وقوله - سبحانه - : { هُوَ الله الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ . . . } تأكيد لأمر التوحيد لأن مقام التعيم يقتضى ذلك .
ثم عدد - سبحانه - بعد ذلك بعض أسمائه الحسنى ، وصفاته الجليلة فقال : { الملك } أى : المالك لجميع الأشياء ، والحاكم على جميع المخلوقات والمتصرف فيها تصرف المالك فى ملكه .
{ القدوس } أى : المنزه عن كل نقص ، البالغ أقصى ما يتصوره العقل فى الطهارة وفى البعد عن النقائص والعيوب ، وعن كل مالا يليق .
من القدس بمعنى الطهارة ، والقدَس - بفتح الدال - اسم للإناء الذى يتطهر به ومنه القادوس .
وجاء لفظ القدوس بعد لفظ الملك ، للإشعار بأنه - تعالى - وإن كان مالكا لكل شىء ، إلا أنه لا يتصرف فيما يملكه تصرف الملوك المغرورين الظالمين ، وإنما يتصرف فى خلقه تصرفا منزها عن كل ظلم ونقص وعيب .
{ السلام } أى : ذو السلامة من كل ما لا يليق ، أو ذو السلام على عباده فى الجنة ، كما قال - تعالى - { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } { المؤمن } أى : الذى وهب لعباده نعمة الأمان والاطمئنان ، والذى صدق رسله بأن أظهر على أيديهم المعجزات التى تدل على أنهم صادقون فيما يبلغونه عنه .
{ المهيمن } أى : الرقيب على عباده ، الحافظ لأقوالهم وأفعالهم وأحوالهم ، من الأمن ، ثم قلبت همزته هاء ، وقيل أصله هيمن بمعنى رقب ، فهاؤه أصلية .
{ العزيز } أى : الذى يغلب غيره ، ولا يتجاسر على مقامه أحد .
{ الجبار } أى : العظيم القدرة ، القاهر فوق عباده .
قال القرطبى : قال ابن عباس : الجبال : هو العظيم . وجبروت الله عظمته . وهو على هذا القول صفة ذات ، من قولهم : نخلة جبارة .
وقيل هو من الجبر وهو الإصلاح ، يقال : جبرت العظم فجبر ، إذا أصلحته بعد الكسر ، فهو فعال من جبر ، إذا أصلح الكسير وأغنى الفقير .
{ المتكبر } أى : الشديد الكبرياء ، والعظمة والجلالة ، والتنزه عما لا يليق بذاته . وهاتان الصفتان - الجبال المتكبر - صفتا مدح بالنسبة لله - تعالى - ، وصفتا ذم بالنسبة لغيره - تعالى - ، وفى الحديث الصحيح عن أبى هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال فيما يرويه عن ربه : " الكبرياء ردائى ، والعظمة إزارى ، فمن نازعنى فى واحد منهما قصمته . ثم قذفته فى النار " .
{ سُبْحَانَ الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } أى : تنزه - سبحانه - وتقدس عن إشراك المشركين . وكفر الكافرين .
{ هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس } البالغ في النزاهة عما يوجب نقصانا وقرىء بالفتح وهو لغة فيه ، { السلام }ذو السلامة من كل نقص وآفة مصدر وصف به للمبالغة ، { المؤمن }واهب الأمن وقرىء بالفتح بمعنى المؤمن به على حذف الجار ، { المهيمن }الرقيب الحافظ لكل شيء مفيعل من الأمن قلبت همزته هاء ، { العزيز الجبار } الذي جبر خلقه على ما أراده أو جبر حالهم بمعنى أصلحه ، { المتكبر } الذي تكبر عن كل ما يوجب حاجة أو نقصانا ، { سبحان الله عما يشركون }إذ لا يشركه في شيء من ذلك .
وقرأ جمهور الناس : «القُدوس » بضم القاف ، وهو فعول من تقدس إذا تطهر ، وحظيرة القدس الجنة ، لأنها طاهرة ، ومنه روح القدس ، ومنه الأرض المقدسة بيت المقدس ، وروي عن أبي ذر أنه قرأ : «القَدوس » بفتح القاف وهي لغة ، و { السلام } معناه : الذي سلم من جوره ، وهذا اسم على حذف مضاف أي ذو { السلام } ، لأن الإيمان به وتوحيده وأفعاله هي لمن آمن سلام كلها ، و { المؤمن } اسم فاعل من آمن بمعنى أمن . قال أحمد بن يحيى ثعلب معناه : المصدق للمؤمنين في أنهم آمنوا . قال النحاس : أو في شهادتهم على الناس في القيامة . وقال ناس من المتأولين معناه : المصدق نفسه في أقواله الأزلية : لا إله غيره و { المهيمن } معناه : الأمين والحفيظ . قاله ابن عباس وقال مؤرج : { المهيمن } : الشاهد بلغة قريش ، وهذا بناء لم يجئ منه في الصفات إلا مهيمن ومسيطر ومبيقر ومبيطر ، جاء منه في الأسماء مجيمر : وهو اسم واد ومديبر . و : { العزيز } الذي لا يغلب والقاهر الذي لا يقهر يقال عزيز إذا غلب برفع العين في المستقبل . قال الله تعالى : { وعزني في الخطاب } [ ص : 23 ] أي غلبني ، وفي المثل من عز بزّ أي من غلب سلب ، و { الجبار } هو الذي لا يدانيه شيء ولا يلحق رتبه ، ومنه نخلة جبارة إذا لم تلحق وأنشد الزهراوي : [ الطويل ] .
أطافت به جيلان عند قطاعه . . . وردت إليه الماء حتى تجبرا{[11033]} .
و { المتكبر } معناه الذي له التكبر حقاً ، ثم نزه الله تعالى نفسه عن إشراك الكفار به الأصنام التي ليس لها شيء من هذه الصفات .
{ هُوَ الله الذى لاَ إله إِلاَّ هُوَ الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجَبّارُ المتُتَكَبِرُّ } .
القول في ضمير { هو } كالقول في نظيره في الجملة الأولى . وهذا تكرير للاستئناف لأن المقام مقام تعظيم وهو من مقامات التكرير ، وفيه اهتمام بصفة الوحدانية .
و { الملك } : الحاكِم في الناس ، ولا مَلِك على الإِطلاق إلاّ الله تعالى وأما وصف غيره بالمَلِك فهو بالإِضافة إلى طائفة معيَّنة من الناس . وعُقب وصفا الرحمة بوصف { الملك } للإِشارة إلى أن رحمته فضل وأنه مطلق التصرف كما وقع في سورة الفاتحة .
و { القدوس } بضم القاف في الأفصح ، وقد تفتح القاف قال ابن جنّي : فَعُّول في الصفة قليل ، وإنما هو في الأسماء مثل تَنُّور وسَفُّود وعَبُّود . وذكر سيبويه السَّبُّوح والقَدوس بالفتح ، وقال ثعلب : لم يَرد فَعُّول بضم أوله إلا القُدوس والسُّبوح . وزاد غيره الذُّرُّوح ، وهو ذُباب أحمر متقطع الحمرة بسواد يشبه الزنبور . ويسمى في اصطلاح الأطباء ذباب الهند . وما عداهما مفتوح مثل سَفُّود وكَلُّوب . وتَنُّور وسَمُّور وشَبُّوط ( صنف من الحوت ) وكأنه يريد أن سبوح وقدوس صارا اسمين .
وعقب ب { القدوس } وصف { الملك } للاحتراس إشارة إلى أنه مُنزه عن نقائص الملوك المعروفة من الغرور ، والاسترسال في الشهوات ونحو ذلك من نقائص النفوس .
و { السلام } مصدر بمعنى المسالَمَة وُصف الله تعالى به على طريقة الوصف بالمصدر للمبالغة في الوصف ، أي ذو السلام ، أي السلامة ، وهي أنه تعالى سالَمَ الخلقَ من الظلم والجور . وفي الحديث « إن الله هو السلام ومنه السّلام » وبهذا ظهر تعقيب وصف { الملك } بوصف { السلام } فإنه بعد أن عُقب ب { القدوس } للدلالة على نزاهة ذاته ، عُقب ب { السلام } للدلالة على العدل في معاملته الخلق ، وهذا احتراس أيضاً .
و { المؤمن } اسم فاعل من آمن الذي همزته للتعدية ، أي جعل غيره آمناً .
فالله هو الذي جعل الأمان في غالب أحوال الموجودات ، إذ خلق نظام المخلوقات بعيداً عن الأخطار والمصائب ، وإنما تَعْرِض للمخلوقات للمصائب بعوارض تتركب من تقارن أو تضاد أو تعارض مصالح ، فيرجَع أقواها ويَدحض أدناها ، وقد تأتي من جرّاء أفعال الناس .
وذكر وصف { المؤمن } عقب الأوصاف التي قبله إتمام للاحتراس من توهّم وصفه تعالى ب { الملك } أنه كالملوك المعروفين بالنقائص . فأفيد أولاً نزاهة ذاته بوصف { القدوس } ، ونزاهة تصرفاته المغيَّبة عن الغدر والكَيد بوصف { المؤمن } ، ونزاهةُ تصرفاته الظاهرةِ عن الجور والظلم بوصف { السلام } .
و{ المهيمن } : الرقيب بلغة قريش ، والحافظ في لغة بقية العرب .
واختلف في اشتقاقه فقيل : مشتق من أمَنَ الداخل عليه همزة التعدية فصار آمَن وأن وزن الوصفِ مُؤَيْمِن قلبت همزته هاء ، ولعل موجب القلب إرادة نقله من الوصف إلى الاسمية بقطع النظر عن معنى الأمن ، بحيث صار كالاسم الجامد . وصار معناه : رقب : ( ألا ترى أنه لم يبق فيه معنى إلا من الذين في المؤمن لمّا صار اسماً للرقيب والشاهد ) ، وهو قلب نادر مثل قلب همزة : أراق إلى الهاء فقالوا : هَراق ، وقد وضعه الجوهري في فصل الهمزة من باب النون ووزنه مفَعْلِل اسم فاعل من آمن مثل مُدحرج ، فتصريفه مُؤَأْمِن بهمزتين بعد الميم الأولى المزيدة ، فأبدلت الهمزة الأولى هاء كما أبدلت همزة آراق فقالوا : هراق .
وقيل : أصله هَيْمن بمعنى : رَقب ، كذا في « لسان العرب » وعليه فالهاء أصلية ووزنه مُفَيْعل . وذَكره صاحب « القاموس » في فصل الهاء من باب النون ولم يذكره في فصل الهمزة منه . وذكره الجوهري في فصل الهمزة وفصل الهاء من باب النون مصرحاً بأن هاءه أصلها همزة . وعدل الراغب وصاحب « الأساس » عن ذكر . وذلك يشعر بأنهما يريان هاءه مبدلة من الهمزة وأنه مندرج في معاني الأمن .
وفي « المقصد الأسنى في شرح الأسماء الحسنى » للغزالي { المهيمن } في حق الله : القائم على خلقه بأعمالهم وأرزاقهم وآجالهم ، وإنما قيامه عليهم باطلاعه واستيلائه وحفظه . والإِشرافُ ، ( أي الذي هو الإطلاع ) يرجع إلى العلم ، والاستيلاءُ يرجع إلى كمال القدرة ، والحفظُ يرجع إلى الفعل . والجامعُ بين هذه المعاني اسمه { المهيمن } ولن يجتمع عَلَى ذلك الكمال والإِطلاقِ إلا الله تعالى ، ولذلك قيل : إنه من أسماء الله تعالى في الكتب القديمة اهـ . وفي هذا التعريف بهذا التفصيل نظر ولعله جرى من حجة الإِسلام مجرى الاعتبار بالصفة لا تفسير مدلولها .
وتعقيب { المؤمن } ب { المهيمن } لدفع توهم أن تأمينه عن ضعف أو عن مخافة غيره ، فأُعلموا أن تأمينه لحكمته مع أنه رقيب مطلع على أحوال خلقه فتأمينه إياهم رحمة بهم .
و { العزيز } الذي لا يُغلب ولا يُذلّه أحد ، ولذلك فسر بالغالب .
و { الجبار } : القاهر المُكرِه غيره على الانفعال بفعله ، فالله جبار كل مخلوق على الانفعال لما كوّنه عليه لا يستطيع مخلوق اجتياز ما حدّه له في خلقته فلا يستطيع الإِنسان الطيران ولا يستطيع ذوات الأربع المشي على رجلين فقط ، وكذلك هو جبّار للموجودات على قبول ما أراده بها وما تعلقت به قدرته عليها .
وإذا وصف الإِنسان بالجبار كان وصف ذمّ لأنه يشعر بأنه يحمل غيره على هواه ولذلك قال تعالى : { إن تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين } [ القصص : 19 ] . فالجبار من أمثلة المبالغة لأنه مشتق من أجبره ، وأمثلة المبالغة تشتق من المزيد بقلة مثل الحكيم بمعنى المحكم . قال الفراء : لم أسمع فَعَّالاً في أفعَلَ إلا جبّاراً ودَرَّاكاً . وكان القياس أن يقال : المجبر والمُدرك ، وقيل : الجبار معناه المصلح من جبر الكَسر ، إذَا أصلحه ، فاشتقاقه لا نذرة فيه .
و { المتكبر } : الشديد الكبرياء ، أي العظمة والجلالة . وأصل صيغة التفعل أن تدل على التكلف لكنها استعملت هنا في لازم التكلف وهو القوة لأن الفعل الصادر عن تأنق وتكلف يكون أتقن .
ويقال : فلان يتظلم على الناس ، أي يكثر ظلمهم .
ووجه ذكر هذه الصفات الثلاث عقب صفة { المهيمن } أن جميع ما ذكره آنفاً من الصفات لا يؤذن إلا باطمئنان العباد لعناية ربهم بهم وإصلاح أمورهم وأن صفة { المهيمن } تؤذن بأمر مشترك فعقبت بصفة { العزيز } ليعلم الناس أن الله غالب لا يعجزه شيء . وأتبعت بصفة { الجبار } الدالة على أنّه مسخر المخلوقات لإِرادته ثم صفة { المتكبر } الدالة على أنه ذو الكبرياء يصغر كل شيء دون كبريائه فكانت هذه الصفات في جانب التخويف كما كانت الصفات قبلها في جانب الإِطماع .
{ سبحان الله عَمَّا يشركون } .
ذيلت هذه الصفات بتنزيه الله تعالى عن أن يكون له شركاء بأن أشرك به المشركون . فضمير { يشركون } عائد إلى معلوم من المقام وهم المشركون الذين لم يزل القرآن يقرعهم بالمواعظ .