ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك بعض المنن الأخرى التي منحها للمؤمنين قبل أن يلتحموا مع أعدائهم في بدر فقال : { إِذْ يُغَشِّيكُمُ النعاس أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السمآء مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشيطان وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقدام } .
وقوله : { يُغَشِّيكُمُ } بتشديد الشين من التغشية بمعنى التغطية عن غشاه تغشية أى : غطاه .
والنعاس : أول الوم قبل أن يثقل . وفعله - على الراجح - على وزن منع .
والأمنة : مصدر بمعنى الأمن . وهو طمأنينة القلب وزوال الخوف ، يقال : أمنت من كذا أمنة وأمنا وأمانا بمعنى .
قال الجمل : في قوله : { إذ يغشاكم النعاس } ثلاثة قراءات سبعية .
الأولى : يغشاكم كيلقاكم ، من غشية إذا أتاه وأصابه وفى المصباح : غشيته أغشاه من باب تعب بمعنى أتيته - وهى قراءة أبى عمرو وابن كثير .
الثانية : يُغْشِيكم - بإسكان الغيب وكسر الشين - من أغشاه . أي أنزله بكم وأوقعه عليكم - وهو قراءة نافع - .
الثالثة : يغشيكم - بتشديد الشين وفتح الغين وهى قراءة الباقين - من غشاه تغشية بمعنى غطاه .
أى : يغشيكم الله النعاس أي يجعله عليكم كالغطاء من حيث اشتماله عليكم .
والنعاس على القراءة الأولى مرفوع على الفاعلية ، وعلى الأخيرتين منصوب على المفعولية . وقوله : " أمنة " حال أو مفعول لأجله .
وقال القرطبى : وكان هذا النعاس في الليلة التي كان القتال من غدها ، فكان النوم عجيبا مع ما كان بين أيديهم من الأمر المهم ، ولكن الله ربط جأشهم .
وعن على - رضى الله عنه - قال : ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقدار على فرس أبلق ، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم سوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت شجرة يصلى حتى أصبح .
وفى امتنان الله عليهم بالنوم في هذه الليلة وجهان : - أحدهما : أن قواهم بالاستراحة على القتال من الغد .
الثانى : أن أمنهم بزوال الرعب في قلوبهم : كما يقال : الأمن منيم ، والخوف مسهر .
وقال ابن كثير : وجاء في الصحيح " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما كان يوم بدر في العريش مع الصديق ، وهما يدعوان ، أخذت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة من النوم . ثم استيقظ متبسما ، فقال : " أبشر يا أبا بكر ، هذا جبريل على تثناياه النقع " . ثم خرج من باب العريش وهو يتلو قول الله - تعالى - { سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر } " .
والمعنى : واذكروا - أيها المؤمنون - أيضاً ، وقت أن كنتم متعبين وقلقين على مصيركم في هذه المعركة ، فألقى الله عليكم النعاس ، وغشاكم به قبل التحامكم بأعدائكم ، ليكون أمانا لقلوبكم ، وراحة لأبدانكم ، وبشارة خير لكم .
هذا ، ومن العلماء الذين تكلموا عن نعمة النعاس التي ساقها الله للمؤمنين قبل المعركة ، الإِمامان الرازى ومحمد عبده .
أما الامام الرازى فقد قال ما ملخصه : واعلم أن كل نوم ونعاس لا يحصل إلا من قبل الله - تعالى - فتخصيص هذا النعاس بأنه من الله لا بد فيه من مزيد فائدة ، وذكروا في ذلك وجوها : منها : أن الخائف إذا خاف من عدوه فإنه لا يأخذه النوم ، وإذا نام الخائفون أمنوا . فصار حصول النوم لهم في وقت الخوف الشديد ، يدل على إزالة الخوف وحصول الأمن .
ومنها : أنهم ما ناموا نوما غرقا يتمكن مع العدو من معافصتهم ، بل كان ذلك نعاسا يزول معه الإِعياء والكلال ، ولو قصدهم العدو في هذه الحالة لعرفوا وصوله ، ولقدروا على دفعه .
ومنها : أنه غشيهم هذا النعاس دفعة واحدة مع كثرتهم ، ومحصول النعاس للجمع العظيم في الخوف الشديد أمر خارق للعادة . فلهذا السبب قيل : إن ذلك النعاس كان في حكم المعجز .
وقال الامام محمد عبده : لقد مضت سنة الله في الخلق ، بأن من يتوقع في صبيحة ليلته هو لا كبيرا ، ومصابا عظيما ، فإنه يتجافى تجنبه على مضجعه فيصبح خاملا ضعيفا . وقد كان المسلمون يوم بدر يتوقعون مثل ذلك ، إذ بلغهم أن جيشا يزيد على عددهم ثلاثة أضعاف سيحاربهم غدا فكان من مقتضى العادة أن يناموا على بساط الأرض والسهاد . . ولكن الله رحمهم بما أنزل عليهم من النعاس : غشيهم فناموا ، واثقين بالله ، مطمئنين لوعده ، وأصبحوا على همة ونشاط في لقاء عدوهم وعدوه . . . . فالنعاس لم يكن يوم بدر في وقت الحرب بل قبلها .
وبذلك نرى أن النعاس الذي أنزله الله تعالى - على المؤمنين قبل لقائهم بأعدائهم في بدر كان نعمة عظيمة ومنه جليلة .
وقوله - تعالى - : { وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السمآء مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ } وهو - أى : إنزال الماء من السماء نعمة عظمى تحمل في طياتها نعما وسننا .
أولهما : يتجلى في هذه الجملة الكريمة ، أنه - سبحانه - أنزل على المؤمنين المطر من السماء ليطهرهم به من الحدثين : الأصغر والأكبر ، فإن المؤمن كما يقول الإِمام الرازى - " يكاد يستقذر نفسه إذا كان جنبا ، وبغتم إذا لم يتمكن من الاغتسال ، ويضطرب قلبه لأجل هذا السبب " .
وثانيها : قوله - تعالى - : ويهذب عنكم رجز الشيطان .
وأصل الرجز : الاضطراب ويطلق على كل ما تشتد مشقته على النفوس .
قال الراغب : أصل الرجز الاضطراب ، ومنه قيل رجز البعير رجزا فهو أرجز ، وناقة رجزاء إذا تقارب خطوها واضطرب لضعفها . .
والمراد برجز الشيطان : وسوسته للمؤمنين ، وتخويفه إياهم من العطش وغيره عند فقدهم الماء وإلقاؤه الظنون السيئة في قلوبهم .
أى : أنه - سبحانه - أنزل عليكم الماء - أيها المؤمنون - ليظهركم به تطهيرا حسيا وليزيل عنكم وسوسة الشيطان ، بتخويفه إياكم من العطش وبإلقائه في نفوسكم الظنون والأوهام . . وهذا هو التطهير الباطنى .
وثالثها قوله - تعالى - : { وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ } أى : وليقويها بالثقة في نصر الله ، وليوطنها على الصبر والطمأنينة . . ولا شك أن وجود الماء في حوزة المحاربين يزيدهم قوة على قوتهم ، وثباتاً على ثباتهم ، أما فقده فإنه يؤدى إلى فقد الثقة والاطمئنان ، بل وإلى الهزيمة المحققة .
وأصل الربط : الشد . ويقال لكل من صبر على أمر : ربط قلبه عليه ، أى : حبس قلبه عن أن يضطرب أو يتزعزع ، ومنه قولهم : رجل رابط الجأش : أى : ثابت متمكن .
ورابع هذه النعم التي تولدت عن نزول الماء من السماء على المؤمنين ، قبل خوضهم معركة بدر ، يتجلى في قوله - تعالى - { وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقدام } .
أى : أنه - سبحانه - أنزل عليهم المطر قبل المعرفة لتطهيرهم حسياً ومعنوياً ، ولتقويتهم وطمأنينتهم ، وليثبت أقدامهم به حتى لا تسوخ في الرمال ، وحتى يسهل المشى عليها ، إذ من المعروف أن من العسير المشئ على الرمال . فإذا ما نزلت عليها الأمطار جمدت وسهل السير فوقها ، وانطفأ غبارها . . فالضمير في قوله { بِهِ } يعود على الماء المنزل من السماء .
قال الزمخشرى : ويجوز أن يعود للربط - في قوله { وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ } ، لأن القلب إذا تمكن فيه الصبر والجراءة ثبت القدم في مواطن القتال .
وهذا ، وقد وردت آثار متعددة توضع ما اشتملت عليه هذه الآية الكريمة من نعم جليلة ، ومن ذلك ما جاء عن ابن عباس أنه قال : نزل النبى - صلى الله عليه وسلم - يغنى حين سار إلى بدر - والمسلمون بينهم وبين الماء رملة دعصة - أي كثيرة مجتمعة - فأصاب المسلمين ضعف شديد ، وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ ، فوسوس بينهم ، تزعمون أنكم أولياء الله وفيكم ورسوله ، وقد غلبكم المشركون على الماء ، وأنتم تصلون مجنبين ؟ فأمطر الله عليهم مطرا شدديا ، فشرب المسلمون وتطهروا ، وأذهب الله عنهم رجز الشيطان وثبت الرمل حين أصابه المطر ، ومشى الناس عليه والدواب ، فاسروا إلى القوم .
وعن عروة بن الزبير قال : بعث الله السماء وكان الوادى دهساً فاصاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه مالبد لهم الأرض ولم منعهم من المسير ، وأصاب قريشا ما لم يقدروا على أن يرحلوا معه .
ومن هذا القول المنقول عن عروة - رضى الله عنه - نرى أن المطر كان خيراً للمسلمين ، وكان شراً على الكافرين ، لأن المسلمين كانوا في مكان يصلحه المطر ، بينما كان المشركون في مكان يؤذيهم فيه المطر .
يذكرهم الله{[12717]} بما أنعم به عليهم من إلقائه النعاس عليهم ، أمانا من خوفهم الذي حصل لهم من كثرة عَدُوِّهم وقلة عَدَدهم ، وكذلك فعل تعالى بهم يوم أُحُد ، كما قال تعالى : { ثُمَّ أَنزلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ } [ آل عمران : 154 ] .
قال أبو طلحة{[12718]} كنت ممن أصابه النعاس يوم أحد ، ولقد سقط السيف من يدي مرارا يسقط وآخذه ، ويسقط وآخذه ، ولقد نظرت إليهم يميدون وهم تحت الحَجَف .
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا زُهَيْر ، حدثنا ابن مَهْدِي ، عن شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن حارثة بن مُضَرِّب ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد ، ولقد رأيتُنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يصلي تحت شجرة ويبكي حتى أصبح{[12719]}
وقال سفيان الثوري ، عن عاصم عن أبي رَزِين ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، أنه قال : النعاس في القتال أمنة من الله ، وفي الصلاة من الشيطان .
وقال قتادة : النعاس في الرأس ، والنوم في القلب .
قلت : أما النعاس فقد أصابهم يوم أحد ، وأمر ذلك مشهور جدا ، وأما يوم بدر في هذه الآية الشريفة{[12720]} إنما هي في سياق قصة بدر ، وهي دالة على وقوع ذلك أيضا وكأن ذلك كان سجية
للمؤمنين عند شدة البأس لتكون قلوبهم آمنة مطمئنة بنصر الله . وهذا من فضل الله ورحمته بهم ونعمه عليهم ، وكما قال تعالى : { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } [ الشرح : 5 ، 6 ] ؛ ولهذا [ جاء ]{[12721]} في الصحيح{[12722]} أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان يوم بدر في العريش مع الصديق ، رضي الله عنه ، وهما يدعوان ، أخذت رسول الله سنة من النوم ، ثم استيقظ متبسما فقال : " أبشر يا أبا بكر ، هذا جبريل على ثناياه النقع " ثم خرج من باب العريش ، وهو يتلو قوله تعالى : { سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ } [ القمر : 45 ] .
وقوله : { وَيُنزلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : نزل النبي صلى الله عليه وسلم - يعني : حين سار إلى بدر - والمسلمون{[12723]} بينهم وبين الماء رملة دعصة{[12724]} وأصاب المسلمين ضعف شديد ، وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ ، يوسوس بينهم : تزعمون أنكم أولياء الله تعالى وفيكم رسوله ، وقد غلبكم المشركون على الماء ، وأنتم تصلون مجنبين ! فأمطر الله عليهم مطرا شديدا ، فشرب المسلمون وتطهروا ، وأذهب الله عنهم رجز الشيطان ، وانشف{[12725]} الرمل حين أصابه المطر ومشى الناس عليه والدواب ، فساروا إلى القوم وأمد الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بألف من الملائكة ، فكان جبريل في خمسمائة مُجَنِّبَة ، وميكائيل في خمسمائة مُجَنِّبة .
وكذا قال العوفي عن ابن عباس : إن المشركين من قريش لما خرجوا لينصروا العير وليقاتلوا{[12726]} عنها ، نزلوا على الماء يوم بدر ، فغلبوا المؤمنين عليه . فأصاب المؤمنين الظمأ ، فجعلوا يصلون مجنبين محدثين ، حتى تعاظموا ذلك في صدورهم ، فأنزل الله من السماء ماء حتى سال الوادي ، فشرب المؤمنون ، وملئوا الأسقية ، وسقوا الركاب{[12727]} واغتسلوا من الجنابة ، فجعل الله في ذلك طهورا ، وثبت الأقدام . وذلك أنه كانت بينهم وبين القوم رملة ، فبعث الله المطر عليها ، فضربها حتى اشتدت ، وثبتت عليها الأقدام .
ونحو ذلك رُوِي عن قتادة ، والضحاك ، والسدي .
وقد روى عن سعيد بن المسيب ، والشعبي ، والزهري ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : أنه طش{[12728]} أصابهم يوم بدر .
والمعروف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سار إلى بدر ، نزل على أدنى ماء هناك أي : أول ماء وجده ، فتقدم إليه الحباب بن المنذر فقال : يا رسول الله ، هذا المنزل الذي نزلته منزل أنزلكه الله فليس لنا أن نجاوزه ، أو منزل نزلته للحرب والمكيدة ؟ فقال : " بل منزل نزلته للحرب والمكيدة " . فقال : يا رسول الله إن هذا ليس بمنزل ، ولكن سر بنا حتى ننزل على أدنى ماء يلي القوم ونغور ما وراءه من القلب ، ونستقي الحياض فيكون لنا ماء وليس لهم ماء . فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل كذلك{[12729]}
وفي مغازي " الأموي " أن الحباب لما قال ذلك نزل ملك من السماء وجبريل جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال ذلك الملك : يا محمد ، إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك : إن الرأي ما أشار به " الحباب بن المنذر " {[12730]} فالتفت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]{[12731]} إلى جبريل ، عليه{[12732]} السلام ، فقال : هل تعرف هذا ؟ فنظر إليه فقال : ما كل الملائكة أعرفهم ، وإنه ملك وليس بشيطان .
وأحسن ما في هذا ما رواه الإمام محمد بن إسحاق بن يسار صاحب " المغازي " ، رحمه الله : حدثني يزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير قال : بعث الله السماء - وكان الوادي دهسا - فأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما لبد لهم الأرض ولم يمنعهم من المسير ، وأصاب قريشا ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه{[12733]}
وقال مجاهد : أنزل الله عليهم المطر قبل النعاس ، فأطفأ بالمطر الغبار ، وتلبدت به الأرض ، وطابت نفوسهم{[12734]} وثبتت به أقدامهم .
وقال ابن جرير : حدثنا هارون بن إسحاق ، حدثنا مصعب بن المقدام ، حدثنا إسرائيل ، حدثنا أبو إسحاق ، عن جارية ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : أصابنا من الليل طش{[12735]} من المطر - يعني الليلة التي كانت في صبيحتها وقعة بدر - فانطلقنا تحت الشجر والحَجَف نستظل تحتها من المطر . وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ربه : " اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض " ! فلما أن طلع الفجر ، نادى : " الصلاة ، عباد الله " ، فجاء الناس من تحت الشجر والحجف ، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحرض على القتال .
وقوله : { لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ } أي : من حدث أصغر أو أكبر ، وهو تطهير{[12736]} الظاهر { وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ } أي : من وسوسة أو{[12737]} خاطر سيئ ، وهو تطهير الباطن ، كما قال تعالى في حق أهل الجنة : { عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ } فهذا زينة الظاهر { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا } [ الإنسان : 21 ]أي : مطهرا لما كان من غل أو حسد أو تباغض ، وهو زينة الباطن وطهارته .
{ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ } أي : بالصبر والإقدام على مجالدة الأعداء ، وهو شجاعة الباطن ، { وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقْدَامَ } وهو شجاعة الظاهر ، والله أعلم .
{ إذ يغشّيكم النعاس } بدل ثان من { إذ يعدكم } لإظهار نعمة ثالثة أو متعلق بالنصر أو بما في عند الله معنى الفعل ، أو بجعل أو بإضمار اذكر . وقرأ نافع بالتخفيف من أغشيته الشيء إذا غشيته إياه والفاعل على القراءتين هو الله تعالى وقرأ ابن كثير وأبو عمر " يغشاكم الناس " بالرفع . { أمنة منه } أمنا من الله ، وهو مفعول له باعتبار المعنى فإن قوله { يغشيكم النعاس } متضمن معنى تنعسون ، و " يغشاكم " بمعناه ، وال { أمنة } فعل لفاعله ويجوز أن يراد بها الإيمان فيكون فعل المغشي ، وأن تجعل على القراءة الأخيرة فعل النعاس على المجاز لأنها لأصحابه ، أو لأنه كان من حقه أن لا يغشاكم لشدة الخوف فلما غشيهم فكأنه حصلت له أمنة من الله لولاها لم يغشهم كقوله :
يهاب النوم أن يغشى عيونا *** تهابك فهو نفّار شرود
وقرئ { أمنة } كرحمة وهي لغة . { وينزّل عليكم من السماء ماء ليطهركم به } من الحدث والجنابة . { ويذهب عنكم رجز الشيطان } يعني الجنابة لأنها من تخييله ، أو وسوسته وتخويفه إياهم من العطش . روي أنهم نزلوا في كثيب أغفر تسوخ فيه الأقدام على غير ماء وناموا فاحتلم أكثرهم وقد غلب المشركون على الماء ، فوسوس إليهم الشيطان وقال : كيف تنصرون ، وقد غلبتم على الماء وأنتم تصلون محدثين مجنبين وتزعمون أنكم أولياء الله ، وفيكم رسوله فأشفقوا فأنزل الله المطر ، فمطروا ليلا حتى جرى الوادي واتخذوا الحياض على عدوته وسقوا الركاب واغتسلوا وتوضئوا ، وتلبد الرمل الذي بينهم وبين العدو حتى ثبتت عليه الأقدام وزالت الوسوسة . { وليربط على قلوبكم } بالوثوق على لطف الله بهم . { ويثبّت به الأقدام } أي بالمطر حتى لا تسوخ في الرمل ، أو بالربط على القلوب حتى تثبت في المعركة .
لقد أبدع نظم الآيات في التنقل من قصة إلى أخرى من دلائِل عناية الله تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين ، فقَرَنَها ، في قَرَن زمانها ، وجعل ينتقل من إحداها إلى الأخرى بواسطة إذْ الزمانية ، وهذا من أبدع التخلص ، وهو من مبتكرات القرآن فيما أحسب .
ولذلك فالوجه أن يكون هذا الظرف مفعولاً فيه لقوله : { ومَا النصر } [ الأنفال : 10 ] فإن إغشاءهم النعاس كان من أسباب النصر ، فلا جرم أن يكون وقت حُصوله طرفاً للنصر .
والغَشْيُ والغشيان كون الشيء غاشياً أي غاماً ومغطياً ، فالنوم يغطي العَقل .
والنعاسُ النوم غير الثقيل ، وهو مثل السِّنة .
وقرأ نافع ، وأبو جعفرُ : { يُغْشِيكم } ، بضم التحتية وسكون الغين وتخفيف الشين بعدها ياء مضارع أغشاه وبنصب { النعاسَ } والتقدير : إذ يغشيكم الله النعاسَ ، والنعاس مفعول ثاني ليغشي بسبب تعدية الهمزة وقرأه ابنُ كثير ، وأبو عمرو : بفتح التحتية وفتح الشين بعدها ألف ، وبرفع النعاس ، على أن يغشاكم مضارع غشي والنعاس فاعل ، وقرأه الباقون : بضم التحتية وفَتح الغين وتشديد الشين ونصب النعاس ، على أنه مضارع غشاه المضاعف والنعاس مفعول ثان .
فإسناد الإغشاء أو التغشية إلى الله لأنه الذي قدر أن يناموا في وقت لا ينام في مثله الخائف ، ولا يكون عامّاً سائرَ الجيش ، فهو نوم منحهم الله إياه لِفائِدتهم .
وإسناد الغشي إلى النعاس حقيقة على المتعارف وقد علم أنه من تقدير الله بقوله { أمنة منه } .
و ( الأمنة ) الأمن ، وتقدم في آل عمران ، وهو منصوب على المفعول لأجله على قراءة من نصب ( النعاس ) ، وعلى الحال على قراءة من رفع ( النعاس ) .
وإنما كان ( النعاس ) أمناً لهم لأنهم لمّا ناموا زال أثر الخوف من نفوسهم في مدة النوم فتلك نعمة ، ولما استيقظوا وجدوا نشاطاً ، ونشاط الأعصاب يكسب صاحبه شجاعة ويزيل شعور الخوف الذي هو فتور الأعصاب .
وصيغة المضارع في { يُغشيكم } لاستحضار الحالة .
و ( مِنْ ) في قوله : { منه } للابتداء المجازي ، وهو وصف ل ( أمنة ) لإفادة تشريف ذلك النعاس وأنه وارد من جانب القُدس ، فهو لطْف وسكينة ورحمة ربَانية ، ويتأكد به إسناد الإغشاء إلى الله ، على قراءة من نصبوا ( النعاس ) ، تنبيهاً على أنه إسناد مخصوص ، وليس الإسناد الذي يعم المقدورات كلها ، وعلى قراءة من رفعوا ( النعاس ) يكون وصف الأمنة بأنها منه سارياً إلى الغَشي فيعلم أنه غشي خاص قُدسي ، وليس مثل سائِر غشيان النعاس فهو خارق للعادة كان كرامة لهم وقد حصل ذلك للمسلمين يومَ بدر كما هو صريح هذه الآية وحصل النعاس يوم أُحُد لطائفة من الجيش قال تعالى : { ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً يغشى طائفة منكم } وتقدم في سورة آل عمران ( 154 ) ، وفي صحيح البخاري عن أبي طلحة قال : « كنتُ فيمن تَغَشّاه النعاس يومَ أُحُد حتى سَقط سيفي من يدي مراراً » .
وذكر الله مِنةٌ أخرى جاءت في وقت الحاجة : وهي أنه أنزل عليهم المَطر يوم بَدر ، فإسناد هذا الإنزال إلى الله تعالى للتنبيه على أنه أكرمهم به وذلك لكونه نزل في وقت احتياجهم إلى الماء ، ولعله كان في غير الوقت المعتاد فيه نزول الأمطار في أُفُقِهم ، قال أهل السير : كان المسلمون حين اقتربوا من بدر راموا أن يسبقوا جيش المشركين إلى ماء بدر ، وكان طريقهم دَهْساء أي رملاً ليناً ، تسوخ فيه الأرجل فشق عليهم إسراع السير إلى الماء وكانت أرض طريق المشركين ملبدة ، فلما أنزل الله المطر تلبدت الأرض فصار السير أَمكن لهم ، واستوحلتْ الأرض للمشركين فصار السير فيها متعباً ، فأمكن للمسلمين السبق إلى الماء من بدر ونزلوا عليه وادخروا ماء كثيراً من ماء المطر ، وتطهروا وشربوا ، فذلك قوله تعالى : { ليطهّركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان } .
و ( الرجز ) القَذَر ، والمراد الوسخ الحِسي وهو النجس ، والمعنوي المعبر عنه في كتب الفقه بالحَدَث . والمراد الجنابة ، وذلك هو الذي يعم الجيش كله فلذلك قال : { ويذهب عنكم رجز الشيطان } ، وإضافته إلى الشيطان لأن غالب الجيش لما ناموا احتلموا فأصبحوا على جنابة وذلك قد يكون خواطر الشيطان يخيلها للنائِم ليفسد عليه طهارته بدون اختيار طمعاً في تثاقله عن الاغتسال حتى يخرج وقت صلاة الصبح ، ولأن فقدان الماء يلجئهم إلى البقاء في تنجس الثياب والأجساد والنجاسة تلائم طبع الشيطان .
وتقدير المجرور في قوله : { عنكم رجز الشيطان } للرعاية على الفاصلة ، لأنها بنيت على مد وحرف بعده في هذه الآيات والتي بعدها مع ما فيه من الاهتمام بهم .
وقوله : { وليربط على قلوبكم } أي يؤمنّكم بكونكم واثقين بوجود الماء لا تخافون عطشاً وتثبيت الأقدام هو التمكن من السير في الرمل ، بأن لا تسوخ في ذلك الدهس الأرجل ، لأن هذا المعنى هو المناسب حصوله بالمطر .
و ( الربط ) حقيقته شد الوثاق على الشي وهو مجاز في التثبيت وإزالة الاضطراب ومنه قولهم : فُلان رابط الجأش وله رباطة جَأش .