ثم خاطب الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم ووعده بأن القبلة التي سيؤمر بالتوجه إليها هي التي يحرص عليها ويرغب فيها .
قال الإِمام ابن كثير : قال علي بن أبي طلحة قال ابن عباس : كان أول ما نسخ في القرآن القبلة ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وكان أكثر أهلها اليهود فأمره الله تعالى أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود فاستقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهراً ، وكان يجب قبلة أبيه إبراهيم ، فكان يدعو الله ، وينظر إلى السماء ، فأنزل الله - تعالى - { قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ } .
والمعنى - قد شاهدنا - يا محمد - وعلمنا تردد وجهك ، وتسريح نظرك إلى السماء تطلعا إلى نزول الوحي عليك ، وتوقعاً لما ألقى في روعك من تحويل القبلة إلى الكعبة سعياً منك وراء استمالة العرب إلى الدخول في أحضان الإِسلام ، ومخالفة اليهود الذين كانوا يقولون : إنه يخالفنا في ديننا ويتبع قبلتنا ، وها نحن قد أجبناك إلى ما طلبت وأعطيناك ما سألت ، ووجهناك إلى قبلة تحبها وتميل إليها { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام } .
أي : فاصرف وجهك وحوله نحو المسجد الحرام وجهته .
ثم عمم القرآن الكريم هذا التشريع على الأمة الإِسلامية جميعها . فقال تعالى :
{ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ } .
أي : وحيثما كنتم وأينما وجدتم في بر أو بحر فولوا وجوهكم تلقاء المسجد الحرام ونحوه .
وقد جاءت هذه الجملة موجهة إلى الأمة قاطبة لدفع توهم أن يكون الخطاب في الأول خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم ولأنه لما كان تحويل القبلة أمرا له خطره ، خصهم بخطاب مفرد ليكون ذلك آكد وأبلغ .
فالآية الكريمة فيها أمر لكل مسلم أن يجعل الكعبة قبلة له ، فيتوجه بصدره إلى ناحيتها وجهتها حال تأديته الصلاة لربه ، سواء أكان المصلي بالمدينة أم بمكة أو بغيرهما .
وفي ذكر المسجد الحرام دون الكعبة ، ما يؤذن بكفالة مراعاة جهتها ولذلك لم يقع خلاف بين العلماء في أن الكعبة قبلة كل أفق . وأن من عاينها فرض عليه استقبالها ومن غاب عنها فعليه أن يستقبل جهتها . فإن خفيت عليه تحرى جهتها ما استطاع .
وقد سقنا في مطلع هذا البحث بعض الأحاديث الصحيحة التي صرحت بأن الصحابة عندما بلغهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بالتحويل إلى الكعبة استداروا إليها وهم في صلاتهم فجعلوهها قبلتهم .
ومما يشهد بقوة إيمانهم وعظيم امتثالهم لشرع الله ما جاء عن نويلة بنت مسلم أنها قالت .
" وصلينا الظهر - أو العصر ط في مسجد بني حارثة ، فاستقبلنا مسجد إيلياء - أي بيت المقدس - فصلينا ركعتين ، ثم جاء من يحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت الحرام فتحول النساء مكان الرجال . والرجال مكان النساء . فصلينا السجدتين الباقيتين ونحن مستقبلون البيت الحرام . فحدثني رجل من بني حارثة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أولئك رجال يؤمنون بالغيب " .
ثم بينت الآية الكريمة أن أهل الكتاب يعلمون أن التحويل إلى الكعبة هو الحق الذي لا ريب فيه فقال تعالى : { وَإِنَّ الذين أُوتُواْ الكتاب لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِمْ وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } .
أي : وإن اليهود الذين أنكروا استقبالكم الكعبة ، وانصرافكم عن بيت المقدس ، ليعلمون أن استقبالكم الكعبة حق ؛ لأن الذي أخبر به قد قامت الآيات البينات عندهم على أنه رسول من عند الله ، أو أنه يصلي إلى القبلتين ، وما وقفوا من تحويل القبلة هذا الموقف إلا لعنادهم ، وما الله بغافل عن أعمالهم بل هو محيط بها وسيحاسبهم عليها يوم القيامة حساباً عسرياً " .
{ قد نرى } ربما نرى { تقلب وجهك في السماء } تردد وجهك في جهة السماء تطلعا للوحي ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقع في روعه ويتوقع من ربه أن يحوله إلى الكعبة ، لأنها قبلة أبيه إبراهيم ، وأقدم القبلتين وأدعى للعرب إلى الإيمان ، ولمخالفة اليهود ، وذلك يدل على كمال أدبه حيث انتظر ولم يسأل { فلنولينك قبلة } فلنمكننك من استقبالها من قولك : وليته كذا ، إذا صيرته واليا له ، أو فلنجعلنك تلي جهتها { ترضاها } تحبها وتتشوق إليها ، لمقاصد دينية وافقت مشيئة الله وحكمته . { فول وجهك } اصرف وجهك . { شطر المسجد الحرام } نحوه . وقيل : الشطر في الأصل لما انفصل عن الشيء إذا انفصل ، ودار شطور : أي منفصلة عن الدور ، ثم استعمل لجانبه ، وإن لم ينفصل كالقطر ، والحرام المحرم أي محرم فيه القتال ، أو ممنوع من الظلمة أن يتعرضوه ، وإنما ذكر المسجد دون الكعبة لأن عليه الصلاة والسلام كان في المدينة ، والبعيد يكفيه مراعاة الجهة ، فإن استقبال عينها حرج عليه بخلا القريب . روي : أنه عليه الصلاة والسلام قدم المدينة ، فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا ، ثم وجه إلى الكعبة في رجب بعد الزوال قبل قتال بدر بشهرين . وقد صلى بأصحابه في مسجد بني سلمة ركعتين من الظهر ، فتحول في الصلاة واستقبل الميزاب ، وتبادل الرجال والنساء صفوفهم ، فسمي المسجد مسجد القبلتين . { وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } خص الرسول بالخطاب تعظيما له وإيجابا لرغبته ، ثم عمم تصريحا بعموم الحكم وتأكيدا لأمر القبلة وتضيضا للأمة على المتابعة . { وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم } جملة لعلمهم بأن عادته تعالى تخصيص كل شريعة بقبلة ، وتفصيلا لتضمن كتبهم أنه صلى الله عليه وسلم يصلي إلى القبلتين ، والضمير للتحويل أو التوجه { وما الله بغافل عما تعملون } وعد ووعيد للفريقين . وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بالياء .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.