التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَا لَكُمۡ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلۡتُمۡ إِلَى ٱلۡأَرۡضِۚ أَرَضِيتُم بِٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا مِنَ ٱلۡأٓخِرَةِۚ فَمَا مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا فِي ٱلۡأٓخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} (38)

وقد بدأت السورة حديثها عن عزوة تبوك بتوجيه نداء إلى المؤمنين نعت فيها على المتثاقلين عن الجهاد ، وحرضت عليه بشتى ألوان التحريض قال تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ . . . إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } .

قال الإِمام ابن كثير : هذا شروع في عتاب في عتاب من تخلف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك ، حين طابت الثمار والظلال في شدة الحر ، وحمارة القيظ .

وتبوك : اسم لمكان معروف في أقصى بلاد الشام من ناحية الجنوب ، ويبعد عن المدينة المنور من الجهة الشمالية بحوالى ستمائة كيلو متر .

وكانت غزوة تبوك في شهر رجب من السنة التاسعة ، وهى آخر غزوة لرسول الله ، - صلى الله عليه وسلم - .

وكان السبب فيها أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بلغة أن الروم قد جمعوا له جوعا كثيرة على أطارف الشام ، وأنهم يريدون أن يتجهوا إلى الجنوب لمهاجمة المدينة .

فاستنفر - صلى الله عليه وسلم - الناس إلى قتال الروم ، وكان - صلى الله عليه وسلم - قلما يخرج إلى غزوة إلا ورى بغيرها حتى يبقى الأمر سراً .

ولكنه في هذه الغزوة صرح للمسلمين بوجهته وهى قتال الروم ، وذلك لبعد المسافة ، وضيق الحال ، وشدة الحر ، وكثرة العدو .

وقد لبى المؤمنون دعوة رسولهم - صلى الله عليه وسلم - لقتال الروم ، وصبروا على الشدائد ، والمتاعب وبذلوا الكثير من أموالهم ، ولم يتخلف منهم إلا القليل .

أما المنافقون وكثير من الأعراب ، فقد تخلفوا عنها ، وحرضوا غيرهم على ذلك ، وحكت السورة . في كثير من آياتها الآتية . ما كان منهم من جبن ومن تخذيل الناس عن القتال ، ومن تحريض لهم على القعود وعدم الخروج .

وبعد أن وصل الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنون إلى تبوك ، لم يجدوا جموعا للروم . فأقاموا هناك بضع عشرة ليلة ، ثم عادوا إلى المدينة .

وقوله - سبحانه - : { انفروا } من النفر وهو التنقل بسرعة من مكان إلى مكان لسبب من الأسباب الداعية لذلك .

يقال : نفر فلان إلى الحرب ينفر وينفر نفراً ونفوراً ، إذا خرج بسرعة ويقال : استنفر الإِمام الناس ، إذا حرضهم على الخروج للجهاد . ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - : " وإذا استنفرتم فانفروا " أى : وإذا دعاكم الإِمام إلى الخروج معه للجهاد فاخرجوا معه بدون تثاقل .

واسم القوم الذين يخرجون للجهاد : النفير والنفرة والنفر .

ويقال : نفر فلان من الشئ ، إذا فزع منه ، وأدبر عنه ، ومنه قوله - تعالى - { وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي القرآن وَحْدَهُ وَلَّوْاْ على أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً } وقوله : { اثاقلتم } : من الثقل ضد الخفة . يقال : تثاقل فلان عن الشئ ، إذا تباطأ عنه ولم يهتم به . . ويقال : تثاقل القوم : إذا لم ينهضوا لنجدة المستجير بهم . وأصل { اثاقلتم } تثاقلتم ، فأبدلت التاء ثاء ثم أدغمت فيها ، ثم اجتلبت همزة الوصل من أجل التوصل للنطق بالساكن .

والمعنى : أيها الذين آمنوا بالله ورسوله ، { مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا فِي سَبِيلِ الله اثاقلتم إِلَى الأرض } أى : ما الذي جعلكم تباطأتم عن الخروج إلى الجهاد ، حين دعاكم رسولكم - صلى الله عليه وسلم - إلى قتال الروم ، وإلى النهوض لإِعلاء كلمة الله ، ونصرة دينه ؟

وقد ناداهم - سبحانه - بصفة الإِيمان ، لتحريك حرارة العقيدة في قلوبهم ، وتوجيه عقولهم إلى ما يستدعيه الإِيمان الصادق من طاعة الله ولرسوله .

والاستفهام في قوله : { مَا لَكُمْ } لإِنكار واستبعاد صدور هذا التثاقل منهم ، مع أن هذا يتنافى مع الإِيمان والطاعة .

قال الجمل : و " ما " مبتدأ ، و " لكم " خبر ، وقوله " اثاقلتم " حال . وقوله : { إِذَا قِيلَ لَكُمُ } ظرف لهذه الحال مقدم عليها .

والتقدير : أى شئ ثبت لكم من الأعذار . حال كونكم متثاقلين في وقت قول الرسول لكم : انفوا في سبيل الله .

وقوله { إِلَى الأرض } متعلق بقوله : " اثاقلتم " على تضمينه معنى الميل إلى الراحة ، والإِخلاد إلى الأرض ، ولذا عدى بإلى .

أى : اثاقلتم مائلين إلى الراحة وإلى شهوات الدنيا الفانية ، وإلى الإِقامة بأرضكم ودياركم ، وكرهتم الجهاد مع أنه ذروة سنام الإِسلام .

وإن التعبير بقوله ، سبحانه ، { اثاقلتم } لفى أسمى درجات البلاغة ، وأعلى مراتب التصوير الصادق ، لأنه بلفظه وجرسه يمثل الجسم المسترخى الثقيل الذي استقر على الأرض . . . والذى كلما حاول الرافعون أن يرفعوه عاد إليه ثقله فسقط من بين أيديهم ، وأخلد إلى الأرض .

وذلك لأن ما استولى عليه من حب للذائذ الدنيا وشهواتها ، أثقل بكثير من حبه لنعيم الآخرة وخيراتها .

وقوله ، سبحانه ، : { أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة } إنكار آخر لتباطئهم عن الجهاد ، وتعجب من ركونهم إلى الدنيا مع أن إيمانهم يتنافى مع ذلك .

وقوله . { فَمَا مَتَاعُ الحياة الدنيا فِي الآخرة } بيان لحقارة متاع الدنيا بالنسبة لنعنيم الآخرة الدائم :

والمعنى : أى شئ حال بينكم ، أيها المؤمنون ، وبين المسارعة إلى الجهاد عندما دعاكم رسولكم - صلى الله عليه وسلم - إليه . أرضيتم براحة الحياة الدنيا ولذائذها النقاصة .

إن كان أمركم كذلك ، فقد أخطأتم الصواب ، لأن متاع الحياة الدنيا مهما كثر فهو قليل مستحقر بجانب متاع الآخرة الباقى ، ونعيهما الخالد .

قال الآلوسى ما ملخصه : " في " من قوله { فَمَا مَتَاعُ الحياة الدنيا فِي الآخرة } تسمى بفى القياسية . لأن المقيص يوضع في جنب ما يقاس به . وفى ترشيح الحياة الدنيا بما يؤذن بنفاستها ، ويستدعى الرغبة فيها . وتجريد الآخرة عن ذلك مثل مبالغة في بيان حقارة الدنيا ودناءتها وعظم شأن الآخر ورفعتها .

وقد أخرج أحمد ومسلم والترمذى والنسائى وغيرهم عن المستورد ، أخى بنى فهر ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه هذه في اليمن ، فلينظر بم ترجع " .

وقال الفخر الرازى : اعلم أن هذه الآية تدل على وجوب الجهد في كل حال ، لأنه ، سبحانه ، نص على أن تثاقلهم عن الجهاد أمر منكر ، ولو لم يكن الجهاد واجبا لما كان هذا التثاقل منكرا . وليس لقائل أن يقول : الجهاد إنما يجب في الوقت الذي يخاف هجوم الكفار فيه ، لأنه عليه اللاسم ، ما كان يخاف هجوم الروم عليه ، ومع ذلك فقد أوجب الجهاد معهم . . وأيضاً هو واجب على الكفاية ، فإذا قام به البعض سقط عن الباقين . والخطاب في الآية للمؤمنين الذين تقاعسوا في الخروج إلى غزوة تبوك مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَا لَكُمۡ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلۡتُمۡ إِلَى ٱلۡأَرۡضِۚ أَرَضِيتُم بِٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا مِنَ ٱلۡأٓخِرَةِۚ فَمَا مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا فِي ٱلۡأٓخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} (38)

هذا شروع في عتاب من تخلَّف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، حين طابت الثمار والظلال في شدة الحر وحَمَارَّة{[13499]} القيظ ، فقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } أي : إذا دعيتم إلى الجهاد في سبيل الله { اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأرْضِ } أي : تكاسلتم وملتم إلى المقام في الدعة والخفض وطيب الثمار ، { أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ } أي : ما لكم فعلتم{[13500]} هكذا أرضا منكم بالدنيا بدلا من الآخرة

ثم زهد تبارك وتعالى في الدنيا ، ورغب في الآخرة ، فقال : { فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ } كما قال الإمام أحمد .

حدثنا وَكِيع ويحيى بن سعيد قالا حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس ، عن المستَوْرِد أخي بني فِهْر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل إصبعه هذه في اليم ، فلينظر بما ترجع ؟{[13501]} وأشار بالسبابة .

انفرد بإخراجه مسلم{[13502]} وقال ابن أبي حاتم : حدثنا بشر بن مسلم بن{[13503]} عبد الحميد الحِمْصي ، حدثنا الربيع بن رَوْح ، حدثنا محمد بن خالد الوهبي ، حدثنا زياد - يعني الجصاص - عن أبي عثمان قال : قلت : يا أبا هريرة ، سمعت من إخواني بالبصرة أنك تقول : سمعت نبي الله يقول : " إن الله يجزي بالحسنة ألف ألف حسنة " قال أبو هريرة : بل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله يجزي بالحسنة ألفي ألف حسنة " ثم تلا هذه الآية : { فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ } {[13504]} {[13505]} فالدنيا ما مضى منها وما بقي منها عند الله قليل .

وقال [ سفيان ]{[13506]} الثوري ، عن الأعمش في الآية : { فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ } قال : كزاد الراكب .

وقال عبد العزيز بن أبي حازم{[13507]} عن أبيه : لما حضرت عبد العزيز بن مروان الوفاةُ قال : ائتوني بكفني الذي أكفن فيه ، أنظر إليه{[13508]} فلما وضع بين يديه نَظَر إليه فقال : أمَا لي من كَبِير{[13509]} ما أخلف من الدنيا إلا هذا ؟ ثم ولى ظهره فبكى وهو يقول أفٍّ لك من دار . إن كان كثيرُك لقليل ، وإن كان قليلك لقصير ، وإن كنا منك لفي غرور .


[13499]:- في أ : "وحماوة".
[13500]:- في ت ، ك ، أ : "صنعتم".
[13501]:- في أ : "يرجع".
[13502]:- المسند (4/228) وصحيح مسلم برقم (2858).
[13503]:- في أ : "عن".
[13504]:- في ت ، ك ، أ : "ما الحياة" وهو خطأ.
[13505]:- ورواه عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد ، وابن مردويه في تفسيره كما في الدر المنثور (5/193).
[13506]:- زيادة من ت ، ك ، أ.
[13507]:- في أ : "حاتم".
[13508]:- في ت : "فيه".
[13509]:- في ت ، ك ، أ : "كثير".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَا لَكُمۡ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلۡتُمۡ إِلَى ٱلۡأَرۡضِۚ أَرَضِيتُم بِٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا مِنَ ٱلۡأٓخِرَةِۚ فَمَا مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا فِي ٱلۡأٓخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} (38)

هذا ابتداء خطاب للمؤمنين للتحريض على الجهاد في سبيل الله ، بطريقة العتاب على التباطىء بإجابة دعوة النفير إلى الجهاد ، والمقصود بذلك غزوة تبوك . قال ابن عطية : « لا اختلاف بين العلماء في أنّ هذه الآية نزلت عتاباً على تخلّف مَن تخلّف عن غزوة تبوك ، إذ تخلّف عنها قبائل ورجال من المؤمنين والمنافقون » فالكلام متّصل بقوله : { وقاتلوا المشركين كافة } [ التوبة : 36 ] وبقوله { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } إلى قوله { فذوقوا ما كنتم تكنزون } [ التوبة : 29 35 ] كما أشرنا إليه في تفسير تلك الآيات .

وهو خطاب للذين حصل منهم التثاقل ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم استنفر المسلمين إلى تلك الغزوة ، وكان ذلك في وقت حرّ شديد ، واستقبل سفراً بعيداً ومفازاً ، حين نضجت الثمار ، وطابت الظلال ، وكان المسلمون يومئذٍ في شدّة حاجة إلى الظهر والعُدّة . فلذلك سُمّيت غزوة العُسرة كما سيأتي في هذه السورة ، فجلى رسولُ الله للمسلمين أمرهم ليتأهّبوا أهبة عدوّهم ، وأخبرهم بوجههِ الذي يريد ، وكان قبل ذلك لا يريد غزوة إلاّ وَرَّى بما يوهم مكاناً غير المكان المقصود ، فحصل لبعض المسلمين تثاقل ، ومن بعضهم تخلّف ، فوجه الله إليهم هذا الملام المعقّب بالوعيد .

فإنّ نحن جرَينا على أنّ نزول السورة كان دفعة واحدة ، وأنّه بعد غزوة تبوك ، كما هو الأرجح ، وهو قول جمهور المفسّرين ، كان محمل هذه الآية أنّها عتاب على ما مضى وكانت { إذا } مستعملة ظرفاً للماضي ، على خلاف غالب استعمالها ، كقوله تعالى : { وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها } [ الجمعة : 11 ] وقوله : { ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد } [ التوبة : 92 ] الآية ، فإنّ قوله : { وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله } [ النساء : 75 ] صالح لإفادَة ذلك ، وتحذيرٌ من العودة إليه ، لأنّ قوله : { إلاَّ تنفروا } و { إلاّ تنصروه } و { انفروا خفافاً } مراد به ما يستقبل حين يُدعَون إلى غزوة أخرى ، وسنبيّن ذلك مفصّلاً في مواضعه من الآيات .

وإن جرينا على ما عَزاه ابن عطية إلى النقاش : أنّ قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض } هي أول آية نزلت من سورة براءة ، كانت الآية عتاباً على تكاسلٍ وتثاقلٍ ظهرا على بعض الناس ، فكانت { إذا } ظرفاً للمستقبل ، على ما هو الغالب فيها ، وكان قوله : { إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً } [ التوبة : 39 ] تحذيراً من ترك الخروج إلى غزوة تبوك ، وهذا كلّه بعيد ممّا ثبت في « السيرة » وما ترجّح في نزول هذه السورة .

و { مَا } في قوله : و { ما لكم } اسم استفهام إنكاري ، والمعنى : أي شيء ، و { لكم خبر عن الاستفهام أي : أي شيء ثَبت لكم .

و{ إذا } ظرف تعلّق بمعنى الاستفهام الإنكاري على معنى : أنّ الإنكار حاصل في ذلك الزمان الذي قيل لهم فيه : انفروا ، وليس مضمّناً معنى الشرط لأنّه ظرفُ مُضيّ .

وجملة { اثاقلتم } في موضع الحال من ضمير الجماعة ، وتلك الحالة هي محل الإنكار ، أي : ما لكم متثاقلين . يقال : ما لكَ فعلت كذا ، وما لك تَفعل كذا كقوله : { ما لكم لا تناصرون } [ الصافات : 25 ] ، وما لك فاعِلاً ، كقوله : { فما لكم في المنافقين فئتين } [ النساء : 88 ] .

والنَّفْر : الخروج السريع من موضع إلى غيره لأمرٍ يحدث ، وأكثر ما يطلق على الخروج إلى الحرب ، ومصدره حينئذٍ النفير .

وسبيل الله : الجهاد ، سمّي بذلك لأنّه كالطريق الموصّل إلى الله ، أي إلى رضاه .

و { اثَّاقلتم } أصله تثاقلتم قلبت التاء المثنّاة ثاء مثلّثة لتقارب مخرجيهما طلباً للإدغام ، واجتلبت همزة الوصل لإمكان تسكين الحرف الأول من الكلمة عند إدغامه .

( والتثاقل ) تكلّف الثقل ، أي إظهار أنّه ثقيل لا يستطيع النهوض .

والثِقَل حالة في الجسم تقتضي شدّة تطلّبه للنزول إلى أسفل ، وعُسرَ انتقاله ، وهو مستعمل هنا في البطء مجازاً مرسلاً ، وفيه تعريض بأنّ بُطأهم ليس عن عجز ، ولكنّه عن تعلّق بالإقامة في بلادهم وأموالهم .

وعُدّي التثاقل ب { إلى } لأنّه ضمن معنى المَيل والإخلاد ، كأنّه تثاقل يطلب فاعله الوصول إلى الأرض للقعود والسكون بها .

والأرض ما يمشي عليه الناس .

ومجموع قوله : { اثاقلتم إلى الأرض } تمثيل لحال الكارهين للغزو المتطلّبين للعُذر عن الجهاد كسلاً وجبناً بحال من يُطلب منه النهوض والخروج ، فيقابل ذلك الطلب بالالتصاق بالأرض ، والتمكّن من القعود ، فيأبى النهوض فضلاً عن السير .

وقوله : { إلى الأرض } كلام موجه بديع : لأنّ تباطؤهم عن الغزو ، وتطلّبهم العذر ، كان أعظم بواعثه رغبتهم البقاء في حوائطهم وثمارهم ، حتّى جعل بعض المفسّرين معنى اثاقلتم إلى الأرض : ملتم إلى أرضكم ودياركم .

والاستفهام في { أرضيتم بالحياة الدنيا } إنكاري توبيخي ، إذ لا يليق ذلك بالمؤمنين .

و { مِنْ } في { من الآخرة } للبدل : أي كيف ترضون بالحياة الدنيا بدلاً عن الآخرة . ومثل ذلك لا يُرضَى به والمراد بالحياة الدنيا ، وبالآخرة : منافعهما ، فإنّهم لمّا حاولوا التخلّف عن الجهاد قد آثروا الراحة في الدنيا على الثواب الحاصل للمجاهدين في الآخرة .

واختير فعل { رَضيتم } دون نحو آثرتم أو فضّلتم : مبالغة في الإنكار ، لأن فعل ( رضي بكذا ) يدلّ على انشراح النفس ، ومنه قول أبي بكر الصديق في حديث الغار « فشرب حتّى رضيت » .

والمَتاع : اسم مصدر تمتّع ، فهو الالتذاذ والتنعّم ، كقوله : { متاعاً لكم ولأنعامكم } [ عبس : 32 ] ووصفه ب { قليل } بمعنى ضعيف ودنيء استعير القليل للتافه .

ويحتمل أن يكون المتاع هنا مراداً به الشيء المتمتّع به ، من إطلاق المصدر على المفعول ، كالخلق بمعنى المخلوق فالإخبار عنه بالقليل حقيقة .

وحرف { في } من قوله : { في الآخرة } دالّ على معنى المقايسة ، وقد جعلوا المقايسة من معاني { في } كما في « التسهيل » و« المغني » ، واستشهدوا بهذه الآية أخذاً من « الكشاف » ولم يتكلّم على هذا المعنى شارحوهما ولا شارحو « الكشّاف » ، وقد تكرّر نظيره في القرآن كقوله في سورة الرعد ( 26 )

{ وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع } ، وقوله في حديث مسلم ما الدنيا في الآخرة إلاّ كمثَل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليمّ فلينظر بم يرجع وهو في التحقيق ( مِن ) الظرفية المجازية : أي متاع الحياة الدنيا إذا أقحم في خيرات الآخرة كان قليلاً بالنسبة إلى كثرة خيرات الآخرة ، فلزم أنّه ما ظهرت قلّته إلاّ عندما قيس بخيرات عظيمة ونسب إليها ، فالتحقيق أنّ المقايسة معنى حاصل لاستعمالِ حرف الظرفية ، وليس معنى موضوعاً له حرف ( في ) .