التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَمَن يُوَلِّهِمۡ يَوۡمَئِذٖ دُبُرَهُۥٓ إِلَّا مُتَحَرِّفٗا لِّقِتَالٍ أَوۡ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٖ فَقَدۡ بَآءَ بِغَضَبٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَمَأۡوَىٰهُ جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ} (16)

ثم بين - سبحانه - أن تولية الأدبار محرمة إلا في حالتين فقال - تعالى - : { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير } .

وقوله : { مُتَحَرِّفاً } من التحرف بمعنى الميل والانحراف من جهة إلى جهة بقصد المخادعة في القتال وهو منصوب على الحالية .

وقوله { أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ } من التحيز بمعنى الانضمام . تقول : حزت الشئ أحوزه إذا ضممته إليك . وتحوزت الحية أي انطوت على نفسها .

والفئة : الجماعة من الناس . سميت بذلك لرجوع بعضهم إلى بعض في التعاضد والتناصر . من الفئ بمعنى الرجوع إلى حالة محمودة .

والمعنى : أن تولية الأدبار محرمة إلا في حالتين :

الحالة الأولى : أن يكون المؤمن عند توليته منحازا إلى جماعة أخرى من الجيش ومنضما إليها للتعاون معها على القتال ، حيث إنها في حاجة إليه .

وهذا كله من أبواب خدع الحرب ومكايدها .

وقد توعد - سبحانه - الذي ينهزم أمام الأعداء في غير هاتين الحالتين بقوله : { فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير } .

أى : ومن يول الكافرين يوم لفائهم دبره غير متحرف ولا متحيز فقد رجع متلبسا بغضب شديد كائن من الله - تعالى - ومأواه الذي يأوى إليه في الآخرة جهنم وبئس المصير هى .

وقوله : { فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله . . . } جواب الشرط لقوله ، ومن يولهم .

هذا ، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هاتين الآيتين ما يأتى :

1- وجوب مصابرة العدو ، والثبات في وجهه عند القتال ، وتحريم الفرار منه .

قال الآلوسى : في الآية دلالة على تحريم الفرار من الزحف على غير المتحرف أو المتحيز . أُخرج الشيخان وغيرهما عن أبى هريرة - رضى الله عنه - عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " اجتنبوا السبع الموبقات - أي المهلكات - قالوا : يا رسول الله وما هن قال : الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولى يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات " .

ثم قال : وجاء وعد - التولى الزحف - من الكبائر في غير ما حديث .

2- أن الخطاب في الآيتين لجميع المؤمنين وليس خاصاً بأهل بدر . قال الفخر الرازى ما ملخصه : اختلف المفسرون في أن هذا الحكم - وهو تحريم التولى أمام الزحف - هل هو مختص بيوم بدر أو هو حاصل على الإِطلاق ؟

فنقل عن أبى سعيد الخدرى والحسن وقتادة والضحاك أن هذا الحكم مختص بمن كان انهزم يوم بدر . قالوا : والسبب في اختصاص بدر بهذا الحكم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان حاضراً يوم بدر . . وأنه - سبحانه - شدد الأمر على أهل بدر ، لأنه كان أول الجهاد ، ولو اتفق للمسلمين انهزام فيه لزم منه الخلل العظيم .

والقول الثانى : أن الحكم المذكور في هذه الآية كان عاماً في جميع الحروب بديل أن قوله - تعالى - { يَآأَيُّهَا الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ } عام فيتناول جميع الصور . أقصى ما في الباب أنه نزل في واقعة بدر ، لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .

وهذا القول الثانى هو الذي نرجحه ، لأن ظاهر الآية يفيد العموم لكل المؤمنين في كل زمان ومكان ، ولأن سورة الأنفال كلها قد نزلت بعد الفراغ من غزوة بدر لا قبل الدخول فيها .

3- أن الآيتين محكمتان وليستا منسوختين . أي أن تحريم التولى يوم الزحف على غير المتحرف أو لمتحيز ثابت لم ينسخ .

وقد رجح ذلك الإِمام ابن جرير فقال ما ملخصه : " سئل عطاء بن أبى رباح عن قوله { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } فقال : هذه الآية منسوخة بالآية التي في الأنفال بعد ذلك وهى قوله - تعالى - : { الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ . . . } وليس لقوم أن يفروا من مثليهم .

وقال آخرون : بل هذه الآية حكمها عام في كل من ولى الدبر عن العدو منهزما .

وأولى التأويلين بالصواب في هذه الآية عندى : قول من قال : حكمها محكم ، وأنها نزلت في أهل بدر . وحكمها ثابت في جميع المؤمنين . وأن الله حرم على المؤمنين إذا لقوا العدو أن يولوهم الدبر منهزمين إلا لتحرف القتال ، أو التحيز إلى فئة من المؤمنين ، حيث كانت من أرض الإِسلام ، وأن من ولادهم الدبر بعد الزحف لقتال منهزما - بغير نية إحدى الخلتيين اللتين أباح الله التولية بهما - فقد استوجب من الله وعيده ، إلا أن يتفضل عليه بعفوه .

وإنما قلنا : هى محكمة غير منسوخة ، لما قد بينا في غير موضع ، أنه لا يجوز أن يحكم لحكم آية بنسخ وله في غير النسخ وجه ، إلا بحجة التسليم لها : من خبر يقطع العذر ، أو حجة عقل ، ولا حجة من هذين المعنيين تدل على نسخ حكم قوله - تعالى - { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله } .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَمَن يُوَلِّهِمۡ يَوۡمَئِذٖ دُبُرَهُۥٓ إِلَّا مُتَحَرِّفٗا لِّقِتَالٍ أَوۡ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٖ فَقَدۡ بَآءَ بِغَضَبٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَمَأۡوَىٰهُ جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ} (16)

يقول تعالى متوعدًا على الفرار من الزحف بالنار لمن فعل ذلك : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا } أي : تقاربتم منهم ودنوتم إليهم ، { فَلا تُوَلُّوهُمُ الأدْبَارَ } أي : تفروا وتتركوا أصحابكم ، { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ } أي : يفر بين يدي قرنه مكيدة ؛ ليريه أنه [ قد ]{[12746]} خاف منه فيتبعه ، ثم يكر عليه فيقتله ، فلا بأس عليه في ذلك . نص عليه سعيد بن جبير ، والسدي .

وقال الضحاك : أن يتقدم عن أصحابه ليرى غرة من العدو فيصيبها .

{ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ } أي : فر من هاهنا إلى فئة أخرى من المسلمين ، يعاونهم ويعاونوه{[12747]} فيجوز له ذلك ، حتى [ و ]{[12748]} لو كان في سرية ففر إلى أميره أو إلى الإمام الأعظم ، دخل في هذه الرخصة .

قال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا زُهَيْر ، حدثنا يزيد بن أبي زياد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن عبد الله بن عمر ، رضي الله عنهما ، قال : كنت في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحاص الناس حيصة - وكنت فيمن حاص - فقلنا : كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب ؟ ثم قلنا : لو دخلنا المدينة فبتنا ؟ ثم قلنا : لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن كانت لنا توبة وإلا ذهبنا ؟ فأتيناه قبل صلاة الغداة ، فخرج فقال : " من القوم ؟ " فقلنا : نحن الفرارون . فقال : " لا بل أنتم العَكَّارون ، أنا فئتكم ، وأنا فئة المسلمين " قال : فأتيناه حتى قَبَّلنا يده .

وهكذا رواه أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، من طرق عن يزيد بن أبي زياد{[12749]} وقال الترمذي : حسن لا نعرفه إلا من حديثه .

ورواه ابن أبي حاتم ، من حديث يزيد بن أبي زياد به . وزاد في آخره : وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ }

قال أهل العلم : معنى قوله : " العَكَّارون " أي : العطافون . وكذلك قال عمر بن الخطاب . رضي الله عنه ، في أبي عبيد لما قتل على الجسر بأرض فارس ، لكثرة الجيش من ناحية المجوس ، فقال عمر : لو انحاز إليّ كنت له فئة . هكذا رواه محمد بن سيرين ، عن عمر{[12750]}

وفي رواية أبي عثمان النهدي ، عن عمر قال : لما قتل أبو عبيد قال عمر : يا أيها الناس ، أنا فئتكم .

وقال مجاهد : قال عمر : أنا فئة كل مسلم .

وقال عبد الملك بن عُمَيْر ، عن عمر : أيها الناس ، لا تغرنكم هذه الآية ، فإنما كانت يوم بدر ، وأنا{[12751]} فئة لكل مسلم .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا حسان بن عبد الله المصري ، حدثنا خلاد بن سليمان الحضرمي ، حدثنا نافع : أنه سأل ابن عمر قلت : إنا قوم لا نثبت عند قتال عدونا ، ولا ندري من الفئة : إمامنا أو عسكرنا ؟ فقال : إن الفئة رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقلت إن الله يقول : { إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأدْبَارَ }{[12752]} فقال : إنما نزلت هذه الآية في يوم بدر ، لا قبلها ولا بعدها .

وقال الضحاك في قوله : { أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ } المتحيز : الفار إلى النبي وأصحابه ، وكذلك من فر اليوم إلى أميره أو أصحابه .

فأما إن كان الفرار لا عن سبب من هذه الأسباب ، فإنه حرام وكبيرة من الكبائر ، لما رواه البخاري ومسلم في صحيحهما عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اجتنبوا السبع الموبقات " . قيل : يا رسول الله ، وما هن ؟ قال : " الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتَّوَلِّي يوم الزحف ، وقَذْفِ المحصنات الغافلات المؤمنات " {[12753]}

ولهذا الحديث شواهد من وجوه أخر ؛ ولهذا قال تعالى : { فَقَدْ بَاءَ } أي : رجع { بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ } أي : مصيره ومنقلبه يوم ميعاده : { جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }

وقال الإمام أحمد : حدثنا زكريا بن عَدِيّ ، حدثنا عبيد الله بن عمرو الرَّقِّي ، عن زيد بن أبي أُنَيْسَة ، حدثنا جبلة بن سُحَيْم ، عن أبي المثنى العبدي ، سمعت السدوسي - يعني ابن الخصاصية ، وهو بشير بن معبد - قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم لأبايعه ، فاشترط علي : " شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن أقيم الصلاة ، وأن أؤدي الزكاة ، وأن أحج حَجَّة الإسلام ، وأن أصوم شهر رمضان ، وأن أجاهد في سبيل الله " . فقلت : يا رسول الله ، أما اثنتان فوالله لا أطيقهما : الجهاد ، فإنهم زعموا أنه من ولى الدُّبُر فقد باء بغضب من الله ، فأخاف إن حضرت ذلك خشعت نفسي وكرهت الموت . والصدقة ، فوالله ما لي إلا غُنَيْمَةٌ وعشر ذَوْدٍ هُنَّ رَسَل أهلي وحَمُولتهم . فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ، ثم حرك يده ، ثم قال : " فلا جهاد ولا صدقة ، فيم تدخل الجنة إذا ؟ " فقلت : يا رسول الله ، أنا أبايعك . فبايعته عليهنَّ كلهنَّ .

هذا حديث{[12754]} غريب{[12755]} من هذا الوجه{[12756]} ولم يخرجوه في الكتب الستة .

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم أبو النضر ، حدثنا يزيد بن ربيعة ، حدثنا أبو الأشعث ، عن ثوبان ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ثلاثة لا ينفع معهن عمل : الشرك بالله ، وعقوق الوالدين ، والفرار من الزحف " . {[12757]}

وهذا أيضا حديث غريب جدا .

وقال الطبراني أيضا : حدثنا العباس بن الفضل الأسْفَاطِيّ ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حفص بن عمر الشَّنِّي ، حدثني عمرو بن مرة قال : سمعت بلال بن يسار بن زيد - مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال : سمعت أبي حدث عن جدي قال : قال رسول الله : " من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو وأتوب إليه ، غفر له وإن كان قد فر من الزحف " .

وهكذا رواه أبو داود عن موسى بن إسماعيل ، به . وأخرجه الترمذي ، عن البخاري ، عن موسى بن إسماعيل به . وقال : غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه{[12758]}

قلت : ولا يعرف لزيد مولى النبي صلى الله عليه وسلم ، عنه سواه .

وقد ذهب ذاهبون إلى أن الفرار إنما كان حراما على الصحابة ؛ لأنه - يعني الجهاد - كان فرض عين عليهم . وقيل : على الأنصار خاصة ؛ لأنهم بايعوا على السمع والطاعة في المنشط والمكره . وقيل : [ إنما ]{[12759]} المراد بهذه الآية أهل بدر خاصة ، يروى هذا عن عمر ، وابن عمر ، وابن عباس ، وأبي هريرة ، وأبي سعيد ، وأبي نضرة ، ونافع مولى ابن عمر ، وسعيد بن جبير ، والحسن البصري ، وعكرمة ، وقتادة ، والضحاك ، وغيرهم .

وحجتهم في هذا : أنه لم تكن عصابة لها شوكة يفيئون إليها سوى عصابتهم تلك ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض " ؛ ولهذا قال عبد الله بن المبارك ، عن مبارك بن فضالة ، عن الحسن في قوله : { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } قال : ذلك يوم بدر ، فأما اليوم : فإن انحاز إلى فئة أو مصر - أحسبه قال : فلا بأس عليه .

وقال ابن المبارك أيضا ، عن ابن لَهِيعَة : حدثني يزيد بن أبي حبيب قال : أوجب الله تعالى لمن فر يوم بدر النار ، قال : { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ } فلما كان يوم أحد بعد ذلك قال : { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ [ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا ] }{[12760]} { وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ } [ آل عمران : 155 ] ، ثم كان يوم حُنَيْن بعد ذلك بسبع سنين ، قال : { ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ } [ التوبة : 25 ] { ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ } [ التوبة : 27 ] .

وفي سنن أبي داود ، والنسائي ، ومستدرك الحاكم ، وتفسير ابن جرير ، وابن مَرْدُوَيه ، من حديث داود بن أبي هند ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد أنه قال في هذه الآية : { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } إنما{[12761]} أنزلت في أهل بدر{[12762]} وهذا كله لا ينفي أن يكون الفرار من الزحف حراما على غير أهل بدر ، وإن كان سبب النزول فيهم ، كما دل عليه حديث أبي هريرة المتقدم ، من أن الفرار من الزحف من الموبقات ، كما هو مذهب الجماهير ، والله [ تعالى ]{[12763]} أعلم .


[12746]:زيادة من أ.
[12747]:في ك، م: "يعاونونه".
[12748]:زيادة من ك، م.
[12749]:المسند (2/70) وسنن أبي داود برقم (2647) وسنن الترمذي برقم (1716) وسنن ابن ماجة برقم (3704).
[12750]:رواه الطبري في تفسيره (13/439).
[12751]:في م: "وإنه".
[12752]:زيادة من ك، د، م، أ، وفي هـ: : الآية".
[12753]:صحيح البخاري برقم (2766) وصحيح مسلم برقم (89).
[12754]:في م: "الحديث".
[12755]:في أ: "عزيز".
[12756]:المسند (5/224).
[12757]:المعجم الكبير (2/95) قال الهيثمي في المجمع (1/104): "فيه يزيد بم ربيعة ضعيف".
[12758]:المعجم الكبير (5/89) وسنن أبي داود برقم (1517) وسنن الترمذي برقم (3577).
[12759]:زيادة من ك، م، أ.
[12760]:زيادة من ك، م، أ، وفي هـ "إلى قوله".
[12761]:في م: "أنها".
[12762]:سنن أبي داود برقم (2648) وسنن النسائي الكبرى برقم (11203) والمستدرك (2/327) وتفسير الطبري (13/437).
[12763]:زيادة من م.

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَمَن يُوَلِّهِمۡ يَوۡمَئِذٖ دُبُرَهُۥٓ إِلَّا مُتَحَرِّفٗا لِّقِتَالٍ أَوۡ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٖ فَقَدۡ بَآءَ بِغَضَبٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَمَأۡوَىٰهُ جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ} (16)

{ ومن يولّهم يومئذ دبره إلا متحرّفا لقتالٍ } يريد الكر بعد الفر وتغرير العدو ، فإنه من مكايد الحرب . { أو متحيّزاً إلى فئة } أو منحازا إلى فئة أخرى من المسلمين على القرب ليستعين بهم ، ومنهم من لم يعتبر القرب لما روى ابن عمر رضي الله عنهما : أنه كان في سرية بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ففروا إلى المدينة فقلت : يا رسول الله نحن الفرارون فقال : " بل أنتم العكارون وأنا فئتكم " . وانتصاب متحرفا ومتحيزا على الحال وإلا لغو لا عمل لها ، أو الاستثناء من المولين أي إلا رجلا متحرفا أو ومتحيزا ، ووزن متحير متفيعل لا متفعل وإلا لكان متحوزا لأنه من حاز يحوز . { فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير } هذا إذا لم يزد العدو على الضعف لقوله : { الآن خفف الله عنكم } الآية ، وقيل الآية مخصوصة بأهل بيته والحاضرين معه في الحرب .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَمَن يُوَلِّهِمۡ يَوۡمَئِذٖ دُبُرَهُۥٓ إِلَّا مُتَحَرِّفٗا لِّقِتَالٍ أَوۡ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٖ فَقَدۡ بَآءَ بِغَضَبٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَمَأۡوَىٰهُ جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ} (16)

ثم استثني منه حالة التحرف لأجل الحيلة الحربية والانحياز إلى فِئَة من الجيش للاستنجاد بها أو لإنجادها .

والمستثنى يجوز أن يكون ذاتاً مستثنى من الموصول في قوله { ومن يولهم } والتقدير : إلاّ رَجلاً مُتحرفاً لقتال ، فحذف الموصوف وبقيت الصفة ، ويجوز أن يكون المستثنى حالة من عموم الأحوال دل عليها الاستثناء أي إلاّ في حال تحرفه لقتال .

و ( التحرف ) الانصراف إلى الحَرْف ، وهو المكان البعيد عن وسطه فالتحرف مزايلة المكان المستقر فيه والعدولُ إلى أحد جوانبه ، وهو يستدعي تولية الظهر لذلك المكان بمعنى الفرار منه .

واللام للتعليل أي إلاّ في حال تحرف أي مجانبة لأجل القتال ، أي لأجل أعماله إن كان المراد بالقتال الاسم ، أو لأجل إعادة المقاتلة إن كان المراد بالقتال المصدر ، وتنكير قتال يرجح الوجه الثاني ، فالمراد بهذا التحرف ما يعبر عنه بالفَرّ لأجل الكرّ فإن الحرب كرّ وفرّ ، وقال عمرو بن معديكرب :

ولقد أجمَعُ رِجليَّ بها *** حذَر الموت وإني لفـرور

ولقد أعْطِفها كارهـة *** حينَ للنفس من الموت هَرِير

كل ما ذلك مني خُلُق *** وبكلٍ أنا في الروْع جـدير

والتحيز طلب الحَيْز فَيْعِل من الحَوْز ، فأصل إحدى ياءيْه الواو ، فلما اجتمعت الواو والياء وكانت السابقة ساكنة قلبت الواوُ ياء وأدغمت الياء في الياء ، ثم اشتقوا منه تَحَيّز ، فوزنه تَفَيْعَل وهو مختار صاحب « الكشاف » جرياً على القياس بقدر الإمكان ، وجوّز التفتازاني أن يَكون وزنه تَفَعّل بناء على اعتباره مشتقاً من الكلمة الواقع فيها الإبدال والإدغامُ وهي الحَيز ، ونظّره بقولهم : « تَدَيُّر » بمعنى الإقامة في الدار ، فإن الدار مشتقة من الدوران ولذلك جُمعت على دُور ، إلاّ أنه لما كثر في جمعها دِيَار ودِيرَة عوملت معاملة ما عينه ياء ، فقالوا من ذلك تَدَيّرَ بمعنى أقام في الدار وهو تَفعّل من الدار ، واحتَج بكلام ابن جني والمرزوقي في « شرح الحماسة » ، يعني ما قال ابن جني في « شرح الحماسة » عند قول جابر بن حريش :

إِذْ لا تخاف حُدُوجُنا قذْفَ النّوى *** قبلَ الفساد إِقامةً وتديرا

التدير تفَعُّل من الدار وقياسه تدور إلاّ أنه لما كثر استعمالهم ديار أَنِسوا بالياء ووجدوا جانبها أوطا حسّاً وألين مسّاً فاجتروا عليها فقالوا تدير » وما قال المرزوقي « الأصل في تَدَير الواو ولكنهم بنوه على دِيَارِ لإلفِهم له بكثرة تردده في كلامهم » .

فمعنى { متحيزاً إلى فئة } أن يكون رجع القهقرى ليلتحق بطائفة من أصحابه فيتقوى بهم .

والفِئَة الجماعة من الناس ، وقد تقدم في سورة البقرة ( 249 ) في قوله : { كم من فئةٍ قليلةَ } وتطلق على مؤخرة الجيش لأنها يفيء إليها مَن يحتاج إلى إصلاح أمره أو مَن عَرض له ما يَمنعه من القتال من مرض أو جراحة أو يستنجد بهم ، فهو تولَ لمقصد القتال ، وليس المراد أن ينحاز إلى جماعة مستريحين لأن ذلك من الفرار ، ويدخل في معنى التحيز إلى الفئة الرجوع إلى مقر أمير الجيش للاستنجاد بفئة أخرى ، وكذلك القفول إلى مقر أمير المِصر الذي وجه الجيش للاستمداد بجيش آخر إذا رأى أميرُ الجيش ذلك من المصلحة كما فعل المسلمون في فتح إفريقية وغيره في زمن الخلفاء ، ولما انهزم أبو عبيد بن مسعود الثقفي يوم الجسر بالقادسية ، وقتل هو ومن معه من المسلمين ، قال عمر بن الخطاب : هلاّ تَحيّز إليّ فأنا فِئتُهْ .

و{ باء } رجع . والمعنى أن الله غضب عليه في رجوعه ذلك فهو قد رجع ملابساً لغضب الله تعالى عليه . ومناسبة ( باء ) هنا أنه يشير إلى أن سبب الغضب عليه هو ذلك البَوْء الذي باءه . وهذا غضب الله عليه في الدنيا المستحق الذم وغيره مما عسى أن يحرمه عناية الله تعالى في الدنيا ، ثم يترتب عليه المصير إلى عذاب جهنم ، وهذا يدل على أن توليه الظهر إلى المشركين كبيرة عظيمة .

فالآية دالة على تحريم التولي عن مقابلة العدو حين الزحف .

والذي أرى في فقه هذه الآية أن ظاهر الآية هو تحريم التولي على آحادهم وجماعتهم إذا التقوا مع أعدائهم في ملاحم القتال والمجالدة ، بحيث إن المسلمين إذا توجهوا إلى قتال المشركين أو إذا نزل المشركون لمقاتلتهم وعزموا على المقاتلة فإذا التقى الجيشان للقتال وجب على المسلمين الثبات والصبر للقتال ، ولو كانوا أقل من جيش المشركين ، فإمّا أن ينتصروا ، وإمّا أن يتشهدوا ، وعلى هذا فللمسلمين النظر قبل اللقاء هل هم بحيث يستطيعون الثبات وجهه أولاً ، فإن وقت المجالدة يضيق عن التدبير ، فعلى الجيش النظر في عَدده وعُدده ونسبة ذلك من جيش عدوهم ، فإذا أزمعوا الزحف وجب عليهم الثبات ، وكذلك يكون شأنهم في مدة نزولهم بدار العدو ، فإذا رأوا للعدو نجدة أو ازدياد قوة نظروا في أمرهم هل يثبتون لقتاله أو ينصرفون بإذن أميرهم ، فإمّا أن يأمرهم بالكف عن متابعة ذلك العدو ، وإمّا أن يأمرهم بالاستنجاد والعودة إلى قتال العدو كما صنع المسلمون في غزوة إفريقية الأولى ، وهذا هو الذي يشهد له قوله تعالى : { إذا لقيتم فئة فاثبُتوا } [ الأنفال : 45 ] وما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب قام في الناس فقال : " يأيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف " ولعل حكمة ذلك أن يمضي المسلمون في نصر الدين . وعلى هذا الوجه يكون لأمير الجيش ، إذا رأى المصلحة في الانجلاء عن دار العدو وترككِ قتالهم ، أن يغادر دار الحرب ويرجع إلى مقره ، إذا أمن أن يلحق به العدو ، وكان له من القوة ما يستطيع به دفاعهم إذا لحقوا به ، فذلك لا يسمى تولية أدبار ، بل هو رأي ومصلحة ، وهذا عندي هو محمل ما رَوَى أبو داود والترمذي ، عن عبد الله بن عمر : أنه كان في سرية بعثها النبي صلى الله عليه وسلم قال : « فحاصَ الناسُ حَيْصة فكنت فيمن حَاص فلما برزنا قلنا كيف نصنع إذا دخلنا المدينة وقد فررنا من الزحف وبُؤنا بالغضب ثم قلنا لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كان لنا توبة أقمنا ، وإن كان غير ذلك ذهبنا قال « فجلسنا لرسول الله قبل صلاة الفجر فلما خرج قمنا إليه فقلنا نحن الفرارون ، فأقبل إلينا فقال لا بل أنتم العكّارون ( أي الذين يكُرون يعني أن فراركم من قبيل الفرّ للكر ، يقال للرجل إذا ولّى عن الحرب ثم كرّ راجعاً إليها عَكرَ أوْ اعتكر ) وأنا فئة المسلمين » يَتأول لهم أن فرارهم من قبيل قوله تعالى : { أو متحيزاً إلى فئة } قال ابن عمر { فدنونا فقبلنا يده } فيفهم منه أن فرار ابن عمر وأصحابه لم يكن في وقت مجالدتهم المشركين ، ولكنه كان انسلالاً لينحازوا إلى المدينة فتلك فِئَتُهم .

وإنما حرم الله الفرار في وقت مناجزة المشركين ومجالدتهم وهو وقت اللقاء ؛ لأن الفرار حينئذٍ يوقع في الهزيمة الشنيعة والتقتيل ، وذلك أن الله أوجب على المسلمين قتال المشركين فإذا أقدم المسلمون على القتال لم يكن نصرهم إلا بصبرهم وتأييد الله إياهم ، فلو انكشفوا بالفرار لأعمل المشركون الرماح في ظهورهم فاستأصلوهم ، فلذلك أمرهم الله ورسوله بالصبر والثبات ، فيكون ما في هذه الآية هو حكم الصبر عند اللقاء ، وبهذا يكون التقييد بحال الزحف للإحتراز عن اللقاء في غير تلك الحالة . وأما آية { إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين } [ الأنفال : 65 ] فقد بينت حكم العَدد الذين عليهم طلب جهاد المشركين بنسبة عددهم إلى عدد المشركين ، ولعل هذا مراد ابن العربي من قوله : { لأنه ظاهر الكتاب والحديث } فيما نقله ابن الفرس .