ثامناً : نعمة تظليلهم بالغمام وإنزال المن والسلوى عليهم :
ثم عطف - سبحانه - على نعمة بعثهم من بعد موتهم نعمة أخرى بل نعمتين ، وهما تظليلهم بالغمام ومنحهم المن والسلوى ، فقال تعالى :
{ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }
الغمام : جمع غمامة ، وهي السحابة ، وخصه بعض علماء اللغة بالسحاب الأبيض .
والمن : اسم جنس لا واحد من لفظه ، وهو - على أرجح الأقوال - مادة صمغية تسقط على الشجر تشبه حلاوته حلاوة الغسل .
والسلوى : اسم جنس جمعي ، واحدته سلواة ، وهر طائر بري لذيذ اللحم ، سهل الصيد يسمى بالسماني ، كانت تسوقه لهم ريح الجنوب كل مساء ، فيمسكونه قبضاً بدون تعب .
وتظليلهم بالغمام وإنزال المن والسلوى عليهم ، كان في مدة تيههم بين مصر والشام المشار إليه بقوله - تعالى : { قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرض } قال السدي : " لما دخل بنو إسرائيل التيه ، قالوا لموسى - عليه السلام - كيف لنا بما ها هنا ، أين الطعام ؟ فأنزل الله عليهم المن فكان ينزل على شجرة النجبيل ، والسلوى وهو طائر يشبه السماني أكبر منه فكان يأتي أحدهم فينظر إلى الطير فإن كان سميناً ذبحه وإلا أرسله ، فإذا سمن أتاه فقالوا هذا الطعام فأين الشراب ؟ فأمر الله - تعالى - موسى أن يضرب بعصاه الحجر فضربه فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً ، فشرب كل سبط من عين ، فقالوا : هذا الشراب فأين الظل ؟ فظلل الله عليهما الغمام . قالوا : هذا الظل فأين اللباس ؟ فكانت ثيابهم تطول معهم كما تطول الصبيان ولا يتمزق لهم توب ، فذلك قوله تعالى : { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى . . . }
ومعنى الآية الكريمة : واذكروا يا بني إسرائيل من بين نعمي عليكم نعمة إظلالكم بالغمام وأنتم في التيه ليقيكم حر الشمس ، وحرارة الجو ، ولولا منحى إياكم الطعام اللذيذ المشتهي بدون تعب منكم في تحصيله لهلكتم ، وقلنا لكم كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا الذي رزقكم هذه النعم ، ولكنكم كفرتم بها ، فظلمتم أنفسكم دون أن ينالنا من ذلك شيء ، لأن الخلق جميعاً لن يبلغوا ضرى فيضروني ولن يبلغوا نفعي فينفعوني .
فالآية الكريمة قد أشارت إلى جحودهم النعمة بقوله تعالى : { وَمَا ظَلَمُونَا ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } .
وقوله تعالى : { وَمَا ظَلَمُونَا } معطوف على محذوف ، أي فعصوا ولم يقابلوا النعم بالشكر .
ويرى البعض أنه لا حاجة إلى التقدير ، وأن جملة { وَمَا ظَلَمُونَا } معطوفة على ما قبلها لأنها مثلها في أنها من أحوال بني إسرائيل .
والتعبير عن ظلمهم لأنفسهم بكلمة { كانوا } والفعل المضارع { يَظْلِمُونَ } يدل على أن ظلمهم لأنفسهم كان يتكرر منهم ، لأنك لا تقول في ذم إنسان كان يسيء إلى الناس إلا إذا كانت الإِساءة تصدر منه المرة تلو الأخرى .
قال الإِمام ابن جرير - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى : { وَمَا ظَلَمُونَا ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } ما ملخصه : ( هذا من الذي استغنى بدلالة ظاهره على ما ترك منه ، وذلك أن معنى الكلام : كلوا من طيبات ما رزقناكم فخالفوا ما أمرناهم به ، وعصوا ربهم ، ثم رسولنا إليهم ، وما ظلمونا فاكتفى بما ظهر عما ترك ، وقوله { وَمَا ظَلَمُونَا } أي : ما ظلمونا بفعلهم ذلك ومعصيتهم ، وما وضعوا فعلهم ذلك وعصيانهم إيانا موضع مضرة علينا ومنقصة لنا ، ولكنهم وضعوه من أنفسهم موضع مضرة عليها ومنقصة لها فإن الله - تعالى - لا تضره معصية عاص ، ولا يتحيف خزائنه ظلم ظالم ، ولا تنفعه طاعة مطيع ، ولا يزيد في ملكه عدل عادل ، بل نفسَه يظلم الظالم وحظَّها يبخس العاصي ، وإياها ينفع المطيع ، وحظها يصيب العادل ) .
وبذلك تكون الآيات الكريمة قد ذكرت بني إسرائيل بنعمة من أعظم النعم وهي تظليلهم بالغمام بإنزال المن والسلوى عليهم ، ولكن بني إسرائيل لم يشكروا الله على نعمه ، ولذا أرسل الله عليهم رجزاً من السماء بسبب ظلمهم وفسقهم .
{ وظللنا عليكم الغمام } سخر الله لهم السحاب يظلهم من الشمس حين كانوا في التيه .
{ وأنزلنا عليكم المن والسلوى } الترنجبين والسماني . قيل كان ينزل عليهم المن مثل الثلج من الفجر إلى الطلوع ، وتبعث الجنوب عليهم السماني ، وينزل بالليل عمود نار يسيرون في ضوئه ، وكانت ثيابهم لا تتسخ ولا تبلى . { كلوا من طيبات ما رزقناكم } على إرادة القول .
{ وما ظلمونا } فيه اختصار ، وأصله فظلموا بأن كفروا هذه النعم وما ظلمونا . { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } بالكفران لأنه لا يتخطاهم ضرره .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.