وقوله - سبحانه - { صرفنا } من التصريف بمعنى التنويع والتكرير .
والمثل : هو القول الغريب السائر فى الآفاق الذى يشبه مضربه مورده .
وقد أكثر القرآن من ضرب الأمثال لإِيضاح المعنى الخفى وتقريب الأمر المعقول من الأمر المحسوس ، وعرض الأمر الغائب فى صورة الحاضر .
والمعنى : ولقد كررنا ورددنا ونوعنا فى هذا القرآن من أجل هداية الناس ، ورعاية مصلحتهم ومنفعتهم ، من كل مثل من الأمثال التى تهدى النفوس ، وتشفى القلوب ، لعلهم بذلك يسلكون طريق الحق ، ويتركون طريق الباطل .
فالمقصود بهذه الجملة الكريمة ، الشهادة من الله - تعالى - بأن هذا القرآن الذى أنزله - سبحانه - على نبيه صلى الله عليه وسلم فيه من الأمثال الكثيرة المتنوعة النافعة ، ما يرشد الناس إلى طريق الحق والخير ، متى فتحوا قلوبهم له . وأعملوا عقولهم لتدبره وفهمه .
ومفعول { صرفنا } محذوف ، و " من " لابتداء الغاية ، أى : ولقد صرفنا البينات والعبر والحكم فى هذا القرآن ، من أنواع ضرب المثل لمنفعة الناس ليهتدوا ويذكروا .
ثم بين - سبحانه - موقف الإِنسان من هذه الأمثال فقال : { وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً } .
والمراد بالإنسان : الجنس ، ويدخل فيه الكافر والفاسق دخولا أوليا .
والجدل : الخصومة والمنازعة مع الغير فى مسألة من المسائل .
أى : وكان الإنسان أكثر شئ مجادلة ومنازعة لغيره ، أى : أن جدله أكثر من جدل كل مجادل .
قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية : ولقد بينا للناس فى هذا القرآن ، ووضحنا لهم الأمور ، وفصلناها ، كيلا يضلوا عن الحق . . ومع هذا البيان ، فالإنسان كثير المجادلة والمعارضة للحق بالباطل ، إلا من هدى الله وبصره لطريق النجاة .
قال الإمام أحمد : " حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب . عن الزهرى قال : أخبرنى على بن الحسني ، أن الحسين بن على أخبره ، أن على بن أبى طالب أخبره . أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرق عليا وفاطمة ليلة فقال : " ألا تصليان ؟ " فقلت : يا رسول الله ، إنما أنفسنا بيد الله . . فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا . فانصرف حين قلت ذلك ولم يرفع إلى بشئ ثم سمعته وهو مول يضرب فخذه ويقول : " وكان الإِنسان أكثر شئ جدلا " " .
وفى التعبير عن الإنسان فى هذه الجملة بأنه { شئ } وأنه { أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً } إشعار لهذا الإِنسان بأن من الواجب عليه أن يقلل من غروره وكبريائه . وأن يشعر بأنه خلق من مخلوقات الله الكثيرة ، وأن ينتفع بأمثال القرآن ومواعظه وهداياته . . لا أن يجادل فيها بالباطل .
ومنهم من يرى أن المراد بالإنسان هنا : الكافر ، أو شخص معين ، قيل : هو النضر بن الحارث ، وقيل : أبى بن خلف .
لكن الظاهر أن المراد به العموم - كما أشرنا - ويدخل فيه هؤلاء دخولا أوليا .
يقول تعالى : ولقد بينا للناس في هذا القرآن ، ووضحنا لهم الأمور ، وفصلناها ، كيلا{[18285]} يضلوا عن الحق ، ويخرجوا عن طريق الهدى . ومع هذا البيان وهذا الفرقان ، الإنسان كثير المجادلة والمخاصمة والمعارضة للحق بالباطل ، إلا من هدى الله وبصره لطريق النجاة .
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب ، عن الزهري ، أخبرني علي بن الحسين ، أن حسين بن علي أخبره ، أن علي بن أبي طالب أخبره ، أن رسول الله{[18286]} صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة ، فقال : " ألا تصليان ؟ " فقلت : يا رسول الله ، إنما أنفسنا بيد الله ، فإذا شاء أن يبعثنا بَعَثنا . فانصرف حين قلت ذلك ، ولم يَرْجع إلي شيئًا ، ثم سمعته وهو مولّ{[18287]} يضرب فخذه [ ويقول ]{[18288]} { وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا } أخرجاه في الصحيحين{[18289]} .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولقد صرفنا}، يعني: لوّنا، يعني: وصفنا،
{في هذا القرءان للناس من كل مثل}، من كل شبه في أمور شتى، {وكان الإنسان أكثر شيء جدلا}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول عزّ ذكره: ولقد مثلنا في هذا القرآن للناس من كلّ مثل، ووعظناهم فيه من كلّ عظة، واحتججنا عليهم فيه بكلّ حجة ليتذكّروا فينيبوا، ويعتبروا فيتعظوا، وينزجروا عما هم عليه مقيمون من الشرك بالله وعبادة الأوثان "وكانَ الإنْسانُ أكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً "يقول: وكان الإنسان أكثر شيء مراء وخصومة، لا ينيب لحقّ، ولا ينزجر لموعظة...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ولقد صرفنا} قد ذكرنا وبَيَّنَا في غير موضع.
أحدهما: {من كل مثل} أي من كل صفة كقوله: {وله المثل الأعلى} (الروم: 27) أي الصفات العليا.
والثاني: المثل هو الشبيه كقوله: {ليس كمثله شيء} (الشورى: 11) فإن كان التأويل الشبيه، فكأنه يقول، والله أعلم، {ولقد صرفنا} أي بينا في هذا القرآن {من كل مثل} من كل ما بهم حاجة إلى معرفة ما غاب عنهم؛ جعل لهم شبيها مما شاهدوا أو عرفوا، ليعرفوا به ما غاب عنهم. وإن كان تأويل المثل الصفة فكأنه يقول: ولقد بينا في هذا القرآن من كل ما يؤتى وما يتقى صفة، يعرفون بها ما لهم و ما عليهم، وما يأتون، وما يتقون، والله أعلم.
{وكان الإنسان أكثر شيء جدلا} قال أهل التأويل: {وكان الإنسان} يعني الكافر {أكثر شيء جدلا} أي جدالا كقوله: {ويجادل الذين كفروا بالباطل} (الكهف: 56). ويشبه أن يكون قوله: {وكان الإنسان أكثر شيء جدلا} أي جوهر الإنسان {أكثر شيء جدلا} من غيره من الجواهر، لأن الجن لما عرض عليهم القرآن والآيات قبلوها على غير مجادلة ذكرت حين قالوا: {إنا سمعنا قرءانا عجبا} الآية (الجن: 1) وكذلك الملائكة لم يذكر منهم الجدال ولا المُحَاجَّةُ في ذلك. وقد ظهر (من) جوهر الإنسان المجادلات والمحاجات في الآيات والحجج. من ذلك قوله: {هاأنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم} الآية (آل عمرن: 66) وقوله: {وجادلهم بالتي هي أحسن} النحل: 125) وقوله: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} (العنكبوت: 46) وقوله: {ويجادل الذين كفروا بالباطل} (الكهف: 56) وأمثال هذا. ولذلك احتيج إلى إنزال كثرة الآيات لكثرة ما ظهر منهم من المجادلة، وفيه الإذن بالمجادلة والمُحَاجَّة في الدين على الوصف الذي ذكر، ولله أعلم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
" ولقد صَرَّفْنا في هذا القرآن للناس من كلِّ مَثَلٍ "إخبارٌ من الله تعالى أنه نَقَل المعاني في الجهات المختلفة في هذا القرآن، فتصريفُ المَثَلِ فيه تنقيلُه في وجوه البيان على تمكين الإِفهام... والجدل: شدة الفَتْل عن المذهب بطريق الحِجاج...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أَكْثَرَ شيء جَدَلاً} أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدل إن فصلتها واحداً بعد واحد، خصومة ومماراة بالباطل. وانتصاب {جَدَلاً} على التمييز، يعني: أن جدل الإنسان أكثر من جدل كل شيء. ونحوه: {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} [النحل: 4].
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
المعنى: ولقد خوفنا ورجينا وبالغنا في البيان، وهذا كله بتمثيل وتقريب للأذهان، وقوله: {من كل مثل} أي من كل مثال له نفع في الغرض المقصود بهم، وهو الهداية. وقوله {وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً} خبر مقتضب في ضمنه، فلم ينفع فيهم تصريف الأمثال، بل هم منحرفون يجادلون بالباطل.
وقوله {الإنسان} يريد الجنس... والجدل: الخصام والمدافعة بالقول...
والتصريف يقتضي التكرير، والأمر كذلك لأنه تعالى أجاب عن شبهتهم التي ذكروها من وجوه كثيرة، ومع تلك الجوابات الشافية والأمثلة المطابقة فهؤلاء الكفار لا يتركون المجادلة الباطلة، فقال وكان الإنسان أكثر شيء جدلا...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان الكلام في قوة أن يقال: صرفنا هذه الأخبار بما أشارت إليه من الأسرار الكبار، فقامت دلائل الشريعة الجلائل، وأضاءت بها جواهر المعاني الزواهر، عطف على ذلك: {ولقد صرفنا} أي بما لنا من العظمة. ولما كانت هذه السورة في وصف الكتاب، اقتضى الاهتمام به تقديمه في قوله تعالى: {في هذا القرءان} أي القيم الذي لا عوج فيه، مع جمعه للمعاني ونشره الفارق بين الملبسات {للناس} أي المزلزلين فضلاً عن الثابتين {من كل مثل} أي حوّلنا الكلام وطرقناه في كل وجه من وجوه المعاني وألبسناه من العبارات الرائقة، والأساليب المتناسقة، ما سار بها في غرابته كالمثل، يقبله كل من يسمعه، وتضرب به آباط الإبل في سائر البلاد، بين العباد، فتبشر به قلوبهم، وتلهج به ألسنتهم، فلم يتقبلوه وجادلوا فيه؛ ثم نبه على الوصف المقتضي لذلك بقوله تعالى: {وكان الإنسان} الذي جعل خصيماً وهو آنس بنفسه جبلة وطبعاً {أكثر شيء} وميز الأكثرية بقوله تعالى: {جدلاً} لأنه لم ينته عن الجدل بعد هذا البيان، الذي أضاء جميع الأكوان...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا} أي كرَّرْنا وأوردْنا على وجوه كثيرةٍ من النظم {في هذا القرآن لِلنَّاسِ} لمصلحتهم ومنفعتِهم {مِن كُلّ مَثَلٍ} من جملته ما مَرَّ مِن مَثَل الرجلين ومثَل الحياةِ الدنيا أو من كل نوعٍ من أنواع المعاني البديعةِ الداعيةِ إلى الإيمان... {أَكْثَرَ شَيء جَدَلاً}... والمجادَلةُ الملاواةُ لأن كلاًّ من المجادِلَين يلتوي على صاحبه...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
{مِن كُلّ مَثَلٍ}... فالمراد من المَثَلِ إما معناه المشهور أو الصفةُ الغريبة التي هي في الحُسْن واستجلابِ النّفْس كالمَثَل، والمراد أنه تعالى نَوَّعَ ضَرْبَ الأمثال وذَكَر الصفاتِ الغريبة وذَكر من كل جنسٍ محتاجٍ إليه داعٍ إلى الإيمان نافعٍ لهم مَثلاً لا أنه سبحانه ذَكر جميعَ أفراد الأمثال، وكأن في الآية حذفاً أو هي على معنى ولقد فعلنا ذلك ليقبلوا فلم يفعلوا...
{وَكَانَ الإنسان}... {أَكْثَرَ شيء جَدَلاً}... والمعنى أن جدل الإنسان أكثرُ من جدلِ كل مجادلٍ وعُلِّل بسعةٍ مضطرِبةٍ فإنه بين أوْجِ الملكية وحضيضِ البهيمية فليس له في جانبي التصاعد والتسفُّل مقامٌ معلومٌ...
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
في القرآن من الأمثال ما فيه مَقْنَعٌ لمن تذكَّر وتدبَّر وألقَى السمعَ وهو شهيدٌ، لكنها القلوب قد تحجّرتْ، والأفئدة قد قَسَتْ، فلا تنفع فيها الذكرى، ولا تستجيب لوعظ الواعظ، ونصيحةِ المذكِّر، ولو آخَذَهم ربُّهم بما كَسبوا لأرسل عليهم العذابَ مُعَجَّلًا، ولم يُبْقِ منهم على ظَهْر الأرض أحداً، ولكنه الغفور ذو الرحمة، فجَعل لهلاكهم مَوعِداً، لعلهم يثوبون إلى رشدهم، ويَرْعَوُونَ عن غَيِّهم...
{وكان الإنسان أكثر شيء جدلا}... إن جدل الإنسان أكثر من جدل كل مجادل، لِما أُوتِيَه من سعة الحيلة وقوةِ المعارضة، واختلافِ النزعات والأهواء، وقوة العزيمة إلى غير حدٍّ؛ فلو اتَّجه إلى سُبُل الخير، وتاقت نفسه إلى سلوك طريقه، ارتقى إلى حظيرة الملائكة، ولو نَزَعتْ نفسُه إلى اتباع وساوس الشيطان، انحَطَّ إلى الدَّرَك الأسفل ولحِق بأنواع الحيوان، يفعل ما يشاء، غيرَ مقيَّدٍ بوازعٍ من الدين، ولا زِمامٍ من العقل وصادقِ العزيمة...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} يخبر الله تعالى عن عظمة القرآن، وجلالته، وعمومه، وأنه صَرَّف فيه من كلّ مَثَلٍ، أي: من كلِّ طريقٍ موصِلٍ إلى العلوم النافعة، والسعادة الأبدية، وكلِّ طريقٍ يَعْصِم من الشر والهلاك، ففيه أمثالُ الحلال والحرام، وجزاءُ الأعمال، والترغيبُ والترهيبُ، والأخبارُ الصادقة النافعة للقلوب، اعتقادا، وطمأنينةً، ونورا، وهذا مما يوجِب التسليمَ لهذا القرآن وتَلَقِّيَه بالانقياد والطاعة، وعدمَ المنازَعة له في أمرٍ من الأمور، ومع ذلك، كان كثيرٌ من الناس يجادلون في الحقّ بعد ما تَبَيَّنَ، ويجادلون بالباطل... {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا}... والذي أوجب له ذلك وعدمَ الإيمان بالله، إنما هو الظلم والعناد، لا لِقصورٍ في بيانه وحجته، وبرهانه، وإلا فلو جاءهم العذاب، وجاءهم ما جاء قبلهم، لم تكن هذه حالهم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولقد كان لهم عنها مصرف، لو أنهم صرفوا قلوبهم من قبل للقرآن، ولم يجادلوا في الحق الذي جاء به، وقد ضرب الله لهم فيه الأمثال ونوعها لتشمل جميع الأحوال: (ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل، وكان الإنسان أكثر شيء جدلا).. ويعبر السياق عن الإنسان في هذا المقام بأنه (شيء) وأنه أكثر شيء جدلا. ذلك كي يطامن الإنسان من كبريائه، ويقلل من غروره، ويشعر أنه خلق من مخلوقات الله الكثيرة. وأنه أكثر هذه الخلائق جدلا. بعد ما صرف الله في هذا القرآن من كل مثل...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
يتجه هنا أن يُسأل لم قُدم في هذه الآية أحد متعلِقي فعل التصريف على الآخر إذ قدم هنا قوله: {في هذا القرآن} على قوله: {للناس} عكس آية سورة الإسراء. وهو ما أشرنا إليه عند الآية السابقة من أن ذكر القرآن أهم من ذكر الناس بالأصالة، ولا مقتضي للعدول عنه هنا بل الأمر بالعكس لأن الكلام جار في التنويه بشأن القرآن وأنه ينزل بالحق لا بهوى الأنفس. والناس: اسم عام لكل من يبلغه القرآن في سائر العصور المستقبلة، والمقصود على الخصوص المشركون، كما دل عليه جملةُ {وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً}، فوزانه وزان قوله: {ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا} [الإسراء: 89]، وسيجيئ قوله: {ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق} [الكهف: 56]. وهذا يشبه العام الوارد على سبب خاص وقرائن خاصة... وجملة {وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً} تذييل، وهو مؤذن بكلام محذوف على وجه الإيجاز، والتقدير: فجَادلوا فيه وكان الإنسان أكثر جدلاً، فإن الإنسان اسم لنوع بني آدم، وحرف (ال) فيه لتعريف الحقيقة فهو أوسع عموماً من لفظ الناس. والمعنى: أنهم جادلوا. والجدال: خلق، منه ذميم يصد عنه تأديب الإسلام ويبقى في خلق المشركين، ومنه محمود كما في قوله تعالى: {فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط إن إبراهيم لحليم أواه منيب} [هود: 74 75]، فأشار بالثناء على إبراهيم إلى أن جداله محمود. وليس المراد بالإنسان الإنسان الكافر كما في قوله تعالى: {يقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حياً} [مريم: 66] ولا المراد بالجدل الجدل بالباطل، لأن هذا سيجيئ في قوله تعالى: ويجادل الذين كفروا بالباطل} الآية، فقوله هنا: {وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً} تمهيد لقوله بعده {ويجادل الذين كفروا بالباطل} [الكهف: 56]. و (شيء) اسم مفرد متوغل في العموم. ولذلك صحت إضافة اسم التفضيل إليه، أي أكثر الأشياء. واسم التفضيل هنا مسلوب المفاضلة مثل قوله: {رب السجن أحب إليَّ مما يدعونني إليه} [يوسف: 33]، وإنما أتي بصيغته لقصد المبالغة في شدة جدل الإنسان وجنوحه إلى المماراة والنزاع حتى فيما تَرْك الجدال في شأنه أحسن، بحيث إن شدة الوصف فيه تشبه تفوقه في الوصف على كل من يعرض أنه موصوف به. وإنما ألجئنا إلى هذا التأويل في اسم التفضيل لظهور أن غير الإنسان من أنواع ما على الأرض لا يتصور منه الجَدل. فالجدل خاص بالإنسان لأنه من شُعب النطق الذي هو فَصْل حقيقة الإنسانية، أما الملائكة فجدلهم محمود مثل قولهم: أتجعل فيها من يفسد فيها إلى قوله: {ونقدس لك} [البقرة: 30]. وأما الشياطين فهم أكثر جدلاً من الإنسان، ولكن لما نبا المقام عن إرادتهم كانوا غير مرادين بالتفضيل عليهم في الجدل...
والمراد هنا مطلق الجدل وبخاصة ما كان منه بباطل، أي أن كل إنسان في طبعه الحرص على إقناع المخالف بأحقية معتقده أو عمله. وسياق الكلام يقتضي إرادة الجدل الباطل...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
الصَّرْفُ: الرَّدُّ من حالٍ إلى حالٍ، والتصريف هو التحويل من حالٍ إلى حالٍ، وتصريف القرآن الكريم هو ما اشتمل عليه من أساليب البيان والموعظة والاعتبار وبيان الأحكام والقصص والعبر، وإيجاز وإطناب من غير فضول أو تطويل، وزجر وترغيب وترهيب، فمعنى قوله تعالى: {ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل}، أي مِنْ كلّ حالٍ من أحوال الهداية والرحمةِ وشفاءِ الصدور مما يَجعل الحقَّ واضحا بين أيديهم، فأتى سبحانه فيه بضُروب البيان والمعرفة والهداية مما لم يَجعل موضعا لرِيبةِ مُرتابٍ، أو مِراءٍ من القول، ولكن الكافرين أثاروا القولَ حوله فمَرّةً قالوا: إنه سِحْرٌ وأخرى قالوا إنه شِعْرٌ،، وثالثةً قالوا: أساطيرُ الأوَّلِين، ورابعةً قالوا عَلَّمَهُ بَشَرٌ، وهكذا كانت لهم أقوالٌ باطلة فيه بمقدارِ ما تثيره أهواؤُهم، ويثير جدلهم.. وإن الجدل من شأنه أن يضيع الحقائقَ بين المتجادِلين، وأن تتبعثر الحقائقُ على الأفواه، فلا يُضْبَط قولٌ، ولا يستقيم فِكْرٌ، ولذلك كان العلماء الربانيون يَنْهَوْنَ عن الجدل، وأشدُّ مَنْ عُرِفَ بذلك الإمامُ مالكٌ، لأن مَثاراتِ الجدلِ هي مثاراتُ الشيطانِ، وإن الناس دائما يثيرون الجدل حول رسالات المرسلين، ولا يَقْطَعُ جدلَهم إلا أن يأتيَهم الهلاكُ أو العذابُ...
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
في الآية الأولى تقرير تنديدي بطبيعة الإنسان الجدلية والمِرائية. فإن الله قد ضمن القرآن أنواع الأمثال وقلب فيه وجوه الكلام لتذكير الناس وإنذارهم، ولكن طبيعة الجدل الغالبة في البشر تتحكم فيهم فتحول دون ارعوائهم وتذكرهم...
وفي هذه الآية يمكن أن تكون تعقيبية على الآيات السابقة، كما يمكن أن تكون مقدمة للآيات التي بعدها، ونحن نرجح هذا؛ لأن الآيات التي جاءت بعدها ذكرت مجادلة الكفار بالباطل لدحض الحق تعنتا ومكابرة ولذلك جعلناها معها.
والحقُّ سبحانه يَضرِب الأمثال كأنه يَقْرَعُ بها آذانَ الناس لأمرٍ قد يكون غائباً عنهم، فيُمَثِّلُه بأمرٍ واضحٍ لهم محسٍّ ليتفهَّموه تفهُّماً دقيقاً...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وذلك بالأسلوب القرآني المتنوّع الذي يعبر عن الفكرة بأكثر من طريقة، ويواجه الواقع الإنساني بأكثر من فكرة، ويحرِّك الفكر في أكثر من موقع… لينفتح على الحقيقة من كل جانب، فيهتدي بها من خلال استعمال وسائل الهداية التي أودعها الله في شخصيته من السمع والبصر والعقل… في ما أراد الله له أن يحرّكها بطريقة واعية منفتحة. فليست هناك مشكلةٌ في طبيعة الأسلوب القرآني الذي يطرح الفكرة، ليكون للإنسان العذر في ضلاله، بأنه لا يملك الوضوح الذي يؤدي به إلى الإيمان، بل المشكلة في طبيعة العقدة التي يعيشها الإنسان الذي يستسلم لنوازعه الذاتية في التمرُّد والانحراف، لئلاّ يغيّر عاداته أو أفكاره، ولئلا يدخل في الأجواء الرسالية التي تثير في داخله الإحساس بالمسؤولية، وهو ما يمكن أن يتعب جسده، أو يبعده عن مواقع الراحة واللهو والاسترخاء في حياته... ولذلك فإنه يلجأ إلى الهروب من مواجهة الحقيقة الواضحة، بالالتفاف عليها بطريقة الجدل الكلامي الفارغ الذي يثير الغبار في وجهها، ولكنه لا يستطيع أن يحجبها عن العقول. {وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيءٍ جَدَلاً} في ما تعنيه هذه الكلمة من الدخول في المنازعات والمشاجرات التي تريد أن تملأ الجوّ بالكلام، وتشغله بالبحث في القضايا الصغيرة الجانبيّة، ليبتعد الناس عن الارتباط بالمسائل الكبيرة في حركة العقيدة والحياة، ولينصرفوا عن التفكير فيها بطريقةٍ علميةٍ موضوعيةٍ، عندما تستهلك الهوامش الفكرية كل جهدهم، فيأتون إلى المسألة الحاسمة بجهد مثقلٍ بالتعبٍ، وروحٍ فارغةٍ من القوّة، وإرادةٍ متعبةٍ من الخلاف... وهكذا تضيع الحقيقة في غمار الجدل، ويبتعد الإنسان عن العمق، فلا يلتقي بحقائق العقيدة إلا من خلال ستارٍ كثيفٍ من المشاعر المتوترة، والذهنيات المعقّدة، والكلام الفارغ...