التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَدَلَّىٰهُمَا بِغُرُورٖۚ فَلَمَّا ذَاقَا ٱلشَّجَرَةَ بَدَتۡ لَهُمَا سَوۡءَٰتُهُمَا وَطَفِقَا يَخۡصِفَانِ عَلَيۡهِمَا مِن وَرَقِ ٱلۡجَنَّةِۖ وَنَادَىٰهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمۡ أَنۡهَكُمَا عَن تِلۡكُمَا ٱلشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ ٱلشَّيۡطَٰنَ لَكُمَا عَدُوّٞ مُّبِينٞ} (22)

ثم حكى القرآن كيف نجح إبليس في خداع آدم وحواء فقال : { فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ } . أى : فأنزلهما عن رتبة الطاعة إلى رتبة المعصية ، وأطمعهما في غير مطمع بسبب ما غرهما به من القسم .

ودلاهما مأخوذ من التدلي ، وأصله أن الرجل العطشان يدلى في البئر بدلون ليشرب من مائها ، فإذا ما أخرج الدلو لم يجد به ماء ، فيكون مدليا فيها بغرور . والغرور إظهار النصح مع إضمار الغش ، وأصله من غررت فلانا أى أصبت غرته وغفلته ونلت منه ما أريد .

ثم بين القرآن الآثار التي ترتبت على هذه الخديعة من إبليس لهما فقال : { فَلَمَّا ذَاقَا الشجرة بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة } .

أى : فلما خالفا أمر الله - تعالى - بأن أكلا من الشجرة التي نهاهما الله عن الأكل منها ، أخذتهما العقوبة وشؤم المعصية ، فتساقط عنهما لباسهما ، وظهرت لهما عوراتهما .

وشرعا يلزقان من ورق الجنة ورقة فوق أخرى على عوراتهما لسترها .

ويخصفان : مأخوذ من الخصف ، وهو خرز طاقات النعل ونحوه بإلصاق بعضها ببعض ، وفعله من باب ضرب .

قال بعض العلماء : " ولعل المعنى - والله أعلم - أنهما لما ذاقا الشجرة وقد نهيا عن الأكل منها ظهر لهما أنهما قد زلا ، وخلعا ثوب الطاعة ، وبدت منهما سوأة المعصية ، فاستحوذ عليهما الخوف والحياء من ربهما ، فأخذا يفعلان ما يفعل الخائف الخجل عادة من الاستتار والاستخافء حتى لا يرى ، وذلك بخصف أوراق الجنة عليهما ليستترا بها ، وما لهما إذ ذاك حيلة سوى ذلك . فلما سمعا النداء الربانى بتقريعهما ولومهما ألهما أن يتوبا إلى الله ويستغفرا من ذنبهما بكلمات من فيض الرحمة الإلهية ، فتاب الله عليهما وهو التواب الرحيم ، وقال لهما فقط أولهما ولذرتيهما ، أو لهما ولإبليس : اهبطوا من الجنة إلى الأرض ، لينفذ ما أراد الله من استخلاف آدم وذريته في الأرض ، وعمارة الدنيا بهم إلى الأجل المسمى . ومنازعة عدوهم لهم فيها ، { إِنَّ الله بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً } ثم بين القرآن ما قاله الله - تعالى - لهما بعد أن خالفا أمره . فقال : { وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَآ } بطريق العتاب والتوبيخ { أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشجرة } . أى عن الأكل منها { وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ الشيطآن لَكُمَا عَدُوٌ مُّبِينٌ } أى : ظاهر العداوة لا يفتر عن إيذائكما وإيقاع الشر بكما .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَدَلَّىٰهُمَا بِغُرُورٖۚ فَلَمَّا ذَاقَا ٱلشَّجَرَةَ بَدَتۡ لَهُمَا سَوۡءَٰتُهُمَا وَطَفِقَا يَخۡصِفَانِ عَلَيۡهِمَا مِن وَرَقِ ٱلۡجَنَّةِۖ وَنَادَىٰهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمۡ أَنۡهَكُمَا عَن تِلۡكُمَا ٱلشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ ٱلشَّيۡطَٰنَ لَكُمَا عَدُوّٞ مُّبِينٞ} (22)

قال سعيد بن أبي عَرُوبَة ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن أبي بن كعب ، رضي الله عنه ، قال : كان آدم رجلا طُوَالا كأنه نخلة سَحُوق ، كثير شعر الرأس . فلما وقع بما وقع به من الخطيئة ، بَدَتْ له عورته عند ذلك ، وكان لا يراها . فانطلق هاربا في الجنة فتعلقت برأسه شجرة من شجر الجنة ، فقال لها : أرسليني . فقالت : إني غير مرسلتك . فناداه ربه ، عز وجل : يا آدم ، أمنّي تفر ؟ قال : رب إني استحييتك . {[11622]}

وقد رواه ابن جرير ، وابن مَرْدُويه من طُرُق ، عن الحسن ، عن أبيّ بن كعب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، والموقوف أصحّ إسنادا . {[11623]}

وقال عبد الرزاق : أنبأنا سفيان بن عيينة وابن المبارك ، عن الحسن بن عمارة ، عن المِنْهَال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كانت الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته ، السنبلة . فلما أكلا منها بدت لهما سوآتهما ، وكان الذي وارى عنهما من سوآتهما أظفارهما ، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وَرقَ التين ، يلزقان بعضه إلى بعض . فانطلق آدم ، عليه السلام ، موليا في الجنة ، فعلقت برأسه شجرة من الجنة ، فناداه : يا آدم ، أمني تفر ؟ قال : لا ولكني استحييتك يا رب . قال : أما كان لك فيما منحتك من الجنة وأبحتك منها مندوحة ، عما حرمت عليك . قال : بلى يا رب ، ولكن وعزتك ما حسبت أن أحدًا يحلف بك كاذبًا . قال : وهو قوله ، عز وجل{[11624]} { وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ } قال : فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض ، ثم لا تنال العيش إلا كَدا . قال : فأهبط من الجنة ، وكانا يأكلان منها رَغَدًا ، فأهبط إلى غير رغد من طعام وشراب ، فعُلّم صنعة الحديد ، وأمر بالحرث ، فحرث وزرع ثم سقى ، حتى إذا بلغ حصد ، ثم داسه ، ثم ذَرّاه ، ثم طحنه ، ثم عجنه ، ثم خبزه ، ثم أكله ، فلم يبلغه حتى بلغ منه ما شاء الله أن يبلغ{[11625]} وقال الثوري ، عن ابن أبي ليلى ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ } قال : ورق التين . صحيح إليه .

وقال مجاهد : جعلا يخصفان عليهما من ورق الجنة كهيئة الثوب .

وقال وَهْب بن مُنَبِّه في قوله : { يَنزعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا } قال : كان لباس آدم وحواء نورا على فروجهما ، لا يرى هذا عورة هذه ، ولا هذه عورة هذا . فلما أكلا من الشجرة بدت لهما سوآتهما . رواه ابن جرير بإسناد صحيح إليه .

وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن قتادة قال : قال آدم : أي رب ، أرأيت إن تبت واستغفرت ؟ قال : إذًا أدخلك الجنة . وأما إبليس فلم يسأله التوبة ، وسأله النظرة ، فأعطي كل واحد منهما الذي سأله .

وقال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا عَبَّاد بن العَوَّام ، عن سفيان بن حسين ، عن يعلى بن مسلم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : لما أكل آدم من الشجرة قيل له : لم أكلت من الشجرة التي نهيتك عنها . قال : حواء . أمرتني . قال : فإني قد أعقبتها أن لا تحمل إلا كَرْها ، ولا تضع إلا كَرْها . قال : فرنَّت عند ذلك حواء . فقيل لها : الرنة عليك وعلى ولدك{[11626]}


[11622]:تفسير الطبري (12/354).
[11623]:تفسير الطبري (12/352) ورواه الحاكم في المستدرك (1/345) من طريق يزيد بن الهاد، عن الحسن، عن أبي بن كعب بنحوه، وقال: "هذا لا يعلل حديث يونس بن عبيد، فإنه أعرف بحديث الحسن من أهل المدينة ومصر، والله أعلم" يقصد الحاكم ما أخرجه في المستدرك (1/344) من طريق يونس بن عبيد، عن الحسن، عن عتي، عن أبي بن كعب بنحوه، فإنه قد علله في آخره بأنه قد روى عن الحسن، عن أبي دون ذكر عتي. ورواه عبد الرزاق في المصنف (3/400)، عن ابن جريج حدثت عن أبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره بنحوه.
[11624]:في د، م: "قول الله"، وفي ك: "قوله تعالى".
[11625]:ورواه الطبري في تفسيره (12/352) من طريق عبد الرزاق به.
[11626]:تفسير الطبري (12/356).
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{فَدَلَّىٰهُمَا بِغُرُورٖۚ فَلَمَّا ذَاقَا ٱلشَّجَرَةَ بَدَتۡ لَهُمَا سَوۡءَٰتُهُمَا وَطَفِقَا يَخۡصِفَانِ عَلَيۡهِمَا مِن وَرَقِ ٱلۡجَنَّةِۖ وَنَادَىٰهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمۡ أَنۡهَكُمَا عَن تِلۡكُمَا ٱلشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ ٱلشَّيۡطَٰنَ لَكُمَا عَدُوّٞ مُّبِينٞ} (22)

{ فدلاّهما } فنزلهما إلى الأكل من الشجرة ، نبه به على انه أهبطهما بذلك من درجة عالية إلى رتبة سافلة ، فإن التدلية والإدلاء إرسال الشيء من أعلى إلى أسفل . { بغرور } بما غرهما به من القسم فإنهما ظنا أن أحداً لا يحلف بالله كاذبا ، أو ملتبسين بغرور . { فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما } أي فلما وجدا طعمهما آخذين في الأكل منها أخذتهما العقوبة وشؤم المعصية ، فتهافت عنهما لباسهما وظهرت لهما عوراتهما . واختلف في أن الشجرة كانت السنبلة أو الكرم أو غيرهما ، وأن اللباس كان نورا أو حلة أو ظفرا . { وطفقا يخصفان } أخذا يرقعان ويلزقان ورقة فوق ورقة . { عليهما من ورق الجنة } قيل كان ورق التين ، وقرئ { يخصفان } من أخصف أي يخصفان أنفسهما ويخصفان من خصف ويخصفان وأصله يختصفان . { وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين } عتاب على مخالفة النهي ، وتوبيخ على الاغترار بقول العدو . وفيه دليل على أن مطلق النهي للتحريم .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَدَلَّىٰهُمَا بِغُرُورٖۚ فَلَمَّا ذَاقَا ٱلشَّجَرَةَ بَدَتۡ لَهُمَا سَوۡءَٰتُهُمَا وَطَفِقَا يَخۡصِفَانِ عَلَيۡهِمَا مِن وَرَقِ ٱلۡجَنَّةِۖ وَنَادَىٰهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمۡ أَنۡهَكُمَا عَن تِلۡكُمَا ٱلشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ ٱلشَّيۡطَٰنَ لَكُمَا عَدُوّٞ مُّبِينٞ} (22)

تفريع على جملة : { فوسوس لهما الشّيطان } [ الأعراف : 20 ] وما عطف عليها .

ومعنى { فدلاّهما } أقدمهما ففَعلا فِعلاً يطمعان به في نفع فخابَا فيه ، وأصل دلَّى ، تمثيل حال من يطلب شيئاً من مظنّته فلا يجده بحال من يُدَلِّي دَلوه أو رجليه في البئر ليسْتقي من مائها فلا يجد فيها ماء فيقال : دَلَّى فلانٌ ، يقال دلّى كما يقال أدلى .

والباء للملابسة أي دلاهما ملابِساً للغُرور أي لاستيلاء الغرور عليه إذ الغرور هو اعتقاد الشيء نافعاً بحسب ظاهر حاله ولا نفع فيه عند تجربته ، وعلى هذا القياس يقال دَلاّه بغرور إذا أوقعه في الطّمع فيما لا نفع فيه ، كما في هذه الآية وقول أبي جُندب الهُذلي ( هو ابن مُرّة ولم أقف على تعريفه فإن كان إسلامياً كان قد أخذ قوله كمن يدلّى بالغرور من القرآن ، وإلاّ كان مثلاً مستعملاً من قبل ) :

أحُصّ فلا أجيرُ ومَنْ أجِرْه *** فليس كمَنْ يدلّى بالغرور

وعلى هذا الاستعمال ففعل دَلّى يستعمل قاصراً ، ويستعمل متعدّياً إذا جعل غيره مدَلِّيَاً ، هذا ما يؤخذ من كلام أهل اللّغة في هذا اللّفظ ، وفيه تفسيرات أخرى لا جدوى في ذكرها .

ودلّ قوله : { فدلهما بغرور } على أنّهما فعلا ما وسوس لهما الشّيطان ، فأكلا من الشّجرة ، فقوله : { فلما ذاقا الشجرة } ترتيب على دَلاَهما بغرور فحذفت الجملة واستُغني عنها بإيراد الاسم الظّاهر في جملة شرط لَمَّا ، والتّقدير : فأكلا منها ، كما ورد مصرّحاً به في سورة البقرة ، فلمّا ذاقاها بدت لهما سوآتهما .

والذّوق إدراك طعم المأكول أو المشروب باللّسان ، وهو يحصل عند ابتداء الأكل أو الشّرب ، ودلت هذه الآية على أن بُدُوّ سوآتهما حصل عند أوّل إدراك طعم الشّجرة ، دلالة على سرعة ترتّب الأمر المحذور عند أوّل المخالفة ، فزادت هذه الآية على آية البقرة .

وهذه أوّلُ وسوسة صدرت عن الشّيطان . وأوّل تضليل منه للإنسان .

وقد أفادت ( لما ) توقيت بدوّ سوآتهما بوقت ذوقهما الشّجرة ، لأنّ ( لما ) حرف يدل على وجود شيء عند وجود غيره ، فهي لمجرّد توقيت مضمون جوابها بزمان وجود شرطها ، وهذا مَعنى قولهم : حرف وُجودٍ لِوُجُودٍ ( فاللاّم في قولهم لوجود بمعنى ( عند ) ولذلك قال بعضهم هي ظرف بمعنى حين ، يريد باعتبار أصلها ، وإذ قد التزموا فيها تقديم ما يدل على الوقت لا على الموقت ، شابهت أدوات الشّرط فقالوا حرف وجود لوجود كما قالوا في ( لو ) حرف امتناععٍ لامْتناعٍ ، وفي ( لَولا ) حرف امتناع لوجود ، ولكن اللاّم في عبارة النّحاة في تفسير معنى لو ولولا ، هي لام التّعليل ، بخلافها في عبارتهم في ( لما ) لأنّ ( لما ) لا دلالة لها على سَبَب ، ألا ترى قوله تعالى : { فلما نَجّاكم إلى البر أعرضتم } [ الإسراء : 67 ] إذ ليس الإنجاء بسبب للإعراض ، ولكن لَمَّا كان بين السّبب والمسبّب تقارن كثر في شرط ( لما ) وجوابها معنى السَّببية دون اطراد ، فقوله تعالى : { فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما } لا يدلّ على أكثر من حصول ظهور السوْآت عند ذوق الشّجرة ، أي أنّ الله جعل الأمرين مقترنين في الوقت ، ولكن هذا التّقارن هو لكون الأمرين مسبّبين عن سبب واحد ، وهو خاطر السوء الذي نفثه الشّيطان فيهما ، فسبب الإقدام على المخالفة للتّعاليم الصّالحة ، والشّعورَ بالنقيصة : فقد كان آدم وزوجه في طور سذاجة العلم ، وسلامة الفطرة ، شبيهين بالملائكة لا يُقدمان على مفسدة ولا مَضرة ، ولا يُعرضان عن نصح ناصح عَلِمَا صدقَه ، إلى خبر مخبر يشكّان في صدقه ، ويتوقّعان غروره ، ولا يشعران بالسوء في الأفعال ، ولا في ذَرائِعها ومقارناتها . لأنّ الله خلقهما في عالم ملَكي . ثمّ تطوّرت عقليَّتهما إلى طور التّصرّف في تغيير الوجدان . فتكّون فيهما فعل ما نُهيا عنه . ونشأ من ذلك التّطوّر الشّعورُ بالسّوء للغير ، وبالسوء للنّفس ، والشّعور بالأشياء التي تؤدي إلى السوء . وتقارن السوء وتلازمه .

ثمّ إن كان « السَّوآت » بمعنى ما يسوء من النّقائص ، أو كان بمعنى العَورات كما تقدّم في قوله تعالى : { ليبدي لهما ما وُوري عنهما من سوآتهما } [ الأعراف : 20 ] فبُدوّ ذلك لهما مقارن ذوق الشّجرة الذي هو أثر الإقدام على المعصية ونبذِ النّصيحة إلى الاقتداء بالغَرور والاغترار بقَسَمه ، فإنَّهما لما نشأت فيهما فكرة السوء في العمل ، وإرادة الإقدام عليه ، قارنت تلك الكيفيةَ الباعثةَ على الفعل نَشْأةُ الانفعال بالأشياء السيّئة ، وهي الأشياء التي تظهر بها الأفعال السيّئة ، أو تكون ذريعة إليها ، كما تنشأ معرفة آلة القطع عند العزم على القتل ، ومن فكرة السّرقة معرفةُ المكان الذي يختفَى فيه ، وكذلك تنشأ معرفة الأشياء التي تلازم السوء وتقارنه ، وإن لم تكن سيّئة في ذاتها ، كما تنشأ معرفة اللّيل من فكرة السّرقة أو الفرارِ ، فتنشأ في نفوسسِ النّاسسِ كراهيته ونسبته إلى إصدار الشّرور ، فالسوآت إن كان معناه مطلق ما يسوء منهما ونقائصِهما فهي من قبيل القسمين ، وإن كان معناه العورة فهي من قبيل القسم الثّاني ، أعني الشّيء المقارن لما يسوء ، لأنّ العورة تقارن فعلا سيّئاً من النّقائص المحسوسة ، والله أوجدها سببَ مصالح ، فلم يَشعر آدمُ وزوجه بشيء ممّا خلقت لأجله ، وإنّما شعرا بمقارنة شيء مكروه لذلك وكلّ ذلك نشأ بإلْهام من الله تعالى ، وهذا التّطوّر ، الذي أشارت إليه الآية ، قد جعله الله تطوّراً فطرياً في ذرّية آدم ، فالطّفل في أوّل عمره يكون بريئاً من خواطر السّوء فلا يستاء من تلقاء نفسه إلاّ إذا لحق به مؤلم خارجي ، ثمّ إذا ترعرع أخذت خواطر السوء تنتابه في باطن نفسه فيفرضها ويولِّدها ، وينفعل بها أو يفعل بما تشير به عليه .

وقوله : { وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة } حكاية لابتداء عمل الإنسان لستر نقائصه ، وتحيُّلِه على تجنّب ما يكرهه ، وعلى تحسين حاله بحسب ما يُخيِّل إليه خيالُه ، وهذا أوّل مظهر من مظاهر الحَضارة أنشأه الله في عقلي أصلَي البشر ، فإنّهما لما شعرا بسَوآتهما بكلا المعنيين ، عَرفا بعض جزئياتها ، وهي العورة وحدث في نفوسهما الشّعور بقبح بروزها ، فشرعا يخفيانها عن أنظارهما استبشاعاً وكراهيةً ، وإذ قد شعرا بذلك بالإلهام الفطري ، حيث لا ملقّن يلقنّهما ذلك ، ولا تعليم يعلمهما ، تَقرّر في نفوس النّاس أنّ كشف العورة قبيح في الفطرة ، وأنّ سترها متعيّن ، وهذا من حكم القوّة الواهمة الذي قارَن البشر في نشأته ، فدلّ على أنّه وَهْم فطري متأصّل ، فلذلك جاء دين الفطرة بتقرير ستر العورة ، مشايعة لما استقرّ في نفوس البشر ، وقد جعل الله للقوّة الواهمة سلطاناً على نفوس البشر في عصور طويلة ، لأنّ في اتّباعها عونا على تهذيب طباعه ، ونزْععِ الجلافة الحيوانية من النّوع ، لأنّ الواهمة لا توجد في الحيوان ، ثمّ أخذت الشّرائع ، ووصايا الحكماء ، وآداب المربِّينَ ، تزيل من عقول البشر متابعة الأوهام تدريجاً مع الزّمان ، ولا يُبقون منها إلاّ ما لا بد منه لاستبقاء الفضيلة في العادة بين البشر ، حتّى جاء الإسلام وهو الشّريعة الخاتمة فكان نوط الأحكام في دين الإسلام بالأمور الوهْميّة ملغى في غالب الأحكام ، كما فصّلتُه في كتاب « مقاصد الشّريعة » وكتاب « أصول نظام الاجتماع في الإسلام » .

والخصف حقيقته تقوية الطّبقة من النّعل بطبقة أخرى لتشتدّ ، ويستعمل مجازاً مرسلاً في مطلق التّقوية للخِرقة والثّوب ، ومنه ثوب خَصيف أي مخصوف أي غليظ النّسج لا يَشف عمّا تحته ، فمعنى يخصفان يضعان على عوراتهما الورَق بعضه على بعض كفعل الخاصف ، وضعا مُلزقاً متمكّناً ، وهذا هو الظّاهر هنا إذ لم يقل يخصفان وَرَق الجنّة .

و ( من ) في قوله : { من ورق الجنة } يجوز كونها اسماً بمعنى بعضَ في موضع مفعول { يخصفان } أي يخصفان بعض ورق الجنة ، كما في قوله : { من الذين هادوا يحرفون } ، ويجوز كونها بيانيّة لمفعول محذوف يقتضيه : « { يخصفان } والتقدير : يخصفان خِصْفاً من ورق الجنة .