ثم حكى - سبحانه - ما كان منهم عند سماعهم لما أنزل الله - تعالى - على رسوله من هدايات فقال : { وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرسول ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق } والمراد بالرسول : محمد صلى الله عليه وسلم وبما أنزل إليه : القرآن الكريم .
والجملة الكريمة معطوفة على قوله ؛ { وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } والضمير في قوله { سَمِعُواْ } يعود على الذين قالوا إنا نصارى بعد أن عرفوا الحق وآمنوا به .
أي ، أن من صفات هؤلاء الذين قالوا إنا نصارى زيادة على ما تقدم ، أنهم إذا سمعوا ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرآن تأثرت قلوبهم . وخشعت نفوسهم وسالت الدموع من أعينهم بغزرة وكثرة من أجل ما عرفوه من الحق الذي بينه لهم القرآن الكريم بعد أن كانوا غافلين عنه .
وفي التعبير عنهم بقوله : { ترى } الدالة على الرؤية البصرية والتي هي أقوى أسباب العلم الحسي ، مبالغة في مدحهم ، حيث يراهم الرائي وهم على تلك الصورة من رقة القلب وشدة التأثر عند سماع الحق .
فلقد كانوا يحسون أنهم في ظلام وضلال فلما سمعوا الحق أشرقت له نفوسهم ودخلوا في نوره وهدايته وأعينهم تتدفق بالدموع من شدة تأثرهم به وحبهم له .
وقوله { تَفِيضُ } من الفيض وهو انصباب عن امتلاء : يقال فاض الإِناء إذا امتلأ حين سال من جوانبه .
وقد أجاد صاحب الكشاف في تصوير هذا المعنى فقال : فإن قلت : ما معنى قوله : { تَفِيضُ مِنَ الدمع } قلت : معناه تمتلئ من الدمع حتى تفيض ، لأن الفيض أن يمتلئ الإِناء أو غيره حتى يطلع ما فيه من جوانبه . فوضع الفيض الذي هو من الامتلاء موضع الامتلاء وهو من إقامة المسببب مقام السبب ، أو قصدت المبالغة في وصفهم بالبكاء فجعلت أعينهم كأنها تفيض بأنفسها . أي : تسيل من الدمع من أجل البكاء من قولك : دمعت عينه دمعا .
فإن قلت : أي فرق بين من ومن في قوله : { مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق } ؟ قلت : الأولى لابتداء الغاية على أن فيض الدمع ابتدأ ونشأ من معرفة الحق وكان من أجله وبسببه ، والثانية لتبيين الموصول الذي هو ما عرفوا وتحتمل معنى التبعيض على أنهم عرفوا بعض الحق ، فأبكاهم وبلغ منهم فكيف إذا عرفوه كله وقرأوا القرآن وأحاطوا بالسنة ؟
ثم حكى - سبحانه - ما قالوه بعد سماعهم للحق فقال : { يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فاكتبنا مَعَ الشاهدين } .
أي : يقولون بعد أن سمعوا الحق : يا ربنا إننا آمنا بما سمعنا إيمانا صادقا فاكتبنا مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم التي آمنت به وشهدت بصدق رسولك محمد صلى الله عليه وسلم وبصدق كل رسول أرسلته إلى الناس ليخرجهم من الظلمات إلى النور .
{ وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع } عطف على { لا يستكبرون } وهو بيان لرقة قلوبهم وشدة خشيتهم ومسارعتهم إلى قبول الحق وعدم تأبيهم عنه ، والفيض انصباب عن امتلاء ، فوضع موضع الامتلاء للمبالغة ، أو جعلت أعينهم من فرط البكاء كأنها تفيض بأنفسها . { مما عرفوا من الحق } من الأولى للابتداء والثانية لتبيين ما عرفوا ، أو للتبعيض بأنه بعض الحق . والمعنى أنهم عرفوا بعض الحق فأبكاهم فكيف إذا عرفوا كله . { يقولون ربنا آمنا } بذلك أو بمحمد . { فاكتبنا مع الشاهدين } ، من الذين شهدوا بأنه حق ، أو بنبوته ، أو من أمته الذين هم شهداء على الأمم يوم القيامة .
وقوله تعالى : { وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم } الآية ، الضمير في { سمعوا } ظاهره العموم ومعناه الخصوص فيمن آمن من هؤلاء القادمين من أرض الحبشة ، إذ هم عرفوا الحق وقالوا آمنا ، وليس كل النصارى يفعل ذلك ، وصدر الآية في قرب المودة عام فيها ولا يتوجه أن يكون صدر الآية خاصاً فيمن آمن ، لأن من آمن فهو من الذين آمنوا ، وليس يقال فيه : قالوا إنا نصارى ولا يقال في مؤمنين : { ذلك بأن منهم قسيسين } ولا يقال إنهم أقرب مودة ، بل من آمن فهو أهل مودة محضة ، فإنما وقع التخصيص من قوله تعالى : { وإذا سمعوا } وجاء الضمير عاماً إذ قد تحمد الجماعة بفعل واحد منها ، وفي هذا استدعاء للنصارى ولطف من الله تعالى بهم ، ولقد يوجد فيض الدموع غالباً فيهم وإن لم يؤمنوا{[4664]} ، وروي أن وفداً من نجران قدم على أبي بكر الصديق في شيء من أمورهم فأمر من يقرأ القرآن بحضرتهم فبكوا بكاء شديداً فقال أبو بكر : هكذا كنا ولكن قست القلوب ، وروي أن راهباً من رهبان ديارات الشام نظر إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورأى عبادتهم وجدهم في قتال عدوهم فعجب من حالهم ، وبكى ، وقال : ما كان الذين نشروا بالمناشير على دين عيسى بأصبر من هؤلاء ولا أجدّ في دينهم .
قال القاضي أبو محمد : فالقوم الذين وصفوا بأنهم عرفوا الحق هم الذين بعثهم النجاشي ليروا النبي صلى الله عليه وسلم ويسمعوا ما عنده ، فلما رأوه قرأ عليهم القرآن وهو المراد بقوله تعالى : { ما أنزل إلى الرسول } فاضت أعينهم بالدمع من خشية الله ورقت القلوب . والرؤية رؤية العين ، و { تفيض } حال من الأعين{[4665]} ، و { يقولون } حال أيضاً و { آمنا } معناه صدقنا أن هذا رسولك ، والمسموع كتابك . والشاهدون محمد وأمته ، قاله ابن عباس وابن جريج وغيرهما ، وقال الطبري : لو قال قائل : معنى ذلك :مع الشاهدين بتوحيدك من جميع العالم من تقدم ومن تأخر لكان ذلك صواباً .
قال القاضي أبو محمد : هذا معنى قول الطبري وهو كلام صحيح ، وكان ابن عباس رضي الله عنه خصص أمة محمد عليه السلام لقول الله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً }{[4666]} .
الخطاب في قوله { تَرى أعينهم } للنبيء صلى الله عليه وسلم إن كان قد رأى منهم مَن هذه صفته ، أو هو خطاب لكلّ من يصحّ أن يَرى . فهو خطاب لغير معيّن ليعمّ كلّ من يخاطب .
وقوله : { تفيض من الدمع } معناه يفيضُ منها الدمع لأنّ حقيقة الفيض أن يسند إلى المائع المتجاوز حَاوِيه فيسيل خارجاً عنه . يقال : فاض الماء ، إذا تجاوز ظرفه . وفاض الدمع إذا تجاوز ما يغرورق بالعين . وقد يسند الفَيْض إلى الظرف على طريقة المجاز العقلي ، فيقال : فاض الوادي ، أي فاض ماؤُه ، كما يقال : جَرَى الوادي ، أي جرى ماؤه . وفي الحديث : « ورَجُل ذكر الله خَالياً فَفَاضَتْ عيناه » وقد يقرنون هذا الإسناد بتمييز يكون قرينة للإسنادِ المجازي فيقولون : فاضت عينه دمعاً ، بتحويل الإسناد المسمّى تمييزَ النسبة ، أي قرينة النسبة المجازية . فأمّا ما في هذه الآية فإجراؤه على قول نحاة البصرة يمنع أن يكون ( مِنْ ) الداخلة على الدمع هي البَيانية التي يجرّ بها اسم التمييز ، لأنّ ذلك عندهم ممتنع في تمييز النسبة ، فتكون الآية منسوجة على منوال القلب للمبالغة ، قُلِب قولُ الناس المتعارف : فاضَ الدمع من عينِ فلان ، فقيل : { أعينَهم تفيض من الدمع } ، فحرف ( مِن ) حرف ابتداء . وإذا أجري على قول نحاة الكوفة كانت ( مِن ) بيانية جارّة لاسم التمييز . وتعريف الدمع تعريف الجنس ، مثل : طبتَ النَّفْسَ .
و ( مِنْ ) في قوله { مِمَّا عرفوا } تعليلية ، أي سببُ فيضها ما عرفوا عند سماع القرآن من أنّه الحقّ الموعود به . ف { مِن } قائمة مقام المفعول لأجله كما في قوله :
{ تولّوا وأعينهم تفيض من الدمع حَزَنا } [ التوبة : 92 ] ، أي ففاضت أعينهم من انفعال البهجة بأن حضروا مشهد تصديق عيسى فيما بَشّر به ، وأن حضروا الرسول الموعود به ففازوا بالفضيلتين . و ( مِن ) في قوله { من الحقّ } بيانية . أي ممّا عرفوا ، وهو الحقّ الخاصّ . أو تبعيضية ، أي ممّا عرفوه وهو النبي الموعود به الذي خبره من جملة الحقّ الذي جاء به عيسى والنبيئون من قبله .
وجملة { يقولون } حال ، أي تفيض أعينهم في حال قولهم هذا . وهذا القول يجوز أن يكون علناً ، ويجوز أن يكون في خويّصتهم .
والمراد بالشاهدين الذين شهدوا بعثة الرسل وصدّقوهم . وهذه فضيلة عظيمة لم تحصُل إلاّ في أزمان ابتداء دعوة الرسل ولا تحصل بعد هذه المرّة . وتلك الفضيلة أنّها المبادرة بتصديق الرسُل عند بعثتهم حين يكذبِهم الناس بادىءَ الأمر . كما قال ورقة : يا ليتني أكون جَذعاً إذْ يُخرجك قومك . أي تكذيباً منهم . أو أرادوا فاكتبنا مع الشاهدين الذين أنبأهم عيسى عليه السلام ببعثة الرسول الذي يجيء بعده ، فيكونوا شهادة على مجيئه وشهادة بصدق عيسى . ففي إنجيل متّى عدد24 من قول عيسى « ويقومُ أنبياء كذَبَة كثيرون ويُضِلّون كثيرين ولكن الذي يصبِر إلى المنتهى فهذا يخلص ويفوز ببشارة الملكوت هذه شهادةً لجميع الأمم » . وفي إنجيل يُوحَنَّا عدد15 من قول عيسى « ومتى جاء المُعَزّى روحُ الحقّ الذي من عند الأبِ ينبثقُ فهو يشهدُ لي وتشهدون أنتم أيضاً لأنّكم معي من الابتداء » . وإنّ لِكلمة { الحقّ } وكلمة { الشاهِدين } في هذه الآية موقعاً لا تغني فيه غيرهما لأنّهما تشيران إلى ما في بشارة عيسى عليه السلام .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
(وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول) من القرآن، (ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا)، يعني صدقنا بالقرآن أنه من الله عز وجل، (فاكتبنا)، يعني فاجعلنا (مع الشاهدين)، يعني من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وإذا سمع هؤلاء الذين قالوا "إنا نصارى "الذين وصفت لك يا محمد صفتهم، أنك تجدهم أقرب الناس مودّة للذين آمنوا، ما أنزل إليك من الكتاب يتلى، "تَرَى أعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدّمْعِ". وفيض العين من الدمع: امتلاؤها منه، ثم سيلانه منها كفيض النهر من الماء، وفيض الإناء، وذلك سيلانه عن شدّة امتلائه.
"مِمّا عَرَفُوا مِنَ الحَقّ "يقول: فيض دموعهم لمعرفتهم بأن الذي يتلى عليهم من كتاب الله الذي أنزله إلى رسول الله حقّ.
عن إسماعيل بن عبد الرحمن السديّ، قال: بعث النجاشيّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم اثنى عشر رجلاً يسألونه ويأتونه بخبره، فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن فبكوا. وكان منهم سبعة رهبان وخمسة قسيسون، أو خمسة رهبان وسبعة قسيسون، فأنزل الله فيهم: "وَإذَا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إلى الرّسُولِ تَرَى أعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدّمْعِ...".
عن عبد الله بن الزبير، قال: نزلت في النجاشيّ وأصحابه:"وَإذَا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إلى الرّسُولِ تَرَى أعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدّمْعِ...".
وأما قوله: "يَقولُونَ" فإنه لو كان بلفظ اسم كان نصبا على الحال، لأنّ معنى الكلام: وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحقّ، قائلين ربنا آمنا. ويعني بقوله تعالى ذكره: "يَقُولُونَ رَبَنّا آمَنا" أنهم يقولون: يا ربنا صدّقنا لما سمعنا ما أنزلته إلى نبيك محمد صلى الله عليه وسلم من كتابك، وأقررنا به أنه من عندك وأنه الحقّ لا شكّ فيه.
" فاكْتُبْنا مَعَ الشّاهِدِينَ ": عن ابن عباس في قوله: "اكْتُبْنا مَعَ الشّاهِدِينَ: قال: يعنون بالشاهدين: محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته، أنهم شهدوا أنه قد بلّغ، وشهدوا أن الرسل قد بلّغت.
فكأنّ متأوّل هذا التأويل قصد بتأويله هذا إلى معنى قول الله تعالى ذكره:"وكَذَلِكَ جَعَلْناكم أمّةً وَسَطا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ على النّاسِ وَيَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا"، فذهب ابن عباس إلى أن الشاهدين هم الشهداء في قوله: "لِتَكُونوا شُهَدَاءَ على النّاسِ" وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وإذا كان التأويل ذلك، كان معنى الكلام: يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين الذين يشهدون لأنبيائك يوم القيامة أنهم قد بلّغوا أممهم رسالاتك.
ولو قال قائل: معنى ذلك: فاكتبنا مع الشاهدين الذين يشهدون أن ما أنزلته إلى رسولك من الكتاب حقّ، كان صوابا، لأن ذلك خاتمة قوله: "وَإذَا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إلى الرّسُولِ تَرَى أعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدّمْعِ مِمّا عَرَفُوا مِنَ الحَقّ يَقُولُونَ رَبّنا آمَنّا فاكْتُبْنا مَعَ الشّاهِدِينَ" وذلك صفة من الله تعالى ذكره لهم بإيمانهم، لما سمعوا من كتاب الله، فتكون مسألتهم أيضا الله أن يجعلهم ممن صحت عنده شهادتهم بذلك، ويُلحقهم في الثواب والجزاء منازلهم. ومعنى الكتاب في هذا الموضع: الجَعْل، يقول: فاجْعَلْنا مَعَ الشّاهِدِينَ، وأثبتنا معهم في عدادهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع}؛ سرورا على أنفسهم مما ظفروا مما كانوا يسمعون من نعته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- وصفته ويطمعون خروجه، وقد يعمل السرور هذا العمل إذا اشتد به وفرح القلب فاضت عيناه سرورًا.
ويحتمل قوله -تعالى -: (تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ)؛ حزنًا على قومهم؛ حيث لم يؤمنوا بعد أن بلغهم ما بلغ هَؤُلَاءِ من أعلام النبوة وآثار الرسالة؛ إشفاقًا عليهم أن كيف لم يؤمنوا؛ كقوله- تعالى -: (وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ): قد فاضت أعينهم حزنًا ألا يجدوا ما ينفقون، واللَّه أعلم.
وقوله: (يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا) بما أنزلت واتبعنا الرسول (فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) الآية: قيل: مع الأنبياء والرسل.
وقيل: مع أصحاب مُحَمَّد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وهو واحد.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
هذه صفة من نظر إليه الحق نظر القبول، فإذا قَرَعَتْ سَمْعَهُم دعوةُ الحقِّ ابتسمت البصيرة في قلوبهم، فسكنوا إلى المسموع لما وجدوا من التحقيق...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: ما معنى قوله: {تَفِيضُ مِنَ الدمع} قلت: معناه تمتلئ من الدمع حتى تفيض، لأن الفيض أن يمتلئ الإناء أو غيره حتى يطلع ما فيه من جوانبه، فوضع الفيض الذي هو من الامتلاء موضع الامتلاء، وهو من إقامة المسبب مقام السبب، أو قصدت المبالغة في وصفهم بالبكاء فجعلت أعينهم كأنها تفيض بأنفسها، أي تسيل من الدمع من أجل البكاء من قولك دمعت عينه دمعاً.
فإن قلت: أي فرق بين من ومن في قوله: {مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق}؟ قلت الأولى لابتداء الغاية، على أن فيض الدمع ابتدأ ونشأ من معرفة الحق، وكان من أجله وبسببه. والثانية لتبيين الموصول الذي هو ما عرفوا. وتحتمل معنى التبعيض على أنهم عرفوا بعض الحق، فأبكاهم وبلغ منهم، فكيف إذا عرفوه كله وقرأوا القرآن وأحاطوا بالسنة؟... {رَبَّنَا ءامَنَّا} المراد به إنشاء الإيمان، والدخول فيه {فاكتبنا مَعَ الشاهدين} مع أمّة محمد صلى الله عليه وسلم الذين هم شهداء على سائر الأمم يوم القيامة {لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس} [البقرة: 143] وقالوا ذلك لأنهم وجدوا ذكرهم في الإنجيل كذلك.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله تعالى: {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم} الآية، الضمير في {سمعوا} ظاهره العموم ومعناه الخصوص فيمن آمن من هؤلاء القادمين من أرض الحبشة، إذ هم عرفوا الحق وقالوا آمنا، وليس كل النصارى يفعل ذلك، وصدر الآية في قرب المودة عام فيها ولا يتوجه أن يكون صدر الآية خاصاً فيمن آمن، لأن من آمن فهو من الذين آمنوا، وليس يقال فيه: قالوا إنا نصارى ولا يقال في مؤمنين: {ذلك بأن منهم قسيسين} ولا يقال إنهم أقرب مودة، بل من آمن فهو أهل مودة محضة، فإنما وقع التخصيص من قوله تعالى: {وإذا سمعوا} وجاء الضمير عاماً إذ قد تحمد الجماعة بفعل واحد منها، وفي هذا استدعاء للنصارى ولطف من الله تعالى بهم، ولقد يوجد فيض الدموع غالباً فيهم وإن لم يؤمنوا...
الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي 875 هـ :
قال النوويُّ: ينبغي للقارئ أن يكون شأنُهُ الخشوعَ، والتدبُّر، والخضوعَ، فهذا هو المقصود المطلوبُ، وبه تنشرح الصدورُ، وتستنيرُ القُلُوب، ودلائلُه أكْثَرُ من أنْ تُحْصَر، وأشهرُ من أنْ تُذْكَر، وقد بات جماعةٌ من السَّلَف يتلو الواحدُ منهم آيةً واحدةً، ليلةً كاملةً، أو معظمَ ليلةٍ يتدَبَّرها، وصُعِقَ جماعاتٌ منهم عند سماع القرآن، وقراءتِهِ، وماتَ جماعاتٌ منهم، ويستحب البكاءُ والتباكِي لِمَنْ لا يقدر على البكاء، فإن البكاء عند القراءة صفةُ العارفين، وشعارُ عُبَّادِ اللَّه الصَّالحين، قال اللَّه عزَّ وجلَّ: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} [الإسراء: 109] وقد وردَتْ آثار كثيرة في ذلك، انتهى من «الحلية» للنوويِّ.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
والرؤية بصرية أي ذلك بسبب أنهم لا يستكبرون وأنهم إذا سمعوا القرآن رأيت أعينهم فائضة من الدمع.
تيسير التفسير لاطفيش 1332 هـ :
{وَإذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ} إِلى قوله الصالحين داخل في التعليل أَى حصل في جملتهم قرب المودة بسبب أَن منهم قسيسين ورهبانا وسبب أَنهم لا يستكبرون وبسبب أَن أَعينهم تفيض من الدمع بمعرفة الحق إِذا سمعوا القرآن، وبسبب قولهم إِنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين، وبسبب قولهم ما لنا لا نؤمن بالله وما جاءَنا من الحق ونطمع أَن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين، ومن كان من هؤلاء قبل النبي صلى الله عليه وسلم تسبب لقرب المدة لمن قبله ومن معه ومن بعده ومن كان معه تسبب لمن معه ومن بعده وكأَنه قيل حصول أقربيه المودة للمسلمين فيهم تسبب فيها علماؤهم وعبادهم كل وأَهل زمانه إلى أَن جاءَ قسيسون ورهبان على عهد رسول الله الذين نزل فيهم قوله تعالى {بأَن منهم قسيسين ورهبانا وأَنهم لا يستكبرون} [المائدة: 82]،...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
{من الدمع} الحاصل من اجتماع حرارة الحب والخوف، مع برد اليقين {مما عرفوا من الحق} أي من كتابهم، فوجدوه أكمل منه وأفضل، أو من الذي نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الحق، أو من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته في كتابهم.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ثم بين تعالى ما يكون من مقالهم، بعد بيان ما يكون من حالهم، فقال {يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين (83)} أي يقولون هذا القول يريدون به إنشاء الإيمان، والتضرع إلى الله تعالى بأن يقبله منهم ويكتبهم مع أمة محمد عليه الصلاة والسلام، الذين جعلهم الله تعالى كالرسل شهداء على الناس، وإنما يقولون ذلك لأنهم كانوا يعلمون من كتبهم، أو مما يتناقلونه عن سلفهم، أن النبي الأخير الذي يكمل الله به الدين يكون متبعوه شهداء على الناس، أو المعنى أنهم بدخولهم في هذه الأمة يكتبون من الشاهدين، فذكر الله الأمة بأشرف أوصافها...
والحق أن الشهادة هنا يراد بها أن هذه الأمة تشهد على الأمم يوم القيامة وتكون حجة على المشركين والمبطلين بكونها مظهرا لدين الله الحق الذي جحدوه أو ضلوا عنه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فهذا مشهد حي يرتسم من التصوير القرآني لهذه الفئة من الناس، الذين هم أقرب مودة للذين آمنوا.. إنهم إذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول من هذا القرآن اهتزت مشاعرهم، ولانت قلوبهم، وفاضت أعينهم بالدمع تعبيرا عن التأثر العميق العنيف بالحق الذي سمعوه. والذي لا يجدون له في أول الأمر كفاء من التعبير إلا الدمع الغزير -وهي حالة معروفة في النفس البشرية حين يبلغ بها التأثر درجة أعلى من أن يفي بها القول، فيفيض الدمع، ليؤدي ما لا يؤديه القول؛ وليطلق الشحنة الحبيسة من التأثر العميق العنيف. ثم هم لا يكتفون بهذا الفيض من الدمع؛ ولا يقفون موقفا سلبيا من الحق الذي تأثروا به هذا التأثر عند سماع القرآن؛ والشعور بالحق الذي يحمله والإحساس بما له من سلطان.. إنهم لا يقفون موقف المتأثر الذي تفيض عيناه بالدمع ثم ينتهي أمره مع هذا الحق! إنما هم يتقدمون ليتخذوا من هذا الحق موقفا إيجابيا صريحا.. موقف القبول لهذا الحق، والإيمان به، والإذعان لسلطانه، وإعلان هذا الإيمان وهذا الإذعان في لهجة قوية عميقة صريحة: (يقولون: ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين). إنهم اولا يعلنون لربهم إيمانهم بهذا الحق الذي عرفوه. ثم يدعونه- سبحانه -أن يضمهم إلى قائمة الشاهدين لهذا الحق؛ وأن يسلكهم في سلك الامة القائمة عليه في الأرض.. الأمة المسلمة، التي تشهد لهذا الدين بأنه الحق، وتؤدي هذه الشهادة بلسانها وبعملها وبحركتها لإقرار هذا الحق في حياة البشر.. فهؤلاء الشاهدون الجدد ينضمون إلى هذه الأمة المسلمة؛ ويشهدون ربهم على إيمانهم بالحق الذي تتبعه هذه الأمة؛ ويدعونه- سبحانه -أن يكتبهم في سجلها...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الخطاب في قوله {تَرى أعينهم} للنبيء صلى الله عليه وسلم إن كان قد رأى منهم مَن هذه صفته، أو هو خطاب لكلّ من يصحّ أن يَرى. فهو خطاب لغير معيّن ليعمّ كلّ من يخاطب...
. والمراد بالشاهدين الذين شهدوا بعثة الرسل وصدّقوهم. وهذه فضيلة عظيمة لم تحصُل إلاّ في أزمان ابتداء دعوة الرسل ولا تحصل بعد هذه المرّة. وتلك الفضيلة أنّها المبادرة بتصديق الرسُل عند بعثتهم حين يكذبِهم الناس بادئ الأمر...
وإنّ لِكلمة {الحقّ} وكلمة {الشاهِدين} في هذه الآية موقعاً لا تغني فيه غيرهما لأنّهما تشيران إلى ما في بشارة عيسى عليه السلام.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وقد أكد الكلام بأنه لم يعبر عنه بالإخبار، بل عبر عنه بالرؤية المبصرة التي هي اقوي أسباب العلم الحسي، وصور حالهم في التعبير بالمضارع، وقوله تعالى: (مما عرفوا من الحق). معناه أن سبب البكاء هو ما عرفوه من الحق، وهذا يدل على أمرين: أولهما: انه تحقق لديهم ما وجدوه من أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم. ثانيهما: أنهم كانوا لنفاذ بصائرهم وعظم مداركهم يحسون بأنهم كانوا في ضلال فعرفوا الطريق، وكانوا في ظلام فاستناروا، وكانوا في حيرة فاطمأنوا. وإن هذا ينطبق على كل نصراني طالب للحق، لم يطمس الله على بصيرته.
هذه دقة الأداء القرآني الذي جاء من قبل أن يجهد المفكرون أنفسهم في دراسة ظواهر وأحوال النفس البشرية في مجال علم النفس بالبحث والاستقراء والتجارب، وأثر ذلك في وظائف الأعضاء...
وقد جاءت هذه الآية الكريمة قبل أن يأتي علماء النفس ليفسروا أمور الإدراك والوجدان والنزوع، فها هو ذا الحق يقول: {وإذا سمعوا} وهذا إدراك بحاسة الأذن. وما المسموع؟ يجيب القرآن: {ما أنزل إلى الرسول} وهذا هو سبب الوجدان الذي يأتي في قوله: {ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق}. فكيف يكون نزوعهم بعد هذا الوجدان؟ إنهم: {يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين}، هذه هي العملية النزوعية. والقرآن الذي نزل من أربعة عشر قرنا، جاء بترتيب الإدراك والوجدان والنزوع قبل أن يأتي به العلم. فساعة سمعوا بالأذن، حدث شيء في الوجدان، والتغير الذي في الوجدان له علامات ظهرت في عيونهم التي فاضت بالدمع. وهنا نميز بين أمرين: الأول هو اغروراق العين بالدمع، أي أن تمتلئ العين بالدمع لكن لم تصل درجة التأثر إلى أن تسقط الدموع من العين، ويقال: (اغرورقت عين فلأن) أي امتلأت عينه بالدموع ولكنها لم تسقط. والثاني وهو فيض الدموع من العين، والفيض لا يكون إلا نتيجة امتلاء الظرف بالمظروف، فكأن الدمع قد ملأها امتلاء، تماما مثلما نملأ إناء أو كوبا إلى النهاية فيزيد ويفيض. إذن كان سبب كل ذلك أنهم عرفوا أن القرآن من الحق. ونلحظ أن (من) تتكرر في الأداء هنا. {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق}. ف (من) تسبق الدمع. و (من) مدغومة في (ما) فصارا معا (مما) و (من) تسبق الحق. {تفيض من الدمع} ف (من) هنا هي: (من) الابتدائية. و {مما عرفوا} هنا (من) السببية أي بسبب أنهم عرفوا أن هذا القرآن منزل من الحق سبحانه. و (من الحق) للتبعيض، أي عرفوا بعضا من الحق؛ لأنهم لم يسمعوا كل القرآن...
إذن جاءت (من) ثلاث مرات، وكل مرة لها مجال لتؤدي إلى المجموع البياني الذي يصف المظاهر الثلاثة للإدراك والوجدان والنزوع. وهذه المراتب هي مظاهر الشعور التي انتهى إليها العلم التجريبي حين أراد أن يتعرف إلى وظائف الأعضاء ومدى تغلغلها إدراكا ووجدانا ونزوعا. والنزوع هو الذي يهمنا هنا، لقد قالوا: {فاكتبنا مع الشاهدين} والإيمان أمر يعود إليهم. أما الكتابة مع الشاهدين فهي أمر يعود على الآخرين، فكأن المؤمن ينال حظا عاليا، إنه يؤمن لذاته، ثم من بعد ذلك يكون وعاء ولسانا يبلغ منهج الإيمان إلى غيره لأنه لا يكون شاهدا إلا إذا كانت شهادته امتدادا لشهادة الرسول وهذا مصداق لقوله سبحانه وتعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون (110)} (سورة آل عمران)...