التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{۞وَٱلۡوَٰلِدَٰتُ يُرۡضِعۡنَ أَوۡلَٰدَهُنَّ حَوۡلَيۡنِ كَامِلَيۡنِۖ لِمَنۡ أَرَادَ أَن يُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَۚ وَعَلَى ٱلۡمَوۡلُودِ لَهُۥ رِزۡقُهُنَّ وَكِسۡوَتُهُنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ لَا تُكَلَّفُ نَفۡسٌ إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَا تُضَآرَّ وَٰلِدَةُۢ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوۡلُودٞ لَّهُۥ بِوَلَدِهِۦۚ وَعَلَى ٱلۡوَارِثِ مِثۡلُ ذَٰلِكَۗ فَإِنۡ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٖ مِّنۡهُمَا وَتَشَاوُرٖ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَاۗ وَإِنۡ أَرَدتُّمۡ أَن تَسۡتَرۡضِعُوٓاْ أَوۡلَٰدَكُمۡ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ إِذَا سَلَّمۡتُم مَّآ ءَاتَيۡتُم بِٱلۡمَعۡرُوفِۗ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ} (233)

وبعد أن بين - سبحانه - حقوق الزوجين في حالتي اجتماعهما وافتراقهما ، أردف ذلك ببيان حقوق الأطفال الذين يكونون ثمرة لهذا الزواج . فقال تعالى :

{ والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ . . . }

المراد بالوالدات الأمهات سواء أكن في عصمة أزواجهن أم مطلقات لأن اللفظ عام في الكل ولا يوجد ما يقتضي تخصيصه بنوع من الأمهات . ويرى بعض المفسرين أن المراد بالوالدات هنا خصوص المطلقات لأن سياق الآيات قبل ذلك في أحكام الطلاق ، ولأن المطلقة عرضة لإهمال العناية بالولد وترك إرضاعه .

وحولين أي عامين . وأصل الحول - كما يقول الرغاب - تغير الشيء وانفصاله عن غيره .

والحول : السنة اعتباراً بانقلابها ودروان الشمس في مطالقعها ومغاربها . قال - تعالى - : { والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } ومنه حالت السنة تحول وحالت الدار تغيرت ، وأحال فلان بمكان كذا أي أقام به حولا " .

وعبر عن الأمهات بالوالدات ، للإِشارة إلى أنهن اللائي ولدن أولادهن ، وأنهن الوعاء الذيب خرجوا منه إلى الحياة ، ومنهن يكون الغذاء الطبيعي المناسب لهذا المولود الذي جاء عن طريقهن .

وقوله : { يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ } جملة خبرية اللفظ إنشائية المعنى ، إذ التقدير ليرضعن . أي : عليهن إرضاع أولادهن .

وعبر عن الطلب بصيغة الخبر ، للإِشعار بأن إرضاع الأم لطفلها عمل توجبه الفطرة ، وتنادي به طبيعة الأمومة .

قال الجمل : وهذا الأمر للندب وللوجوب ، فهو يكون للندب عند استجماع شروط ثلاثة ، قدرة الأب على استئجار المرضع ، ووجود من يرضعه غير الأم ، وقبول الولد للبن الغير . ويكون للوجوب عند فقد أحد هذه الشروط .

وليس التحديد بالحولين للوجوب ، لأنه يجوز الفطام قبل ذلك ، بدليل قوله : { لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة } وإنما المقصود بهذا التحديث قطع التنازع بين الزوجين إذا تنازعا في مدة الرضاع ، فإذا اتفق الأب والأم على أن يفطما ولدهما قبل تمام الحولين كان لهما ذلك إذا لم يتضرر الولد بهذا الفطام ، وإن أراد الأب أن يفطمه قبل الحولين ولم ترض الأم أو العكس لم يكن لأحدهما ذلك .

قال القرطبي ما ملخصه : وقد انتزع مالك - رحمه الله - ومن تابه وجماعة من العلماء من هذه الآية أن الرضاعة المحرمة الجارية مجرى النسب إنما هي ما كان في الحولين ، لأنه بانقضاء الحولين تمت الرضاعة ، ولا رضاعة بعد الحولين معتبرة . . لقوله - تعالى - : { والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } فهذا يدل على ألا حكم لما ارتضع المولود بعد الحولين . وروى سفيان عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا رضاع إلا ما كان في الحولين " وهذا الخبر مع الآية ينفى رضاعة الكبير وأنه لا حرمة له . وقد روى عن عائشة القول به ، وروى عن ابن أبي موسى الأشعري أنه كان يرى رضاع كبير . وروى عنه الرجوع عنه . وسيأتي تحقيق هذه المسألة في سورة النساء .

وفي وصف الحولين بكاملين : تأكيد لرفع توهم أن يكون المراد حولا وبعض الثاني ، لأن إطلاق التثنية والجمع في الأزمان والأسنان على بعض المدلول إطلاق شائع عند العرب .

فيقولون : هو ابن سنتين ، ويريدون سنة وبعض الثانية .

وفي هذه الجملة الكريمة { والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } بيان لمظهر من مظاهر رعاية الله - تعالى - للإِنسان منذ ولادته ، بل منذ تكوينه في بطن أمه جنبناً ، فقد أمر لطفلها في هذه الفترة ، وأسلم وسيلة لضمان صحته ونموه ، ولصيانته من الأمراض النفسية والعقلية ، فقد أثبت الأطباء الثقاة أن الطفل كثيراً ما يصاب بأمراض جسمية ونفسية وعقلية نتيجة رضاعته من غير أمه ، كما أثبتوا أن عناية الأم بطفلها في هذه الفترة عن طريق إرضاعه ورعايته ، تؤدي إلى تحسن أحواله . . .

وقوله : { لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة } بيان لمن توجه إليه الحكم . أي هذا الحكم لمن أراد إتمام الرضاع ، فإذا أراد الأبوان أن ينقصا مدة الرضاع عن الحولين كان لهما ذلك . فالجملة الكريمة خبر لمبتدأ محذوف أي هذا الحكم لمن أراد أن يتم مدة الرضاعة .

وقوله : { وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالمعروف } بيان لما يجب على الآباء .

أي : وعلى الآباء أن يقدموا إلى الوالدات ما يلزمهنم من نفقة وكسوة بالمعروف أي بالطريقة التي تعارف عليها العقلاء بدون إسراف أو تقتير .

قال صاحب الكشاف : فإن قلت لم قيل { المولود لَهُ } دون الوالد ؟ قلت : ليلعم أن الوالدات إنما ولدن لهم ، لأن الأولاد للآباء ، ولذلك ينسبون إليهم لا إلى الأمهات ، كما قال المأمون بن الرشيد :

فإنما أمهات الناس أوعية . . . مستودعات وللآباء أبناء

فكان عليهم أن يرزقوهن ويكسوهن إذا أرضعن ولدهم كالأظار ألا ترى أنه ذكره باسم الوالد حيث لم يكن هذا المعنى وهو قوله - تعالى - : { ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً . . . } وقوله : { لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا } تعليل لإيجاب المؤن بالمعروف . أو تفسير للمعروف ولهذا فصلت هذه الجملة عن سابقتها ، وقوله { وُسْعَهَا } منصوب على أنه مفعول ثان لتكلف ، والاستثناء قبله مفرغ أي أن الولد لا يكلف في الإنفاق عليه وعلى أمه إلا بالقدر الذي تتسع له مقدرته بدون إرهاق أو مشقة .

وتلك هي سنة الإِسلام في جميع تكاليفه ، فالله - تعالى - ما كلف عباده إلا بما يستطيعونه ويطيقونه بدون عسر أو عنت قال - تعالى - : { لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا } وقال - تعالى - : { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } وقوله : { لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ } تعليل للأحكام السابقة الموزعة بين الأب والأم ، والتي أساسها رعاية حق هذا الوليد الذي أتى عن طريقهما .

والمضارة مفاعلة من الضرر ، والمعنى : لا ينبغي أن يقع ضرر على الأم بسبب ولدها ، بأن يستغل الأب حنوها على وليدها فيمنعها شيئاً من نفقتها ، أو يأخذ منها طفلها وهي تريد إرضاعه ، أو يكلفها بما ليس في مقدروها أو ما يخالف وظيفتها ، ولا ينبغي كذلك أن يقع ضرر على الأب بسبب ولده ، بأن تكلفه الأم بما لا تتسع له قدرته مستغلة محبته لولده وعنايته بتنشئته تنشئة حسنة .

قال الجمل : { لاَ } في قوله : { لاَ تُضَآرَّ } يحتمل أن تكون نافية فيكون الفعل مرفوعاً ، ويحتمل أن تكون ناهية فيكون الفعل مجزوماً ، وقد قرئبهما في السبع ، وعلى كل يحتمل أن يكون الفعل مبنياً للفاعل وللمفعول " .

والمعنى على الاحتمالين واحد وهو أنه لا يجوز أن يضر كل واحد منهما صاحبه أو يُضر من صاحبه بسبب حنوه على ولده واهتمامه بشأنه .

وأضاف الولد إلى كل منهما في الموضعين للاستعطاف ، وللتنبيه على أن هذا الولد الذي رزقهما الله إياه جدير بأن يتفقا على رعايته وحمايته من كل ما يؤذيه ، ولا يجوز مطلقاً أن يكون مصدر قلق لأي واحد منهما .

وقدمت الأم في الجملة الكريمة ، لأن الشأن فيها أن يكون حنوها أشد ، وعاطفتها أرق ، ولأن مظنة إنزال العنف والأذى بها أقرب لضفعها عن الأب .

فالجملة الكريمة توجبه سديد ، وإرشاد حكيم ، للآباء والأمهات إلى أن يقوم كل فريق منهم بواجبه نحو صاحبه ونحو الأولاد الذين هم ثمار لهم .

وقوله : { وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك } معطوف على قوله { وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ } الخ .

وما بينهما تعليل أو تفسير معترض .

أي : وعلى وارث الأب أو وارث الصبي - أي من سيرثه بعد موته - عليه مثل ما على الأب من النفقة وترك الإِضرار . فهذه الحملة الكريمة سيقت لبيان من تجب عليه نفقة الصبي إذا فقد أباه ، أو كان أبوه موجوداً ولكنه عاجز عن الإِنفاق عليه .

قال الآلوسي ما ملخصه : والمراد بالوارث وارث الولد فإنه يجب عليه مثل ما وجب على الأب من الرزق والكسوة بالمعروف إن لم يكن للولد مال . وهو التفسير المأثور عن عمر وابن عباس وقتادة . . وخلق كثير . وخص الإِمام أبو حنيفة هذا الوارث بمن كان ذا رحم محرم من الصبي . . . وقال الشافعي وقال الشافعي المراد وارث الأب - يجب عليه عند موت الأب كل ما كان واجباً على الأب - وقيل المراد بالوارث الباقي من الأبوين ، وقد جاء الوارث بمعنى الباقي كما في قوله صلى الله عليه وسلم " اللهم متعني بسمعي وبصري واجعلهما الوارث مني " وعلى أية حال فالجملة الكريمة تغرس معاني الإِخاء والتراحم والتكافل بين أبناء الأسرة الواحدة ، فالقادر ينفق على العاجز ، والغين يمد الفقير بحاجته ، وبذلك تسعد الأسرة ، وتسودها روح المحبة والمودة .

وقوله : { فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } معطوف على قوله { يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } لأنه متفرع عنه .

والضمير في قوله { فَإِنْ أَرَادَا } يعود على الوالدين .

قال القرطبي : والفصال والفصل . الفطام وأصله التفريق ، فهو تفريق بين الصبي والثدي .

ومنه سمي الفصيل - لولد الضأن - لأنه مفصول عن أمه . والتشاور : استخراج الرأي - بما فيه المصلحة - وكذلك المشاورة . من الشور وهو اجتناء العسل . يقال شرت العسل - إذا استخرجته من مواضعه - والشوار : متاع البيت لأنه يظهر للناظر . والشارة هيئة الرجل . والإِشارة : إخراج ما في نفسك وإظهاره .

والمعنى : فإن أراد الأبوان فطاماً لولدهما قبل الحولين ، وكان هذه الإرادة عن تراض منهما وتشاور في شأن الصبي وتفحص لأحواله ، ورأيا أن هذا الفطام قبل بلوغه الحولين لن يضره فلا إثم عليهما في ذلك .

وقال بعضهم : وأيضاً لا إثم عليهما إذا فطماه بعد الحولين متى رأيا المصلحة في ذلك ، وقد قيد - سبحانه - هذا الفطام للصبي بكونه عن تراض من الأبوين وتشاور منهما ، رعاية لمصلحة هذا الصبي ، لأن رضا أحدهما فقد قد يضره ، بأن تمل الأم الإِرضاع أو يبخل الأب بالإِنفاق . ولأن إقدام أحدهما على الفطام بدون التشاور مع صاحبه قد يؤثر في صحة الصبي تأثيرا سيئاً .

لذا أوجب - سبحانه - التراضي والتشاور فيما بينهما من أجل مصلحة صبيهما .

ثم قال - تعالى - : { وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تسترضعوا أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بالمعروف } .

أي : وإن أردتم - أيها الآباء - أن تسترضعوا مراضع لأولادكم ، ورضى الأمهات بذلك ، فلا إثم عليكم فيما تفعلون ما دمتم تقصدون مصلحة أولادكم ، وعليكم أن تسلموا هؤلاء المراضع أجرهن بالطريقة التي يقرها الشرع ، وتستحسنها العقول السليمة ، والأخلاق القويمة .

واسترضع - كما يقول الزمخشري - منقول من أرضع . يقال : أرضعت المرأة الصبي ، واسترضعتها الصبي فهي متعدية إلى معفولين ، والمعنى : أن تسترضعوا المراضع أولادكم . فحذف أحد المفعولين للاستغناء عنه .

وقوله { مَّآ آتَيْتُم } حذف مفعولاه أي آتيتموهن إياه . { بالمعروف } متعلق بسلمتم أي بالقول الجميل ، وبالوجه المتعارف المستحسن شرعاً . ويجوز أن يتعلق بآتيتم . وأن يكون حالا من فاعل سلمتم أو آتيتم والعامل فيه محذوف أي متلبسين بالمعروف .

ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { واتقوا الله واعلموا أَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } .

أي : اتقوا الله في كل شئونكم والتزموا ما بينه لكم من أحكام ، واعلموا أن الله - تعالى - لا تخفى عليه أعمالكم ، فهو محصيها عليكم ، وسيجزي المحسن إحساناً والمسيء سوءاً .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{۞وَٱلۡوَٰلِدَٰتُ يُرۡضِعۡنَ أَوۡلَٰدَهُنَّ حَوۡلَيۡنِ كَامِلَيۡنِۖ لِمَنۡ أَرَادَ أَن يُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَۚ وَعَلَى ٱلۡمَوۡلُودِ لَهُۥ رِزۡقُهُنَّ وَكِسۡوَتُهُنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ لَا تُكَلَّفُ نَفۡسٌ إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَا تُضَآرَّ وَٰلِدَةُۢ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوۡلُودٞ لَّهُۥ بِوَلَدِهِۦۚ وَعَلَى ٱلۡوَارِثِ مِثۡلُ ذَٰلِكَۗ فَإِنۡ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٖ مِّنۡهُمَا وَتَشَاوُرٖ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَاۗ وَإِنۡ أَرَدتُّمۡ أَن تَسۡتَرۡضِعُوٓاْ أَوۡلَٰدَكُمۡ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ إِذَا سَلَّمۡتُم مَّآ ءَاتَيۡتُم بِٱلۡمَعۡرُوفِۗ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ} (233)

هذا إرشاد من الله تعالى{[3991]} للوالدات : أن يرضعن أولادهن كمال الرضاعة ، وهي سنتان ، فلا اعتبار بالرضاعة بعد ذلك ؛ ولهذا {[3992]} قال : { لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } وذهب أكثر الأئمة إلى أنه لا يحرم من الرضاعة إلا ما كان دون الحولين ، فلو ارتضع المولود وعمره فوقهما لم يحرم .

قال{[3993]} الترمذي : " باب ما جاء أن الرضاعة لا تحرم إلا في الصغر{[3994]} دون الحولين " : حدثنا قتيبة ، حدثنا أبو عوانة ، عن هشام بن عروة ، عن فاطمة بنت المنذر ، عن أم سلمة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي ، وكان قبل الفطام " . وقال : هذا حديث حسن صحيح ، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم : أن الرضاعة لا تحرم إلا ما كان دون الحولين ، وما كان بعد الحولين الكاملين فإنه لا يحرم شيئًا . وفاطمة بنت المنذر بن الزبير بن العوام ، وهي امرأة هشام بن عروة{[3995]} .

قلت : تفرد الترمذي برواية هذا الحديث ، ورجاله على شرط الصحيحين ، ومعنى قوله : إلا ما كان في الثدي ، أي : في محل{[3996]} الرضاعة قبل الحولين ، كما جاء في الحديث ، الذي رواه أحمد ، عن وَكِيع وغندر ، عن شعبة ، عن عدي بن ثابت ، عن البراء بن عازب قال : لما مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن له مرضعًا{[3997]} في الجنة " . وهكذا أخرجه البخاري من حديث شعبة{[3998]} وإنما قال ، عليه السلام ، ذلك ؛ لأن ابنه إبراهيم ، عليه السلام ، مات وله سنة وعشرة أشهر ، فقال : " إن له مرضعًا في الجنة " يعني : تكمل رضاعه ، ويؤيده ما رواه الدارقطني ، من طريق الهيثم بن جميل ، عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يحرم من الرضاع إلا ما كان في الحولين " ، ثم قال : لم يسنده عن ابن عيينة غير الهيثم بن جميل ، وهو ثقة حافظ{[3999]} .

قلت : وقد رواه الإمام مالك في الموطأ ، عن ثور بن زيد ، عن ابن عباس موقوفًا{[4000]} {[4001]} . ورواه الدراوردي عن ثور ، عن عكرمة ، عن ابن عباس وزاد : " وما كان بعد الحولين فليس بشيء " ، وهذا أصح .

وقال أبو داود الطيالسي ، عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا رضاع بعد فصال ، ولا يُتْم بعد احتلام " ، وتمام الدلالة من هذا الحديث في قوله : { وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } [ لقمان : 14 ] . وقال : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا } [ الأحقاف : 15 ] . والقول بأن الرضاعة لا تحرم بعد الحولين مروي عن

علي ، وابن عباس ، وابن مسعود ، وجابر ، وأبي هريرة ، وابن عمر ، وأم سلمة ، وسعيد بن المسيب ، وعطاء ، والجمهور . وهو مذهب الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، والثوري ، وأبي يوسف ، ومحمد ، ومالك في رواية ، وعنه : أن مدته سنتان وشهران ، وفي رواية : وثلاثة أشهر . وقال أبو حنيفة : سنتان وستة أشهر ، وقال زفر بن الهذيل : ما دام يرضع فإلى ثلاث سنين ، وهذا رواية عن الأوزاعي . قال مالك : ولو فطم الصبي دون الحولين فأرضعته امرأة بعد فصاله لم يحرم ؛ لأنه قد صار بمنزلة الطعام ، وهو رواية عن الأوزاعي ، وقد روي عن عمر وعلي أنهما قالا لا رضاع بعد فصال ، فيحتمل أنهما أرادا الحولين كقول الجمهور ، سواء فطم أو لم يفطم ، ويحتمل أنهما أرادا الفعل ، كقول مالك ، والله أعلم .

وقد روي في الصحيح{[4002]} عن عائشة ، رضي الله عنها : أنها كانت ترى رضاع الكبير يؤثر في التحريم ، وهو قول عطاء بن أبي رباح ، والليث بن سعد ، وكانت عائشة تأمر بمن تختار أن يدخل عليها من الرجال لبعض نسائها فترضعه ، وتحتج في ذلك بحديث سالم مولى أبي حذيفة حيث أمر النبي صلى الله عليه وسلم امرأة أبي حذيفة أن ترضعه ، وكان كبيرًا ، فكان يدخل عليها بتلك الرضاعة ، وأبى ذلك سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، ورأين{[4003]} ذلك من الخصائص ، وهو قول الجمهور . وحجة الجمهور - منهم الأئمة الأربعة ، والفقهاء السبعة ، والأكابر من الصحابة ، وسائر أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى عائشة - ما ثبت في الصحيحين ، عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " انظرْنَ من إخوانكن ، فإنما الرضاعة من المجاعة " {[4004]} . وسيأتي الكلام على مسائل الرضاع ، وفيما يتعلق برضاع الكبير ، عند قوله تعالى : { وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ } [ النساء : 23 ]

وقوله : { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } أي : وعلى والد الطفل نفقة الوالدات وكسوتهن بالمعروف ، أي : بما جرت به عادة أمثالهن في بلدهنّ من غير إسراف ولا إقتار ، بحسب قدرته في يساره وتوسطه وإقتاره ، كما قال تعالى : { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا } [ الطلاق : 7 ] . قال الضحاك : إذا طلَّقَ [ الرجل ]{[4005]} زوجته وله منها ولد ، فأرضعت له ولده ، وجب على الوالد نفقتها وكسوتها بالمعروف .

وقوله : { لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا } أي : لا تدفعه{[4006]} عنها لتضر أباه بتربيته ، ولكن ليس لها دفعُه إذا ولدته حتى تسقيه اللّبأ{[4007]} الذي لا يعيش بدون تناوله غالبًا ، ثم بعد هذا لها رفعه عنها إذا شاءت ، ولكن إن كانت مضارة لأبيه فلا يحل لها ذلك ، كما لا يحل له انتزاعه منها لمجرد الضّرار لها . ولهذا قال : { وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ } أي : بأن يريد أن ينتزع الولد منها إضرارًا بها ، قاله مجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، والزهري ، والسدي ، والثوري ، وابن زيد ، وغيرهم .

وقوله : { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ } قيل : في عدم الضرار لقريبه {[4008]} قاله مجاهد ، والشعبي ، والضحاك . وقيل : عليه مثل ما على والد الطفل من الإنفاق على والدة الطفل ، والقيام بحقوقها وعدم الإضرار بها ، وهو قول الجمهور . وقد استقصى ذلك ابن جرير في تفسيره . وقد استدل بذلك من ذهب من الحنفية والحنبلية إلى وجوب نفقة الأقارب بعضهم على بعض ، وهو مروي عن عمر بن الخطاب ، وجمهور السلف ، ويرشح ذلك بحديث الحسن ، عن سَمرة مرفوعًا : من ملك ذا رحم محرم عُتِق عليه{[4009]} .

وقد ذُكر أن الرضاعة بعد الحولين ربما ضرت{[4010]} الولد إما في بدنه أو عقله ، وقد قال سفيان الثوري ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة : أنه رأى امرأة تُرضع بعد الحولين . فقال : لا ترضعيه .

وقوله : { فَإِنْ أَرَادَا فِصَالا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } أي : فإن اتفقا والدا الطفل على فطامه قبل الحولين ، ورأيا في ذلك مصلحة له ، وتشاورا في ذلك ، وأجمعا{[4011]} عليه ، فلا جناح عليهما في ذلك ، فيؤْخَذُ منه : أن انفراد أحدهما بذلك دون الآخر لا يكفي ، ولا يجوز لواحد منهما أن يستبد بذلك من غير مشاورة الآخر ، قاله الثوري وغيره ، وهذا فيه احتياط للطفل ، وإلزام للنظر في أمره ، وهو من رحمة الله{[4012]} بعباده ، حيث حجر على الوالدين في تربية طفلهما وأرشدهما إلى ما يصلحه ويصلحهما كما قال في سورة الطلاق : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى } [ الطلاق : 6 ] .

وقوله : { وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ } أي : إذا اتفقت الوالدة والوالد على أن يتسلم منها الولد{[4013]} إما لعذر منها ، أو عذر له ، فلا جناح عليهما في بذله ، ولا عليه في قبوله منها إذا سلمها أجرتها الماضية بالتي هي أحسن ، واسترضع لولده غيرها بالأجرة بالمعروف . قاله غير واحد .

وقوله : { وَاتَّقُوا اللَّهَ } أي : في جميع أحوالكم { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي : فلا يخفى عليه شيء من أحوالكم وأقوالكم .


[3991]:في جـ: "من الله تبارك وتعالى".
[3992]:في جـ: "فلهذا".
[3993]:في جـ: "وقال".
[3994]:في أ: "في الصغير".
[3995]:سنن الترمذي برقم (1152).
[3996]:في جـ، أ: "في حال".
[3997]:في أ، و: "إن ابني مات وإن له مرضعا".
[3998]:المسند (4/300) وصحيح البخاري برقم (1382).
[3999]:سنن الدارقطني (4/174).
[4000]:في هـ: "مرفوعا" والصواب ما أثبتناه من جـ، أ، و، وهو ما نبه عليه الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله.
[4001]:الموطأ (2/602).
[4002]:في أ: "في الصحيحين".
[4003]:في جـ: "ويروى".
[4004]:صحيح البخاري برقم (2647) وصحيح مسلم برقم (1455).
[4005]:زيادة من جـ.
[4006]:في أ، و: "بأن تدفعه".
[4007]:في جـ: "اللبأة".
[4008]:في أ: "بقرينه"، وفي و: "بقريبه".
[4009]:رواه أبو داود في السنن برقم (3949) والترمذي في السنن برقم (1365) من طريق عاصم الأحول عن الحسن به، وقال الترمذي: "هذا حديث لا نعرفه مسندا إلا من حديث حماد بن سلمة، وقد روى بعضهم هذا الحديث عن قتادة عن الحسن، عن عمر شيئا من هذا"، ولفظه عندهما: "من ملك ذا رحم محرم فهو حر".
[4010]:في أ: "جزت".
[4011]:في جـ، أ: "واجتمعا".
[4012]:في جـ: "من رحمه الله تعالى".
[4013]:في أ، و: "الولد ويسترضع له غيرها".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞وَٱلۡوَٰلِدَٰتُ يُرۡضِعۡنَ أَوۡلَٰدَهُنَّ حَوۡلَيۡنِ كَامِلَيۡنِۖ لِمَنۡ أَرَادَ أَن يُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَۚ وَعَلَى ٱلۡمَوۡلُودِ لَهُۥ رِزۡقُهُنَّ وَكِسۡوَتُهُنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ لَا تُكَلَّفُ نَفۡسٌ إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَا تُضَآرَّ وَٰلِدَةُۢ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوۡلُودٞ لَّهُۥ بِوَلَدِهِۦۚ وَعَلَى ٱلۡوَارِثِ مِثۡلُ ذَٰلِكَۗ فَإِنۡ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٖ مِّنۡهُمَا وَتَشَاوُرٖ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَاۗ وَإِنۡ أَرَدتُّمۡ أَن تَسۡتَرۡضِعُوٓاْ أَوۡلَٰدَكُمۡ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ إِذَا سَلَّمۡتُم مَّآ ءَاتَيۡتُم بِٱلۡمَعۡرُوفِۗ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ} (233)

وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( 233 )

قوله عز وجل : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ }

{ يرضعن أولادهن } خبر ، معناه : الأمر على الوجوب لبعض الوالدات ، والأمر على جهة الندب والتخيير لبعضهن ، فأما( {[2204]} ) المرأة التي في العصمة فعليها الإرضاع ، وهو عرف يلزم إذ قد صار كالشرط إلا أن تكون شريفة ذات ترفه فعرفها أن لا ترضع وذلك كالشرط ، فإن مات الأب ولا مال للصبي فمذهب مالك في المدونة أن الرضاع لازم للأم ، بخلاف النفقة ، وفي كتاب ابن الجلاب : رضاعه في بيت المال ، وقال عبد الوهاب : هو من فقراء المسلمين ، وأما المطلقة طلاق بينونة فلا رضاع عليها ، والرضاع على الزوج إلا أن تشاء هي ، فهي أحق به بأجرة المثل . هذا مع يسر الزوج ، فإن كان معدماً لم يلزمها الرضاع إلا أن يكون المولود لا يقبل غيرها فتجبر حينئذ على الإرضاع ، ولها أجر مثلها في يسر الزوج ، وكل ما يلزمها الإرضاع فإن أصابها عذر يمنعها منه عاد الإرضاع على الأب ، وروي عن مالك أن الأب إذا كان معدماً ولا مال للصبي فإن الرضاع على الأم ، فإن كان بها عذر ولها مال فالإرضاع عليها في مالها . وهذه الآية هي في المطلقات( {[2205]} ) ، قاله السدي والضحاك وغيرهما ، جعلها الله حداً عند اختلاف الزوجين في مدة الرضاع فمن دعا منهما إلى إكمال الحولين فذلك له ، وقال جمهور المفسرين : إن هذين الحولين لكل واحد( {[2206]} ) ، وروي عن ابن عباس أنه قال : «هي في الولد الذي يمكث في البطن ستة أشهر ، فإن مكث سبعة أشهر فرضاعه ثلاثة وعشرون شهراً ، فإن مكث ثمانية أشهر فرضاعه اثنان وعشرون شهراً ، فإن مكث تسعة أشهر فرضاعه أحد وعشرون شهراً » .

قال القاضي أبو محمد : كأن هذا القول انبنى على قوله تعالى : { وحمله وفصاله ثلاثون شهراً }( {[2207]} ) [ الأحقاف : 15 ] ، لأن ذلك حكم على الإنسان عموماً ، وسمي العام حولاً لاستحالة الأمور فيه في الأغلب ، ووصفهما { بكاملين } إذ مما قد اعتيد تجوزاً أن يقال في حول وبعض آخر حولين ، وفي يوم وبعض آخر مشيت يومين وصبرت عليك في ديني يومين وشهرين( {[2208]} ) . وقوله تعالى : { لمن أراد أن يتم الرضاعة } مبني على أن الحولين ليسا بفرض لا يتجاوز ، وقرأ السبعة «أن يُتم الرضاعةَ » بضم الياء ونصب الرضاعة ، وقرأ مجاهد وابن محيصن وحميد والحسن وأبو رجاء «تَتم الرضاعةُ » بفتح التاء الأولى ورفع الرضاعة على إسناد الفعل إليها ، وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة والجارود بن أبي سبرة كذلك ، إلا أنهم كسروا الراء من الرضاعة ، وهي لغة كالحَضارة والحِضارة ، وغير ذلك . وروي عن مجاهد أنه قرأ «الرضعة » على وزن الفعلة ، وروي عن ابن عباس أنه قرأ «أن يكمل الرضاعة » بالياء المضمومة ، وانتزع مالك رحمه الله وجماعة من العلماء من هذه الآية أن الرضاعة المحرمة الجارية مجرى النسب إنما هي ما كان في الحولين( {[2209]} ) ، لأن بانقضاء الحولين تمت الرضاعة فلا رضاعة ، وروي عن قتادة أنه قال : «هذه الآية تضمنت فرض الإرضاع على الوالدات ، ثم يسر ذلك وخفف بالتخيير الذي في قوله : { لمن أراد } .

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول مبتدع( {[2210]} ) .

قوله عز وجل :

{ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدَهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ }

{ المولود له } اسم جنس وصنف من الرجال ، والرزق في هذا الحكم الطعام الكافي ، وقوله { بالمعروف } يجمع حسن القدر في الطعام وجودة الأداء له وحسن الاقتضاء من المرأة ، ثم بين تعالى أن الإنفاق على قدر غنى الزوج ومنصبها بقوله : { لا تكلف نفس إلا وسعها } ، وقرأ جمهور الناس : «تُكلف » بضم التاء «نفسٌ » على ما لم يُسمَّ فاعله ، وقرأ أبو رجاء «تَكَلَّفُ » بفتح التاء بمعنى تتكلف «نفسٌ » فاعله ، وروى عنه أبو الأشهب «لا نُكَلِّف » بالنون «نفساً » بالنصب ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير وأبان عن عاصم «لا تضارُ والدة » بالرفع في الراء ، وهو خبر معناه الأمر( {[2211]} ) ، ويحتمل أن يكون الأصل «تضارِر » بكسر الراء الأولى فوالدة فاعل ، ويحتمل أن يكون «تضارَر » بفتح الراء الأولى فوالدة مفعول لم يسم فاعله ، ويعطف مولد له على هذا الحد في الاحتمالين( {[2212]} ) ، وقرأ نافع وحمزة والكسائي وعاصم { لا تضارَّ } بفتح الراء المشددة ، وهذا على النهي ، ويحتملَ أصله ما ذكرنا في الأولى ، ومعنى الآية في كل قراءة : النهي عن أن تضار الوالدة زوجها المطلق بسبب ولدها ، وأن يضارها هو بسبب الولد ، أو يضار الظئر( {[2213]} ) ، لأن لفظة نهيه تعم الظئر ، وقد قال عكرمة في قوله : { لا تضار والدة } : معناه الظئر ، ووجوده الضرر لا تنحصر ، وكل ما ذكر منها في التفاسير فهو مثال( {[2214]} ) . وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قرأ «لا تضارَرُ » براءين الأولى مفتوحة . وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «لا تضارْ » بإسكان الراء وتخفيفها ، وروي عنه الإسكان والتشديد ، وروي عن ابن عباس «لا تضارِر » بكسر الراء الأولى .

واختلف العلماء في معنى قوله تعالى : { وعلى الوارث مثل ذلك }( {[2215]} ) . فقال قتادة والسدي والحسن وعمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيرهم : هو وارث الصبي إن لو مات( {[2216]} ) ، قال بعضهم : وارثه من الرجال خاصة يلزمه الإرضاع كما كان يلزم أبا الصبي لو كان حياً ، وقاله مجاهد وعطاء ، وقال قتادة أيضاً وغيره : هو وارث الصبي من كان من الرجال والنساء ، ويلزمهم إرضاعه قدر مواريثهم منه .

وحكى الطبري عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن أنهم قالوا : الوارث الذي يلزمه إرضاع المولود هو وليه ووارثه إذا كان ذا رحم محرم منه ، فإن كان ابن عم وغيره وليس بذي رحم محرم فلا يلزمه شيء .

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا القول تحكم( {[2217]} ) ، وقال قبيصة بن ذؤيب والضحاك وبشير بن نصر قاضي عمر بن عبد العزيز : الوارث وهو الصبي نفسه ، أي عليه في ماله إذا ورث أباه إرضاع نفسه ، وقال سفيان رحمه الله : «الوارث هو الباقي من والدي المولود بعد وفاة الآخر منهما » ، ويرى مع ذلك إن كانت الوالدة هي الباقية أن يشاركها العاصب في إرضاع المولود على قدر حظه من الميراث . ونص هؤلاء الذين ذكرت أقوالهم على أن المراد بقوله تعالى : { مثل ذلك } الرزق والكسوة ، وذكر ذلك أيضاً من العلماء إبراهيم النخعي وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود والشعبي والحسن وابن عباس وغيرهم وقال مالك رحمه الله في المدونة وجميع أصحابه والشعبي أيضاً والزهري والضحاك وجماعة من العلماء : المراد بقوله { مثل ذلك } أن لا يضار ، وأما الرزق والكسوة فلا شيء عليه منه ، وروى ابن القاسم عن مالك أن الآية تضمنت أن الرزق والكسوة على الوارث ثم نسخ ذلك( {[2218]} ) .

قال القاضي أبو محمد : فالإجماع من الأمة في أن لا يضار الوارث ، والخلاف هل عليه رزق وكسوة أم لا ؟ ، وقرأ يحيى بن يعمر «وعلى الورثة مثل ذلك » بالجمع .

قوله عز وجل :

{ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ ءَاتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }

الضمير في { أرادا } للوالدين ، و { فصالاً } معناه «فطاماً » عن الرضاع ، ولا يقع التشاور ولا يجوز التراضي إلا بما لا ضرر فيه على المولد ، فإذا ظهر من حاله الاستغناء عن اللبن قبل تمام الحولين فلا جناح على الأبوين في فصله ، هذا معنى الآية ، وقاله مجاهد وقتادة وابن زيد سفيان وغيرهم ، وقال ابن عباس : «لا جناح مع التراضي في فصله قبل الحولين وبعدهما » .

قال القاضي أبو محمد : وتحرير القول في هذا أن فصله قبل الحولين لا يصح إلا بتراضيهما وأن لا يكون على المولود ضرر ، وأما بعد تمامهما فمن دعا إلى الفصل فذلك له إلا أن يكون في ذلك على الصبي ضرر ، وقوله تعالى : { وإن أردتم أن تسترضعوا } مخاطبة لجميع الناس تجمع الآباء والأمهات ، أي لهم اتخاذ الظئر مع الاتفاق على ذلك ، وأما قوله تعالى : { إذا سلمتم } فمخاطبة للرجال خاصة ، إلا على أحد التأويلين في قراءة من قرأ «أتيتم »( {[2219]} ) ، وقرأ الستة من السبعة «آتيتم » بالمد ، المعنى أعطيتم ، وقرأ ابن كثير «أتيتم » بمعنى ما جئتم وفعلتم كما قال زهير : [ الطويل ] .

وما كان من خير أتوه فإنما . . . توارثه آباء آبائهم قبلُ

قال أبو علي : «المعنى إذا سلمتم ما أتيتم نقده أو إعطاءه أو سوقه( {[2220]} ) ، فحذف المضاف وأقيم الضمير مقامه فكان التقدير ما أتيتموه ، ثم حذف الضمير من الصلة » .

قال القاضي أبو محمد : ويحتمل اللفظ معنى آخر قاله قتادة ، وهو إذا سلمتم ما أتيتم من إرادة الاسترضاع ، أي سلم كل واحد من الأبوين ورضي وكان ذلك عن اتفاق منهما وقصد خير وإرادة معروف من الأمر . وعلى هذا الاحتمال . فيدخل في الخطاب ب { سلمتم } الرجال والنساء ، وعلى التأويل الذي ذكره أبو علي وغيره : فالخطاب للرجال ، لأنهم الذين يعطون أجر الرضاع ، قال أبو علي : ويحتمل أن تكون { ما } مصدرية ، أي إذا سلمتم الإتيان ، والمعنى كالأول ، لكن يستغنى عن الصنعة من حذف المضاف ، ثم حذف الضمير ، قال مجاهد : «المعنى إذا سلمتم إلى الأمهات أجرهن بحساب ما أرضعن إلى وقت إرادة الاسترضاع »( {[2221]} ) ، وقال سفيان : «المعنى إذا سلمتم إلى المستعرضة وهي الظئر أجرها بالمعروف » . وباقي الآية أمر بالتقوى وتوقيف على أن الله تعالى بصير بكل عمل ، وفي هذا وعيد وتحذير ، أي فهو مجاز بحسب عملكم .


[2204]:- هذا تفصير للحكم الذي تضمنه قوله تعالى: [والوالدات يرضعن أولادهن]
[2205]:- أي لأن الغالب وقوع الخلاف بين المطلق والمطلقة في مدة الرضاع التي يلزم فيها أداء الأجرة.
[2206]:- يفسره ما بعده مما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وسيأتي عند ابن عطية رحمه الله تقوية ما قاله جمهور المفسرين بعد ذكره ما انبنى عليه القول بالفتصيل، حيث قال: «إلا أن ذلك حكم على الإنسان عموماً»، أي سواء ولد لستة أشهر أو لسبعة أو لثمانية أو لتسعة، فالوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين. نعم يؤخذ من مجموع قوله تعالى: [والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين] وقوله: [وحمله وفصاله ثلاثون شهرا] أنّ أقل الحمل ستة أشهر. وهو أخذ قوي وسوي، والله أعلم.
[2207]:- وعلى هذا القول تتداخل مدة الحمل ومدة الرضاع، أي يأخذ أحدهما من الآخر. وهي من الآية (15) من سورة (الأحقاف).
[2208]:- أي رفعا للمجاز، وبياناً أن هذا التحديد تحقيقي لا تقريبي، فإن عادة العرب جارية بإطلاق الحولين واليومين والشهرين على المعظم والأكثر، فإذا أُريد التحقيق وصف بصفة ترفع المجاز وتقرر الواقع، ومن هذا الاستعمال قوله تعالى: (فمن تعجّل في يومين) وإنما هو يوم وبعض يوم.
[2209]:- وكذا ما بعد الحولين إن قرُب واستمر الرضاع، أما ما بعد الحولين إن بعد فلا، إذ القريب من الشيء له حكمه، والبعيد منه له حكم آخر.
[2210]:- هو كذلك، وفي بعض النسخ: وهذا قول متداع.
[2211]:- أي بشرط المُضارّة، ومجيء الأمر على لفظ الخبر كثير، وقد قال الإمام ابن العربي في مثل هذا الموضوع: «النفي يعود على وجوده مشروعاً لا إلى وجوده محسوساً، فإن المُضارّة قد تقع من بعض الناس، وخبر الله لا يجوز أن يتخلف، فالنفي راجع إلى الحكم الشرعي لا إلى الوجود الحسي كما في قوله تعالى: [لا يمسّه إلا المطهّرون] إذا ذهبنا إلى أنه وارد في الآدميين وهو الصحيح، لأن المعنى: لا يمسه أحد منهم شرعا، فإن وجد المس فعلى خلاف حكم الشرع». وهذه قاعدة أبداها ابن العربي في قولهم: الخبر بمعنى الأمر، أو بمعنى النهي فاحفظها وحافظ عليها.
[2212]:- هذا الاحتمال والذي قبله يجريان في قراءة الرفع وقراءة الفتح كما أشار إلى ذلك رحمه الله.
[2213]:- إذ المراد بالوالدة المرضعة كانت أما أو ظِئْراً. والظئْر: المرضعة لغير ولدها.
[2214]:- وكلها مدفوعة بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار)، وهو وإن رواه الإمام مالك رحمه الله في الموطأ مرسلا فقد قال الإمام النووي: رويناه في سنن الدارقطني وغيره من طرق متصلة. فهو حديث حسن.
[2215]:- الاختلاف – في تفسير الوارث – هو ما سبق من ذكر الوالدة والمولود له والولد فاحتمل أن يضاف الوارث إلى كل منهم. والظاهر في الوارث أنه وارث المولود له لعطفه عليه، ولأن المولود له وهو الأب هو المحدث عنه في جملة المعطوف عليه، والمعنى أنه إذا مات المولود له وجب على وارثه ما كان يجب عليه.
[2216]:- يشير إلى أنه وإن لم يكن وارثا الآن فهو وارث باعتبار المآل، فإطلاق الوارث على وارث الصبي الحي مجاز. وفي هذا ما يدل على وجوب نفقة الأقارب بعضهم على بعض، وهو مروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعن جمهور السلف. وبه أخذ بعض أئمة المذاهب.
[2217]:- إنما كان تحكما لمخالفته لنص القرآن، فالوارث – في الآية الكريمة- مطلق، والوارث عند أبي حنيفة ومن معه – مُقيّد – وهو حكم من دون بيان وجه ولا سبب.
[2218]:- قال (ق): قال النحاس: «هذا لفظ مالك، ولم يبين ما الناسخ لها، ولا عبد الرحمن ابن القاسم، ولا علمنا أن أحدا من أصحابهم بيّن ذلك. والذي يشبه أن يكون الناسخ لها عنده والله أعلم أنه لما أوجب الله تعالى للمتوفي عنها زوجها من مال المتوفي نفقة حَوْلٍ والسكنى ثم نسخ ذلك ورفعه – نسخ ذلك أيضا عن الوارث، وقال ابن عطية: ثم نسخ ذلك بالإجماع من الأمة في ألا يضار الوارث». انتهى، وقد جعل الإمام ابن العربي رحمه الله النسخ بمعنى التخصيص، وذلك بحكم أن العطف يرجع إلى أقرب مذكور، وعليه فتكون الآية مخصوصة بحكم الإضرار. والرجوع إلى الأقرب شيء مجمع عليه، والخلاف فيما قبله من الرزق والكسوة، وكلام ابن عطية يحوم حول هذا المعنى، وما بحثه أبو (ح) رحمه الله لا يظهر. تأمل والله أعلم.
[2219]:- قراءة (آتيتم) بالمدِّ على تأويل أبي علي الفارسي يكون الخطاب في قوله تعالى: [إذا سلّمتم] للرجال خاصة، وعلى تأويل قتادة الخطاب للرجال والنساء. وقراءة القصر إذا كانت (ما) بمعنى الذي فهي قراءة المد في التقدير والحذف، وإذا كانت مصدرية فلا تحتاج إلى التقدير والحذف.
[2220]:- قوله: أتيتم نقده أي إذا كان الأجر نقداً، وقوله: أو إعطاءه أي إذا كان عوضا، وقوله: أو سَوْقه أي إذا كان حيوانا، والمعنى: إذا سلمتم ما أردتم إيتاءه أو إتيانه نقداً أو عوضا أو حيوانا على حد قوله تعالى: [وإذا قمتم إلى الصلاة] أي إذا أردتم القيام لها.
[2221]:- أي معنى الآية الشريفة إذا سلمتم إلى الأمهات أو إلى المسترضعات الأجر كما قال سفيان.