إلَيْكُمْ".
وقوله: {فَلَمّا زَاغُوا أزَاغَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ} يقول: فلما عدلوا وجاروا عن قصد السبيل "أزاغ الله قلوبهم": يقول: أمال الله قلوبهم عنه...
{وَاللّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفاسِقِينَ} يقول: والله لا يوفّق لإصابة الحقّ القوم الذين اختاروا الكفر على الإيمان.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وإذ قال موسى لقومه لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم} يحتمل وجهين:
أحدهما: تنبيه لهم وإعلام عن معاملة اعتادوها في ما بينهم من غير أن يعلموا فيها أذى لموسى عليه السلام نحو أن قال في حق رسولنا صلى الله عليه وسلم {ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} [الحجرات: 2]. فيجوز أن يكونوا، لا يعدّون تلك المعاملة أذى لموسى عليه السلام ولا يعلمونها، فأخبرهم أنها تؤذيه لينتهوا عن ذلك. والثاني: أنه يجوز أن يكونوا علموا أن ذلك يؤذيه، ولكنهم عاندوه، وكابروه، فيخبرهم أن كيف {تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم} وقد علموا أن حق رسل الملوك التعظيم والتبجيل، فكيف رسول رب العالمين؟ فأخبرهم أنهم يؤذونه شكاية منهم إليهم. ثم اختلفوا في الأذى، فقال بعضهم: إن موسى عليه السلام كان لا يكشف عن نفسه، فآذوه بأن قالوا: إن في بدنه آفة ومكروها... وقالوا {يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة} [الأعراف 138] وقالوا {لن نصبر على طعام واحد} [البقرة: 61]. ثم حق هذه في رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج على وجهين: أحدهما: أنه يجوز أن يكون بنو إسرائيل آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره الله تعالى أمر موسى عليه السلام وإيذائهم إياه ليكون فيه تصبير لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتسكين لقلبه.
والثاني: أنه يجوز أن يكون هذا تحذيرا لأصحابه عن أن يرتكبوا ما يخاف أن يكون فيه أذاه عليه السلام والله اعلم. وقوله تعالى {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم}... يعني خذلهم الله، ووكلهم إلى أنفسهم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
... وقوله: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} فالزيغ: الذهاب عن الشيء بإسراع فيه، والأظهر فيه الذهاب عن الحق، والمعنى إنهم لما ذهبوا عن طريق الحق، ومالوا إلى طريق الباطل، {أزاغ الله قلوبهم} بمعنى أنه حكم عليها بالزيغ والميل عن الحق، ولذلك قال: {والله لا يهدى القوم الفاسقين} ومعناه لا يحكم لهم بالهداية.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{تُؤْذُونَنِي} كانوا يؤذونه بأنواع الأذى من انتقاصه وعيبه في نفسه، وجحود آياته، وعصيانه فيما تعود إليهم منافعه، وعبادتهم البقر، وطلبهم رؤية الله جهرة، والتكذيب الذي هو تضييع حق الله وحقه {وَقَد تَّعْلَمُونَ} أي: تؤذونني عالمين علماً يقيناً {أَنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ} وقضية علمكم بذلك وموجبه تعظيمي وتوقيري، لا أن تؤذوني وتستهينوا بي؛ لأن من عرف الله وعظمته عظم رسوله، علماً بأن تعظيمه في تعظيم رسوله، ولأنّ من آذاه كان وعيد الله لاحقاً به {فَلَمَّا زَاغُواْ} عن الحق {أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ} بأن منع ألطافه عنهم {والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} لا يلطف بهم لأنهم ليسوا من أهل اللطف.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم ذكر الله تعالى مقالة موسى وذلك ضرب مثل للمؤمنين الذين يقولون ما لا يفعلون ذكرهم الله تعالى بقوم آذوا نبيهم على علم منهم بنبوته و {زاغوا} ف {أزاغ الله قلوبهم}، أي فاحذروا أيها المؤمنون أن يصيركم العصيان، وقول الباطل إلى مثل حالهم المعنى: أنهم أشباههم في أنهم لما {زاغوا أزاغ الله قلوبهم} وقوله: {لم تؤذونني} تقرير، والمعنى {تؤذونني} بتعنيتكم وعصيانكم واقتراحاتكم، وهذه كانت أفعال بني إسرائيل، وانظر إنه تعالى أسند الزيغ إليهم لكونه فعل حطيطة، كما قال الله تعالى: {نسوا الله فأنساهم أنفسهم} [الحشر: 19] وهذا يخالف قوله تعالى: {ثم تاب عليهم ليتوبوا} [التوبة: 118] فأسند التوبة إلى نفسه لكونها فعل رفعة ومنه قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: {وإذا مرضت فهو يشفين} [الشعراء: 80]، و {زاغ} معناه: مال، وصار عرفها في الميل عن الحق، و {أزاغ الله قلوبهم} معناه: طبع عليها وختم وكثر ميلها عن الحق، وهذه العقوبة على الذنب بالذنب...
...وفي هذا تنبيه على عظيم إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم حتى إنه يؤدي إلى الكفر وزيغ القلوب عن الهدى...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وإذ} عطفاً على ما تقديره: اذكروا ما فعل بعضكم -بما أشرت إليه أول هذه الآيات من الآداب من تنبيه الكفار بما قد يمنع من الفتح أو يكون سبباً في عسره أو في إهلاك خلق كثير من عبادي الذين خلقتهم في أحسن تقويم من المؤمنين وغيرهم، أو من الفرار من الكفار عند المقارعة، أو التقاعس عن اللقاء عند البعث عليه، فآذى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أذاه من أذى الله فحلم عنكم، وقبل بما له من بليغ الرحمة بكم والشفقة عليكم منكم، وكان أنهى ما عاتبكم به مرسله سبحانه النداء بما هو أدنى الأسنان في الإيمان في نظير إطلاقه على بني إسرائيل الفسق بالوصف المؤذن بالرسوخ: واذكروا حين {قال موسى لقومه} وهم- مع كونه منهم -ممن له قوة على ما يحاولونه: {يا قوم} استعطافاً لهم واستنهاضاً إلى رضى ربهم {لم تؤذونني} أي تجددون إذائي مع الاستمرار بالتواني في أمر الله والتقاعد عن فتح بيت المقدس مع قولي عن الله أنكم فاتحوها إن أطعمتموه... {وقد} أي والحال أنكم {تعلمون} أي علمتم قطعياً مع تجدده لكم في كل وقت بتجدد أسبابه بما آتيتكم به من المعجزات وبالكتاب الحافظ لكم من الزيغ {أني رسول الله} أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له ورسوله أيضاً يعظم ويحترم لا أنه تنتهك جلالته وتخترم {إليكم} لا أقول لكم شيئاً إلا عنه، ولا أنطق عن الهوى، فعصياني عصيانه مع أني ما قلت لكم شيئاً إلا تم، وإن كنتم قاطعين بخلافه فهي معصيته لا حامل عليها أصلاً إلا رداءة الجبلات...
. {فلما زاغوا} أي تحقق زيغهم عن قرب عن أوامر الله في الكتاب الآتي إليهم بما أبوا من قبول أمره في الإقدام على الفتح {أزاغ الله} أي الذي له الأمر كله {قلوبهم} من الاستواء، وجمع الكثرة يدل على أنه لم يثبت منهم إلا القليل فهزمهم بين يدي أعدائهم وضربهم بالتيه لأنهم فسقوا عن أمر الله...
{والله} أي الملك الأعظم الذي له الحكمة البالغة لأنه المستجمع لصفات الكمال {لا يهدي} أي بالتوفيق بعد هداية البيان {القوم الفاسقين} أي العريقين في الفسق الذين لهم قوة المحاولة فلم يحملهم على الفسق ضعف، فاحذروا أن تكونوا مثلهم في العزائم فتساووهم في عقوبات الجرائم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
.. وإيذاء بني إسرائيل لموسى -وهو منقذهم من فرعون وملئه، ورسولهم وقائدهم ومعلمهم- إيذاء متطاول متعدد الألوان، وجهاده في تقويم اعوجاجهم جهاد مضن عسير شاق. ويذكر القرآن في قصص بني إسرائيل صورا شتى من ذلك الإيذاء ومن هذا العناء!...
وتذكر الآية هنا قول موسى لهم في عتاب ومودة: (يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم؟)...
وهم كانوا يعلمون عن يقين.. إنما هي لهجة العتاب والتذكير.. وكانت النهاية أنهم زاغوا بعدما بذلت لهم كل أسباب الاستقامة، فزادهم الله زيغا، وأزاغ قلوبهم فلم تعد صالحة للهدى. وضلوا فكتب الله عليهم الضلال أبدا: (والله لا يهدي القوم الفاسقين).. وبهذا انتهت قوامتهم على دين الله، فلم يعودوا يصلحون لهذا الأمر، وهم على هذا الزيغ والضلال...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ويناسب أن تكون هذه الآية تحذيراً من مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وعبرة بما عرض لهم من الهزيمة يوم أُحُد لما خالفوا أمره من عدم ثبات الرماة في مكانهم.وقد تشابهت القصتان في أن القوم فرّوا يوم أُحُد كما فرّ قوم موسى يوم أريحا، وفي أن الرماة الذين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يبرحوا مكانهم « ولو تخطَّفَنا الطير» وأن ينضحوا عن الجيش بالنبال خشية أن يأتيه العدوّ من خلفه لم يفعلوا ما أمرهم به وعصوا أمر أميرهم عبد الله بن جبير وفارقوا موقفهم طلباً للغنيمة فكان ذلك سبب هزيمة المسلمين يوم أُحُد. ويتبع ذلك تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم على ما حصل من مخالفة الرماة حتى تسببوا في هزيمة الناس. و {إذ} متعلقة بفعل محذوف تقديره: اذْكُر، وله نظائر كثيرة في القرآن، أي اذكر لهم أيضاً وقت قول موسى لقومه أو اذكر لهم مع هذا النهي وقت قول موسى لقومه. وابتداء كلام موسى عليه السلام ب {يا قوم} تعريض بأن شأن قوم الرسول أن يطيعوه بَلْهَ أن لا يؤذوه. ففي النداء بوصف {قوم} تمهيد للإِنكار في قوله: {لم تؤذونني}. والاستفهام للإِنكار، أي إنكار أن يكون للإِذاية سبب كما تقدم في قوله تعالى: {لم تقولون ما لا تفعلون. وقد جاءت جملة الحال من قوله: {وقد تعلمون أني رسول الله} مصادفة المحلّ من الترقّي في الإِنكار. و {قد} لتحقيق معنى الحالية، أي وعلمكم برسالتي عن الله أمر محقق لما شاهدوه من دلائل رسالته، وكما أكد علمهم ب {قَد} أكد حصول المعلوم ب (أنّ) المفتوحة، فحصل تأكيدان للرسالة. والمعنى: فكيف لا يجري أمركم على وفق هذا العلم. والإِتيان بعد {قد} بالمضارع هنا للدلالة على أن علمهم بذلك مجدّد بتجدد الآيات والوحي، وذلك أجدى بدوام امتثاله لأنه لو جيء بفعل المضي لما دلّ على أكثر من حصول ذلك العلم فيما مضى. ولعله قد طرأ عليه ما يبطله، وهذا كالمضارع في قوله: {قد يعلم الله المعوقين منكم} في سورة [الأحزاب: 18]. والزيغ: الميل عن الحق، أي لما خالفوا ما أمرهم رسولهم جعل الله في قلوبهم زيغاً، أي تمكن الزيغ من نفوسهم فلم ينفكوا عن الضلال. وجملة {والله لا يهدي القوم الفاسقين} تذييل، أي وهذه سنة الله في الناس فكان قوم موسى الذين آذوْه من أهل ذلك العموم. وذُكر وصف {الفاسقين} جارياً على لفظ {القوم} للإِيماء إلى الفسوق الذي دخل في مقوّمات قوميتهم...