التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{ذَٰلِكَ مِنۡ أَنۢبَآءِ ٱلۡغَيۡبِ نُوحِيهِ إِلَيۡكَۚ وَمَا كُنتَ لَدَيۡهِمۡ إِذۡ يُلۡقُونَ أَقۡلَٰمَهُمۡ أَيُّهُمۡ يَكۡفُلُ مَرۡيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيۡهِمۡ إِذۡ يَخۡتَصِمُونَ} (44)

ثم بين - سبحانه - أن ما جاء به القرآن في شأن مريم - بل وفي كل شأن من الشؤون - هو الحق الذى لا يحوم حوله باطل ، وهو من أنباء الغيب التى لا يعلمها أحد سواه فقال - تعالى - : { ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيكَ } .

واسم الإشارة { ذلك } يعود إلى ما تقدم الحديث عنه من قصة امرأة عمران وقصة زكريا وغير ذلك من الأخبار البديعة .

والأنباء : جمع نبأ ، وهو الخبر العظيم الشأن .

والغيب : مصدر غاب ، وهو الأمر المغيب المستور الذى لا يعلم إلا من قبل الله - تعالى - .

ونوحيه : من الإيحاء وهو إلقاء المعنى إلى الغير على وجه خفي ، ويكون بمعنى إرسال الملك إلى الأنبياء وبمعنى الإلهام أى : ذلك القصص الحكيم الذى قصصناه عليك يا محمد ، فيما يتعلق بما قالته امرأة عمران وما قاله زكريا ، وما قالته الملائكة لمريم وفيما يتعلق بغير ذلك من شؤون ذلك القصص الحكيم هو من أنباء الغيب التي لا يعلمها أحد سوى الله - عز وجل - وقد أخبرناك بها لتكون دليلا على صدقك فيما تبلغه عن ربك ولتكون عبرة وذكرى لقوم يعقلون .

وقوله { ذلك } مبتدأ وخبره قوله - تعالى - { مِنْ أَنَبَآءِ الغيب } والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب . وقوله { نُوحِيهِ إِلَيكَ } جملة مستقلة مبينة للأولى . والضمير في { نُوحِيهِ } يعود إلى الغيب أى الأمر والشأن أنا نوحى إليك الغيب ونعلمك به ، ونظهرك على قصص من تقدمك مع عدم مدارستك لأهل العلم والأخبار .

ولذ قال - تعالى - { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } والأقلام جمع قلم وهى التى كانوا يكتبون بها التوراة ، وقيل المراد بها السهام .

أى وما كنت - يا محمد - لديهم أى عندهم معاينا لفعلهم وما جرى من أمرهم فى شأن مريم ، { إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ } التى جعلوا عليها علامات يعرف بها من يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون فيما بينهم بسببها تنافسا في كفالتها .

وقد سبق أن ذكرنا ما قاله صاحب الكشاف من أن مريم بعد أن ولدتها أمها خرجت بها إلى بيت المقدس فوضعتها عند الأحبار وقالت لهم : دونكم هذه النذيرة ! ! فقالوا : هذه ابنة إمامنا عمران - وكان في حياته يؤمهم في الصلاة ، فقال لهم زكريا : أدفعوها إلي فأنا أحق بها منكم فإن خالتها عندى - فقالوا لا حتى نقترع عليها فانطلقوا إلى نهر فألقوا فيه أقلامهم فارتفع قلم زكريا فوق الماء ورسبت أقلامهم ، فتولى كفالتها زكريا - عليه السلام - . فالمضمير فى قوله { لَدَيْهِمْ } يعود على المتنازعين في كفالة مريم لأن السياق قد دل عليهم .

والمقصود من هذه الجملة الكريمة { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون } الخ تحقيق كون الإخبار بما ذكر إنما هو عن وحي من الله - تعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن معاصرا لهؤلاء الذين تحدث القرآن عنهم . ولم يقرأ أخبارهم في كتاب من الكتب ، ومع ذلك فقد أخبر النبى صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب وغيرهم بالحق الذى لا يستطيعون تكذيبه إلا على سبيل الحسد والجحود ، فثبت أن القرآن من عند الله - تعالى - .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{ذَٰلِكَ مِنۡ أَنۢبَآءِ ٱلۡغَيۡبِ نُوحِيهِ إِلَيۡكَۚ وَمَا كُنتَ لَدَيۡهِمۡ إِذۡ يُلۡقُونَ أَقۡلَٰمَهُمۡ أَيُّهُمۡ يَكۡفُلُ مَرۡيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيۡهِمۡ إِذۡ يَخۡتَصِمُونَ} (44)

{ ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك } أي ما ذكرنا من القصص من الغيوب التي لم تعرفها إلا بالوحي . { وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم } أقداحهم للاقتراع . وقيل اقترعوا بأقلامهم التي كانوا يكتبون بها التوراة تبركا ، والمراد تقرير كونه وحيا على سبيل التهكم بمنكريه ، فإن طريق معرفة الوقائع المشاهدة والسماع وعدم السماع معلوم لا شبهة فيه عندهم فبقي أن يكون الاتهام باحتمال العيان ولا يظن به عاقل . { أيهم يكفل مريم } متعلق بمحذوف دل عليه { يلقون أقلامهم } أي يلقونها ليعلموا ، أو يقولوا { أيهم يكفل مريم } . { وما كنت لديهم إذ يختصمون } تنافسا في كفالتها .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{ذَٰلِكَ مِنۡ أَنۢبَآءِ ٱلۡغَيۡبِ نُوحِيهِ إِلَيۡكَۚ وَمَا كُنتَ لَدَيۡهِمۡ إِذۡ يُلۡقُونَ أَقۡلَٰمَهُمۡ أَيُّهُمۡ يَكۡفُلُ مَرۡيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيۡهِمۡ إِذۡ يَخۡتَصِمُونَ} (44)

قوله : { إذ يلقون أقلامهم } وهي الأقلام التي يكتبون بها التوراة كانوا يقترعون بها في المشكلات : بأن يكتبوا عليها أسماء المقترعين أو أسماء الأشياء المقترع عليها ، والناس يصيرون إلى القرعة عند انعدام ما يرجّح الحق ، فكان أهل الجاهلية يستقسمون بالأزلام وجعل اليهود الاقتراع بالأقلام التي يكتبون بها التوراة في المِدراس رجاء أن تكون بركتها مرشدة إلى ما هو الخيْر . وليس هذا من شعار الإسلام وليس لإعمال القرعة في الإسلام إلاّ مواضع تمييز الحقوق المتساوية من كل الجهات وتفصيله في الفقه . وأشارت الآية إلى أنّهم تنازعوا في كفالة مريم حين ولدتها أمها حنّة ، إذ كانت يتيمة كما تقدم فحصل من هذا الامتنان إعلام بأنّ كفالة زكرياء مريم كانت بعد الاستقسام وفيه تنبيه على تنافسهم في كفالتها .