ثم بين - سبحانه - صنفا آخر غير هؤلاء المسالمين ، وهم قوم من المنافقين المخادعين ، الذين لا يضمرون للمؤمنين إلا شرا ، ولا يمدون أيديهم إلى أهل الحق إلا بالسوء فقال - تعالى - : { سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا ردوا إِلَى الفتنة أُرْكِسُواْ فِيِهَا } .
أى : ستجدون - أيها المؤمنون - قوما من المنافقين آخرين غير الذين وصفتهم لكم ، { يُرِيدُونَ } بإظهارهم للإِسلام { أَن يَأْمَنُوكُمْ } على أنفسهم ، ويريدون بإظهارهم للكفر { أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ } من الأذى ، ومن صفات هؤلاء المخادعين أنهم { كُلَّ مَا ردوا إِلَى الفتنة أُرْكِسُواْ فِيِهَا } أى : كلما دعوا إلى الردة وإلى العصبية البغيضة وقعوا فيها أشنع وقوع ، وزجعوا إليها منكوسين على رءوسهم .
قال ابن جرير : عن مجاهد قال : هم ناس كانوا يأتون النبى صلى الله عليه وسلم فيسلمون رياء ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون فى الأوثان . يبتغون بذلك أن يأمنا ههنا وههنا ، فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا .
ثم بين - سبحانه - ما يجب على المؤمنين نحو هؤلاء المنافقين المخادعين فقال : { فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ ويلقوا إِلَيْكُمُ السلم ويكفوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ واقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وأولئكم جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً } .
أى : أن هؤلاء المنافقين إن لم يعتزلوا قتالكم والتعرض لكم بسوء ، ويلقوا إليكم الأمان والانقياد ، ويمتنعوا عن العدوان عليكم ، إن لم يفعلوا ذلك فخذوهم أسرى ، واقتلوهم حيث { ثَقِفْتُمُوهُمْ } أى : وجدتموهم وظفرتم بهم . يقال ثقفت الرجل فى الحرب اثقفه ، إذا أدركته وظفرت به وقوله { وأولئكم جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً } أى أولئك الذين وصفتهم لكم جعل الله لكم حجة واضحة فى أخذهم وقتلهم ، بسبب ظهور عداوتهم ، وانكشاف غدرهم ، وتذبذبهم بين الإِسلام والكفر تبعا لشهوات نفوسهم المريضة .
هذا ، والمتأمل فى هذه الآيات الأربعة الكريمة يراها قد رسمت للمؤمنين كيف تكون علاقتهم بغيرهم من المنافقين والمشركين .
فهى تأمرهم - أولا - بأن يقفوا من المنافقين الذين أركسهم الله بما كسبوا صفا واحدا ورأيا واحدا ، فلا يدافعون عنهم ولا يحسنون الظن بهم ، ولا يولونهم ولا يستعينون بهم ، حتى يهاجروا فى سبيل الله ، فإن امتنعوا عن الهجرة حل أخذهم وقتلهم .
وتأمرهم - ثانياً - بأن يسالموا - إلى حين - قوما التجأوا إلى قوم بينهم وبين المسلمين عهد وأمان ، وأن يسالموا كذلك أولئك الذين يأتون إليهم وهم يكرهون قتالهم أو قتال قومهم ، وأظهروا الانقياد والاستسلام للمؤمنين .
وتأمرهم - ثالثا - بأن يأخذوا ويقتلوا أولئك المتلاعبين بالعقيدة والدين ولذين بلغ بهم الغدر والخداع أنهم إذا قدموا المدينة أظهروا الإِسلام ، فإذا ما عادوا إلى مكة أو إلى قومهم أظهروا الكفر ، وكانوا مع قومهم ضد المسلمين .
وإنها لتوجيهات حكيمة تبصر المؤمنين بما يجب عليهم نحو غيرهم من الناس الذين يخالفونهم فى عقيدتهم .
وبعد هذا الحديث الحكيم الذى بين الله - تعالى - فيه أحوال المنافقين ، وصفاتهم الذميمة ، وموقف المؤمنين ممن يخالفونهم فى العقيدة ، بعد كل ذلك أخذت السورة الكريمة فى بيان حكم القتل الخطأ ، وحكم القتل العمد فقال - تعالى - : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ . . . عَذَاباً عَظِيماً } .
وقوله : { سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ [ كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا ]{[7984]} } الآية ، هؤلاء في الصورة الظاهرة كمن تقدمهم ، ولكن نية هؤلاء غير نية أولئك ، فإن هؤلاء منافقون يظهرون للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه الإسلام ؛ ليأمنوا بذلك عندهم على دمائهم وأموالهم وذراريهم ويصانعون الكفار في الباطن ، فيعبدون معهم ما يعبدون ، ليأمنوا بذلك عندهم ، وهم في الباطن مع أولئك ، كما قال تعالى : { وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ [ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ]{[7985]} } [ البقرة : 14 ] وقال هاهنا : { كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا } أي : انهمكوا فيها .
وقال السدّي : الفتنة هاهنا : الشرك . وحكى ابن جرير ، عن مجاهد : أنها نزلت في قوم من أهل مكة ، كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون رياء ، ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان ، يبتغون بذلك أن يأمنوا هاهنا وهاهنا ، فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا ؛ ولهذا قال تعالى : { فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ } أي : عن القتال { فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ } أي : أين لقيتموهم { وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا } أي : بيِّنا واضحا .
{ ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم } هم أسد وغطفان ، وقيل بنو عبد الدار أتوا المدينة وأظهروا الإسلام ليأمنوا المسلمين فلما رجعوا كفروا . { كل ما ردوا إلى الفتنة } دعوا إلى الكفر وإلى قتال المسلمين .
{ أركسوا فيها } عادوا إليها وقلبوا فيها أقبح قلب . { فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم } وينبذوا إليكم العهد . { ويكفوا أيديهم } عن قتالكم . { فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم } حيث تمكنتم منهم فإن مجرد الكف لا يوجب نفي التعرض .
{ وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا } حجة واضحة في التعرض لهم بالقتل والسبي لظهور عداوتهم ووضوح كفرهم وغدرهم ، أو تسلطا ظاهرا حيث أذنا لكم في قتلهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.