التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُۥ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلطَّيۡرُ صَـٰٓفَّـٰتٖۖ كُلّٞ قَدۡ عَلِمَ صَلَاتَهُۥ وَتَسۡبِيحَهُۥۗ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِمَا يَفۡعَلُونَ} (41)

وبعد أن أورد - سبحانه - هذين المثلين للذين كفروا وأعمالهم ، أتبع ذلك ببيان أن الكون كله يسبح بحمد الله - تعالى - وأن الكون كله فى ملكه وقبضته ، فقال - تعالى - : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله . . . } .

الاستفهام فى قوله - تعالى - : { أَلَمْ تَرَ . . . } للتقرير : والرؤية : بمعنى العلم .

والتسبيح : مشتق من السبح ، وهو المر السريع فى الماء أو فى الهواء . فالمسبح : مسرع فى تنزيه الله - تعالى - وتقديسه وإثبات ما يليق بجلاله من صفات الكمال .

والمعنى : لقد علمت أيها الرسول الكريم علما يشبه المشاهدة فى اليقين ، أن الله - تعالى - يسبحه ويقدسه وينزهه عن كل ما لا يليق به - عز وجل - جميع من فى السموات ، وجميع من فى الأرض .

وقوله - تعالى - : { والطير صَآفَّاتٍ } برفع ، " والطير " على أنه معطوف على " من " وبنصب " صافات " على أنه حال .

أى : والطير - أيضا - تسبح لله - تعالى - حال كونها صافات أجنحتها فى الجو ، دون أن يمسكها أحد إلا هو - سبحانه - .

وخص الطيور بالذكر مع أنها مندرجة تحت من فى السموات والأرض لعدم استقرارها بصفة دائمة على الأرض ، فهى - فى مجموعها - تارة على الأرض ، وتارة فى الجو .

وذكرها فى حال بسطها لأجنحتها لأن هذه الحالة من أعجب أحوالها ، حيث تكون فى الجو باسطة لأجنحتها بدون تحريك ، مما يدل على بديع صنع الله فى خلقه .

وصدق الله إذ يقول : { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطير فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرحمن إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ . . . } وقوله - تعالى - : { كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ } استئناف لبيان مظهر من مظاهر قدرة الله - تعالى - وحكمته ، حيث ألهم - سبحانه - كل مخلوق من مخلوقاته كيفية التسبيح لخالقه - عز وجل .

والتنوني فى " كل " عوض عن المضاف إليه ، والضمير المحذوف الذى هو فاعل " علم " يعود على المصلى والمسبح .

أى : كل واحد ممن يصلى لله - تعالى - ويسبح بحمده - سبحانه - ، قد علم معنى صلاته ومعنى تسبيحه ، فهو لم يعبد الله اتفاقا أو بلا روية ، وإنما عبده - تعالى - عن قصد ونية ، ولكن يكفية نفوض معرفتها إل الخالق - عز وجل - وحده .

ومنهم من يرى أن الضمير فى " علم " يعود إلى الله - تعالى - فيكون المعنى : كل واحد من هؤلاء المصلين والمسبحين ، قد علم - سبحانه - صلاتهم وتسبيحهم له علما تاما شاملا .

قال بعض العلماء ما ملخصه : واعلم أن الأظهر أن يكون ضمير الفاعل المحذوف فى قوله { كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ } راجعا إلى المصلين والمسبحين أى : كل من المصلين قد علم صلاة نفسه ، وكل من المسبحين قد علم تسبيح نفسه ، لأنه على هذا القول يكون قوله - تعالى - { والله عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } من باب التأسيس .

أما على القول بأن الضمير يعود إلى الله - تعالى - . أى : كل واحد منهم قد علم الله صلاته وتسبيحه . فيكون قوله - تعالى - : { والله عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } من باب التأكيد اللفظى ، والتأسيس للأحكام أولى من التأكيد لها .

والظاهر أن الطير تسبح وتصلى صلاة وتسبيحا يعلمهما الله ، ونحن لا نعلمهما كما قال - تعالى - { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ . .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُۥ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلطَّيۡرُ صَـٰٓفَّـٰتٖۖ كُلّٞ قَدۡ عَلِمَ صَلَاتَهُۥ وَتَسۡبِيحَهُۥۗ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِمَا يَفۡعَلُونَ} (41)

{ ألم تر } ألم تعلم علما يشبه المشاهدة في اليقين والوثاقة بالوحي أو الاستدلال . { أن الله يسبح له من في السماوات والأرض } ينزه ذاته عن كل نقص وآفة أهل السماوات والأرض ، و { من } لتغليب العقلاء أو الملائكة والثقلان بما يدل عليه من مقال أو دلالة حال . { والطير } على الأول تخصيص لما فيها من الصنع الظاهر والدليل الباهر ولذلك قيدها بقوله : { صافات } فإن إعطاء الجرام الثقيلة ما به تقوى على الوقوف في الجو باسطة أجنحتها بما فيها من القبض والبسط حجة قاطعة على كمال قدرة الصانع تعالى ولطف تدبيره . { كل } كل واحد مما ذكر أو من الطير . { قد علم صلاته وتسبيحه } أي قد علم الله دعاءه وتنزيهه اختيارا أو طبعا لقوله : { والله عليم بما يفعلون } أو علم كل على تشبيه حاله في الدلالة على الحق والميل إلى النفع على وجه يخصه بحال من علم ذلك مع أنه لا يبعد أن يلهم الله تعالى الطير دعاء وتسبيحا كما ألهمها علوما دقيقة في أسباب تعيشها لا تكاد تهتدي إليها العقلاء .