ثم ذكر - سبحانه - بعض النعم التي أنعم بها على عيسى وأمه فقال : { إِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ اذكر نِعْمَتِي عَلَيْكَ وعلى وَالِدَتِكَ } .
وقوله : { إِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ } بدل من قوله : { يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل } وقد نصب بإضمار اذكر .
والمعنى : اذكر أيها المخاطب لتعتبر وتتعظ يوم يجمع الله الرسل فيقول لهم ماذا أجبتم ؟ واذكر - أيضاً - زيادة في العبرة والعظة قوله - سبحانه - { ياعيسى ابن مَرْيَمَ } تذكر يا عيسى نعمتي المتعددة عليك وعلى والدتك - وعبر بالماضي في قوله : { إذ قال الله } مع أن هذا القول سيكون في الآخرة ، للدلالة على تحقيق الوقوع ، وأن هذا القول سيحصل بلا أدنى ريب يوم القيامة .
قال أبو السعود : قوله - تعالى : { إِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ } شروع في بيان ما جرى بينه - تعالى - وبين واحد من الرسل المجموعين ، من المفاوضة على التفصيل ، إثر بيان ما جرى بينه - تعالى - وبين الكل على وجه الإِجمال ليكون ذلك كالأنموذج لتفاصيل أحوال الباقين ، وتخصيصي شأن عيسى بالبيان ، لما أن شأنه - عليه السلام - متعلق بكلا الفريقين من أهل الكتاب الذين نعت عليهم هذه السورة جناياتهم . فتفصيل شأنه يكون أعظم عليهم ، وأجلب لحسراتهم ، وأدخل في صرفهم عن غيهم وعنادهم .
والمراد بالنعمة في قوله { اذكر نِعْمَتِي } النعم المتعددة التي أنعم بها - سبحانه - على عيسى وعلى والدته مريم حيث طهرها من كل ريبة ، واصطفاها على نساء العالمين .
وفي ندائه - سبحانه - لعيسى بقوله { ياعيسى ابن مَرْيَمَ } إشارة إلى أنه ابن لها وليس ابنا لأحد سواها ، فقد ولد من غير أب ، ومن كان شأنه كذلك لا يصلح أن يكون إلها ، لأن الإِله الحق لا يمكن أن يكون مولودا أو محدثا .
وقوله : { إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ القدس تُكَلِّمُ الناس فِي المهد وَكَهْلاً } تعديد للنعم التي أنعم الله - تعالى - بها على عيسى .
وقوله { أيدتك } أي قويتك من التأييد بمعنى التقوية .
والمراد بروح القدس : جبريل - عليه السلام - فإن من وظيفته أن يؤيد الله به رسله بالتعليم الإلهي ، وبالتثبيت في المواطن التي من شأن البشر أن يضعفوا فيها .
وقيل : المراد { بِرُوحِ القدس } روح عيسى حيث أيده - سبحانه - بطبيعة روحانية مطهرة في وقت سادت فيه المادية وسيطرت .
أي : أيدتك بروح الطهارة والنزاهة والكمال ، فكنت متسما بهذه الروح الطاهرة من كل سوء .
والمهد : سن الطفولة والصبا - والكهولة : السن التي يكون في أعقاب سن الشباب .
والمعنى : اذكر يا عيسى نعمتي عليك وعلى والدتك ، وقد أن قويتك بروح القدس الذي تقوم به حجتك ، ووقت أن جعلتك تكلم الناس في طفولتك بكلام حكيم لا يختلف عن كلامك معهم في حال كهولتك واكتمال رجولتك .
وقوله : { إِذْ أَيَّدتُّكَ } ظرف لنعمتي . أي : اذكر إنعامي عليكما وقت تأييدي لك . وذكر - سبحانه - كلامه في حال الكهولة - مع أن الكلام في هذه الحالة معهود في الناس - للإِيذان بأن كلامه دون أن يكون هناك فرق بين حالة الضعف وحالة القوة . قال الرازي : وهذه خاصية شريفة كانت حاصلة له ، وما حصلت لأحد من الأنبياء قبله ولا بعده .
وقال ابن كثير : قوله { اذكر نِعْمَتِي عَلَيْكَ } أي في خلقي إياك من أم بلا ذكر ، وجعلي إياك آية ودلالة قاطعة على كمال قدرتي { وعلى وَالِدَتِكَ } حيث جعلتك لها برهانا على براءته مما نسبة الظالمون والجاهلون إليها من الفاحشة و { إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ القدس } وهو جبريل ، وجعلتك نبيا داعيا إلى الله في صغرك وكبرك . فأنطقتك في المهد صغيراً : فشهدت ببراءة أمك من كل عيب . واعترفت لي بالعبودية . وأخبرت عن رسالتي إياك ودعوتك إلى عبادتي ولهذا قال : { تُكَلِّمُ الناس فِي المهد وَكَهْلاً } أي : تدعو إلى الله الناس في صغرك وكبرك . وضمّن { تكلم } معنى تدعو ، لأن كلامه الناس في كهولته ليس بأمر عجيب .
وقوله : { وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل } بيان لنعمة أخرى من النعم التي أنعم بها - سبحانه - على عيسى .
والمراد بالكتاب : الكتابة . أي أن عيسى - عليه السلام - لم يكن أميا بل كان قارئا وكاتبا وقيل المراد به ما سبقته من كتب النبيين كزبور وداود ، وصحف إبراهيم ، وأخبار الأنبياء الذين جاءوا من قبله .
والمراد بالحكمة : الفهم العميق للعلوم مع العمل بما فهمه وإرشاد الغير إليه .
أي : واذكر وقت أن علمتك الكتابة حتى تستطيع أن تتحدى من يعرفونها من قومك . ووقت أن علمتك { الحكمة } بحيث تفهم أسرار العلوم فهما سليما تفوق به غيرك ، كما علمتك أحكام الكتاب الذي أنزلته على أخيكح موسى وهو التوراة وأحكام الكتاب الذي أنزلته عليك وهو الإنجيل .
ثم ذكر - سبحانه - بعض معجزات عيسى ، بعد أن بين بعض ما منحه من علم ومعرفة ، فقال : { وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير بِإِذْنِي } أي : واذكر وقت أن وفقتك لأن تخلق أي تصور من الطين صورة مماثلة لهيئة الطوير { فتنفخ فيها } أي في تلك الهية المصورة { فتكون } أي فتصير تلك الهيئة المصورة { طَيْراً بِإِذْنِي } أي : تصير كذلك بقدرتي وإرادتي وأمري .
ثم قال - تعالى : { وَتُبْرِىءُ الأكمه } وهو الذي يولد أعمى ؛ وتبرئ كذلك { والأبرص } وهو المريض بهذا المرض العضال { بِإِذْنِي } .
وقوله : { وتبرئ } معطوف على { تخلق } .
وقوله : { وَإِذْ تُخْرِجُ الموتى بِإِذْنِيِ } معطوف على قوله : { وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين } .
أي : واذكر وقت أن جعلت من معجزاتك أن تخرج الموتى من القبور أحياء ينطقون ويتحركون . وكل ذلك بإذني ومشيئتي وإرادتي .
وقد ذكر المفسرون أن إبراء عيسى للأكمة والأبرص وإحياءه للموتى كان عن طريق الدعاء ، وكان دعاؤه يا حي يا قيوم ، وذكروا من بني من أحياهم سام بن نوح .
وبعد أن ذكر - سبحانه - بعض المعجزات التي أعطاها لعيسى لكي ينفع بها الناس ، أتبعها بذكر ما دفعه عنه من مضار فقالك { وَإِذْ كَفَفْتُ بني إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بالبينات } .
أي : واذكر ينعمتي عليك وقت أن صرفت عنك اليهود الذين أرادوا السوء ، وسعوا في قتلك وصلبك مع أنك قد بشرتهم وأنذرتهم وجئتهم بالمعجزات الواضحات التي تشهد بصدقك في نبوتك .
وقوله { فَقَالَ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } تذييل قصد به ذمم وتسجيل الحقد والجحود عليهم .
أي : لقد أعطيناك يا عيسى ما أعطيناك من النعم والمعجزات لتكون دليلا ناطقا بصدقك ، وشاهداً يحمل الناس على الإِيمان بنبوتك ، ولكن الكافرين من بني إسرائيل الذين أرسلت إليهم لم يصدقوا ما جئتهم به من معجزات واضحات ، بل سارعوا إلى كذيبك قائلين : ما هذا الذي جئتنا به يا عيسى إلا سحر ظاهر ، وتخبيل بين .
وهكذا نرى أن الكافرين من بني إسرائيل ، لم تزدهم البينات التي جاء بها عيسى إلا جحوداً وعناداً .
{ إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك } بدل من يوم يجمع وهو على طريقة { ونادى أصحاب الجنة } والمعنى أنه سبحانه وتعالى يوبخ الكفرة يومئذ بسؤال الرسل عن إجابتهم وتعديد ما أظهر عليهم من الآيات فكذبتهم طائفة وسموهم سحرة ، وغلا آخرون فاتخذوهم آلهة . أو نصب بإضمار اذكر . { إذ أيدتك } قويتك وهو ظرف لنعمتي أو حال منه وقرئ " آيدتك " . { بروح القدس } بجبريل عليه الصلاة والسلام ، أو بالكلام الذي يحيا به الدين ، أو النفس حياة أبدية ويطهر من الآثام ويؤيده قوله : { تكلم الناس في المهد وكهلا } أي كائنا في المهد وكهلا ، والمعنى تكلمهم في الطفولة والكهولة على سواء ، والمعنى إلحاق حاله في الطفولية بحال الكهولية في كمال العقل والتكلم ، وبه استدل على أنه سينزل فإنه رفع قبل أن يكتمل . { وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني } سبق تفسيره في سورة " آل عمران " . وقرأ نافع ويعقوب " طائرا " ويحتمل الإفراد والجمع كالباقر . { وإذ كففت بني إسرائيل عنك } يعني اليهود حين هموا بقتله . { إذ جئتهم بالبينات } ظرف لكففت . { فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين } أي ما هذا الذي جئت به إلا سحر مبين . وقرأ حمزة والكسائي إلا " ساحر " فالإشارة إلى عيسى عليه الصلاة والسلام .