وقوله : { الذين يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثم والفواحش إِلاَّ اللمم . . } صفة لقوله : { الذين أَحْسَنُواْ } أو بدل منه .
والمراد بكبائر الإثم : الآثام الكبيرة ، والجرائم الشديدة ، التى يعظم العقاب عليها . كقتل النفس بغير حق ، وأكل أموال الناس بالباطل .
والفواحش : جمع فاحشة ، وهى ما قبح من الأقوال والأفعال كالزنا ، وشرب الخمر . .
وعطفها على كبائر الإثم من باب عطف الخاص على العام ، لأنها أخص من الكبائر ، وأشد إثما .
واللم : ما صغر من الذنوب ، وأصله : ما قل قدره من كل شىء : يقال : ألم فلان بالمكان ، إذا قل مكثه فيه . وألم بالطعام : إذا قل أكله منه . . . وقيل : اللمم ، مقاربة الذنب دون الوقوع فيه ، من قولهم : ألم فلان بالشىء ، إذا قاربه ولم يخالطه .
وجمهور العلماء على أن الاستثناء هنا منقطع ، وأن اللمم هو الذنوب الصغيرة ، كالنظرة الخائنة ولكن بدون مداومة ، والإكثار من الممازحة .
قال الإمام ابن كثير ما ملخصه : " واللمم " : صغائر الذنوب ، ومحقرات الأعمال ، وهذا استثناء منقطع .
قال الإمام أحمد : عن ابن عباس - رضى الله عنهما - قال : ما رأيت شيئا أشبه باللمم ، مما قال أبو هريرة ، عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا ، أدرك ذلك لا محالة ، فزنا العين النظر ، وزنا اللسان النطق ، والنفس تتمنى وتشتهى ، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه " .
وعن مجاهد أنه قال فى هذه الآية { إِلاَّ اللمم } الذى يلم بالذنب ثم يدعه ، كما قال الشاعر :
إن تغفر اللهم تغفر جما . . . وأى عبد لك ما ألما
ومن العلماء من يرى أن الاستثناء هنا متصل ، وأن المراد باللمم ارتكاب شىء من الفواحش ، ثم التوبة منها توبة صادقة نصوحا . .
فعن الحسن أنه قال : اللمم من الزنا أو السرقة أو شرب الخمر ، ثم لا يعود .
ويبدو لنا أن الرأى الأول أقرب إلى الصواب ، لأن العلماء قسموا الذنوب إلى كبائر وصغائر ، وأن اللمم من النوع الثانى الذى لا يدخل تحت كبائر الإثم والفواحش .
قال صاحب الكشاف : واللمم : ما قل وصغر . . . والمراد به الصغائر من الذنوب ، ولا يخلو قوله - تعالى - { إِلاَّ اللمم } فتح الباب لارتكاب صغائر الذنوب ، وإنما المقصود فتح باب التوبة ، والحض على المبادرة بها ، حتى لا ييأس مرتكب الصغائر من رحمة الله - تعالى - وحتى لا يمضى قدما في ارتكاب هذه الصغائر ، إذ من المعروف أن ارتكاب الصغائر ، قد يجر إلى ارتكاب الكبائر .
كذلك من المقصود بهذا الاستثناء أن لا يعامل مرتكب الصغائر ، معاملة مرتكب الكبائر .
هذا ، وقد أفاض الإمام الألوسى فى الحديث عن الكبائر والصغائر ، فقال : والاية عند الأكثرين دليل على أن المعاصى منها الكبائر ، ومنها الصغائر . . .
وأنكر جماعة من الأئمة هذا الانقسام ، وقالوا : سائر المعاصى كبائر .
ثم قال : واختلف القائلون بالفرق بين الكبائر والصغائر فى حد الكبيرة فقيل : هى كل ما لحق صاحبها عليها بخصوصها وعيد شديد ، بنص كتاب أو سنة . . .
وقيل : كل جرمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ، ورقة الديانة .
واعتمد الواحدى أنه لا حد لها يحصرها ويعرفها العباد به ، وقد أخفى الله - تعالى - أمرها ليجتهدوا فى اجتناب المنهى عنه ، رجاء أن تجتنب الكبائر . .
وقوله - سبحانه - : { إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المغفرة . . } تعليل لاستثناء اللمم ، وتنبيه على أن إخراجه عن حكم المؤاخذة ، ليس لخلوه عن الذنب فى ذاته ، بل لسعة رحمة الله ومغفرته .
أى : إن ربك - أيها الرسول الكريم - واسع المغفرة والرحمة ، لعباده الذين وقعوا فيما نهاهم عنه - سبحانه - ثم تابوا إليه توبة صادقة نصوحا .
ثم بين - سبحانه - أن هذه الرحمة الواسعة ، صادرة عن علم شامل للظواهر والبواطن ، فقال : { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ . . } .
والظرف " إذ " متعلق بقوله { أَعْلَمُ } والأجنة : جمع جنين ، ويطلق على ما يكون بداخل الأرحام قبل خروجه منها .
وسمى بذلك ، لأنه يكون مستترا فى داخل الرحم ، كما قال - تعالى - : { يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ . . . } أى : هو - سبحانه - أعلم بكم من وقت إنشائه إياكم من الأرض ، ضمن خلقه لأبيكم آدم ، ومن وقت أن كنتم أجنة فى بطون أمهاتكم ، يعلم أطواركم فيها ، ويرعاكم برحمته ، إلى أن تنفصلوا عنها .
وقال - سبحانه - { فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } مع أن الجنين لا يكون إلى فى بطن أمه ، للتذكير برعايته - تعالى - لهم ، وهم فى تلك الأطوار المختلفة من وقت العلوق إلى حين الولادة ، وللحض على مداومة شكره وطاعته .
وقوله - تعالى - : { فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى } تحذير من التفاخر بالأعمال والأحساب والأنساب ، لأنه - سبحانه - لا يخفى عليه شىء من أحوال الناس ، والفاء للتفريع على ما تقدم . أى : إذا كان الأمر كما ذكرت لكم من عدم مؤاخذتى إياكم على اللمم ، فإن ذلك بسبب سعة رحمتى ، فلا تمدحوا أنفسكم بأنكم فعلتم كذا وكذا من الأفعال الحسنة ، بل اشكرونى على سعة رحمتى ومغفرتى ، فإنى أنا العليم بسائر أحوالكم ، الخبير بالظواهر والبواطن للأتقياء والأشقياء .
قالوا : والآية نزلت فى قوم من المؤمنين ، كانوا يعملون أعمالا حسنة ، ثم يتفاخرون بها .
قال صاحب الكشاف : قوله : { فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ . . } أى فلا تنسبوها إلى زكاء العمل ، وزيادة الخير . وعمل الطاعات ، أو إلى الزكاء والطهارة من المعاصى ، ولا تثنوا عليها واهضموها فقد علم الله الزكى منكم والتقى أولا وآخرا ، قبل أن يخرجكم من صلب آدم ، وقبل أن تخرجوا من بطون أمهاتكم .
وهذا إذا كان على سبيل الإعجاب أو الرياء ، فأما من اعتقد أن ما عمله من العمل الصالح ، من الله وبتوفيقه وتأييده . ولم يقصد به التمدح ، لم يكن من المزكين لأنفسهم ، لأن المسرة بالطاعة طاعة ، وذكرها شكر لله - تعالى - .
وقال الآلوسى : والمراد النهى عن تزكية السمعة أو المدح للدنيا ، أو التزكية على سبيل القطع ، وأما التزكية لإثبات الحقوق ونحوه - كالإخبار عن أحوال الناس بما يعلم منهم وجربوا فيه من ثقة وعدالة فهى جائزة .
وقال هاهنا : { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ } . وهذا استثناء منقطع ؛ لأن اللمم من صغائر الذنوب ومحقرات الأعمال .
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر{[27679]} عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : ما رأيت شيئًا أشبه باللمَم مما قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " إن الله تعالى كتب على ابن آدم حظه من الزنا ، أدرك ذلك لا محالة ، فَزِنَا العين النظر ، وزنا اللسان النطق ، والنفس تَمنَّى وتَشْتَهِي ، والفرج يُصدِّق ذلك أو يُكَذِّبه " .
أخرجاه في الصحيحين ، من حديث عبد الرزاق ، به{[27680]} .
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن{[27681]} ثور حدثنا مَعْمَر ، عن الأعمش ، عن أبي الضُّحَى ؛ أن ابن مسعود قال : " زنا العينين النظر ، وزنا الشفتين التقبيل ، وزنا اليدين البطش ، وزنا الرجلين المشي ، ويُصدّق ذلك الفرج أو يُكَذِّبه ، فإن تقدم بفرجه كان زانيا ، وإلا فهو اللَّمَم " {[27682]} . وكذا قال مسروق ، والشعبي .
وقال عبد الرحمن بن نافع - الذي يقال له : ابن لبابة الطائفي - قال : سألت أبا هريرة عن قول الله : { إِلا اللَّمَمَ } قال : القُبلة ، والغمزة ، والنظرة ، والمباشرة ، فإذا مس الختانُ الختانَ فقد وجب الغسل ، وهو الزنا .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { إِلا اللَّمَمَ } إلا ما سلف . وكذا قال زيد بن أسلم .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن المثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن مجاهد أنه قال : في هذه الآية : { إِلا اللَّمَمَ } قال : الذي يلم بالذنب ثم يَدَعه ، قال الشاعر :
إنْ تَغْفِر اللهُمّ تغفر جَمّا *** وَأيّ عَبْد لَكَ مَا أَلَمَّا? !
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قول الله : { إِلا اللَّمَمَ } قال : الرجل يلم بالذنب ثم ينزع عنه ، قال : وكان أهل الجاهلية يطوفون بالبيت وهم يقولون :
إن تغفر اللهم تغفر جما *** وأي عبد لك ما ألما? !
وقد رواه ابن جرير وغيره مرفوعا {[27683]} .
قال ابن جرير : حدثني سليمان بن عبد الجبار ، حدثنا أبو عاصم ، حدثنا زكريا بن إسحاق ، عن عمرو بن دينار ، عن عطاء ، عن ابن عباس : { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ } قال : هو الرجل يلم بالفاحشة ثم يتوب وقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
إن تغفر اللهم تغفر جما *** وأي عبد لك ما ألما? !
وهكذا رواه الترمذي ، عن أحمد بن عثمان أبي{[27684]} عثمان البصري ، عن أبي عاصم النبيل . ثم قال : هذا حديث حسن صحيح غريب ، لا نعرفه إلا من حديث زكريا بن إسحاق . وكذا قال البزار : لا نعلمه يُروى متصلا إلا من هذا الوجه . وساقه ابن أبي حاتم والبغوي من حديث أبي عاصم النبيل ، وإنما ذكره البغوي في تفسير سورة " تنزيل " وفي صحته مرفوعا نظر {[27685]} .
ثم قال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الله بن بَزِيع ، حدثنا يزيد بن زُرَيْع ، حدثنا يونس ، عن الحسن ، عن أبي هريرة - أراه رفعه - : { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ } قال : " اللمة من الزنا ثم يتوب ولا يعود ، واللمة من السرقة ثم يتوب ولا يعود ، واللمة من شرب الخمر ثم يتوب ولا يعود " ، قال : " ذلك{[27686]} الإلمام " {[27687]} .
وحدثنا ابن بشار ، حدثنا ابن أبي عَديّ ، عن عوف ، عن الحسن في قول الله : { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ } قال : اللمم من الزنا أو السرقة أو شرب الخمر ، ثم لا يعود .
وحدثني يعقوب ، حدثنا ابن عُلَيَّةَ ، عن أبي رَجاء ، عن الحسن في قول الله : { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ } قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون : هو الرجل يصيب اللمة من الزنا ، واللمة من شرب الخمر ، فيجتنبها ويتوب منها .
وقال ابن جرير{[27688]} ، عن عطاء ، عن ابن عباس : { إِلا اللَّمَمَ } يلم بها في الحين . قلت : الزنا ؟ قال : الزنا ثم يتوب .
وقال ابن جرير أيضا : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا ابن عُيَيْنَة ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : { اللَّمَمَ } الذي يلم المرَّةَ .
وقال السدي : قال أبو صالح : سئلت عن { اللَّمَمَ } فقلت : هو الرجل يصيب الذنب ثم يتوب . وأخبرت بذلك ابن عباس فقال : لقد أعانك عليها مَلَك كريم . حكاه البغوي .
وروى ابن جرير من طريق المثنى بن الصباح - وهو ضعيف - عن عمرو بن شعيب ؛ أن عبد الله بن عمرو قال : { اللَّمَمَ } : ما دون الشرك .
وقال سفيان الثوري ، عن جابر الجُعفي ، عن عطاء ، عن ابن الزبير : { إِلا اللَّمَمَ } قال : ما بين الحدين : حد الدنيا {[27689]} وعذاب الآخرة . وكذا رواه شعبة ، عن الحكم ، عن ابن عباس ، مثله سواء .
وقال العَوْفِيّ ، عن ابن عباس في قوله : { إِلا اللَّمَمَ } كل شيء بين {[27690]} الحدين : حد الدنيا {[27691]} وحد الآخرة ، تكفره الصلوات ، وهو {[27692]} اللمم ، وهو دون كل موجب ، فأما حد الدنيا فكل حد فرض الله عقوبته في الدنيا ، وأما حد الآخرة فكل شيء ختمه الله بالنار ، وأخَّر عقوبته إلى الآخرة . وكذا قال عكرمة ، وقتادة ، والضحاك .
وقوله : { إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ } أي : رحمته وَسِعَت كل شيء ، ومغفرته تَسَع الذنوب كلها لمن تاب منها ، كقوله : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [ الزمر : 53 ] .
وقوله : { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْض } أي : هو بصير بكم ، عليم بأحوالكم وأفعالكم وأقوالكم التي تصدر{[27693]} عنكم وتقع منكم ، حين أنشأ أباكم آدم من الأرض ، واستخرج ذريته من صلبه أمثال الذَّر ، ثم قسمهم فريقين : فريقا للجنة وفريقا للسعير{[27694]} . وكذا قوله : { وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } قد كتب الملك الذي يُوَكَّل به رزقَه وأجَلَه وعمله ، وشقي أم سعيد .
قال مكحول : كنا أجنة في بطون أمهاتنا ، فسقط منا من سقط ، وكنا فيمن بقي ، ثم كنا مراضع فهلك منا من هلك . وكنا فيمن بقي ثم صرنا يَفَعَةً ، فهلك منا من هلك . وكنا فيمن بقي ثم صرنا شبابًا فهلك منا من هلك . وكنا فيمن بقي ثم صرنا شيوخا - لا أبا لك - فماذا بعد هذا ننتظر ؟{[27695]} رواه ابن أبي حاتم عنه .
وقوله : { فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ } أي : تمدحوها وتشكروها وتمنوا بأعمالكم ، { هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } ، كما قال : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا } [ النساء : 49 ] .
وقال مسلم في صحيحه : حدثنا عَمْرو الناقد ، حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا الليث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن محمد بن عمرو بن عطاء قال : سميت ابنتي بَرّةَ ، فقالت لي زينب بنت أبي سلمة : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا الاسم ، وسميت بَرَّة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تزكوا أنفسكم ، إن الله أعلم بأهل البر منكم " . فقالوا : بم نسميها ؟ قال : " سموها زينب " {[27696]} .
وقد ثبت أيضا في الحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال : حدثنا عفان ، حدثنا وهيب ، حدثنا خالد الحَذَّاء ، عن عبد الرحمن بن أبي بكْرَة ، عن أبيه قال : مدح رَجُلٌ رجلا عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ويلك ! قطعت عُنُقَ صاحبك - مرارًا - إذا كان أحدكم مادحا صاحبه لا محالة فليقل : أحسب فلانا - والله حسيبه ، ولا أزكي على الله أحدا - أحسبه كذا وكذا ، إن كان يعلم ذلك " {[27697]} .
ثم رواه عن غُنْدَر ، عن شعبة ، عن خالد الحذاء ، به . وكذا رواه البخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، وابن ماجه ، من طرق ، عن خالد الحذاء ، به{[27698]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، وعبد الرحمن قالا حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن همام بن الحارث قال : جاء رجل إلى عثمان فأثنى عليه في وجهه ، قال : فجعل المقداد بن الأسود يحثو في وجهه التراب ويقول : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقينا المداحين أن نحثو في وجوههم التراب .
ورواه مسلم وأبو داود من حديث الثوري ، عن منصور ، به {[27699]} .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم نعت المتقين. فقال: {الذين يجتنبون كبائر الإثم} يعني كل ذنب يختم بالنار {والفواحش} يعني كل ذنب فيه حد {إلا اللمم} يعني ما بين الحدين.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"وَلِلّهِ "مُلك "ما في السّمَوَاتِ وَما فِي الأرْضِ" من شيء، وهو يضلّ من يشاء، وهو أعلم بهم "لِيَجْزِيَ الّذِينَ أساءُوا بِمَا عَمِلُوا" يقول: ليجزي الذين عَصَوْه من خلقه، فأساءوا بمعصيتهم إياه، فيثيبهم بها النار "وَيجْزِيَ الّذِينَ أحْسَنُوا بالحُسْنَى" يقول: وليجزيَ الذين أطاعوه فأحسنوا بطاعتهم إياه في الدنيا بالحسنى وهي الجنة، فيثيبهم بها.
وقيل: عُنِي بذلك أهل الشرك والإيمان. وقوله: "الّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الإثْمِ" يقول: الذين يبتعدون عن كبائر الإثم التي نهى الله عنها وحرمها عليهم فلا يقربونها، وذلك الشرك بالله، وما قد بيّناه في قوله: "إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نَكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئَاتِكُمْ".
وقوله: "وَالفَواحِشَ" وهي الزنا وما أشبهه، مما أوجب الله فيه حدّا.
وقوله: "إلاّ اللّمَمَ" اختلف أهل التأويل في معنى «إلا» في هذا الموضع؛
فقال بعضهم: هي بمعنى الاستثناء المنقطع، وقالوا: معنى الكلام: الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، إلا اللمم الذي ألمّوا به من الإثم والفواحش في الجاهلية قبل الإسلام، فإن الله قد عفا لهم عنه، فلا يؤاخذهم به... وكان بعض أهل العلم بكلام العرب ممن يوجه تأويل «إلا» في هذا الموضع إلى هذا الوجه الذي ذكرته عن ابن عباس يقول في تأويل ذلك: لم يؤذن لهم في اللمم، وليس هو من الفواحش، ولا من كبائر الإثم، وقد يُستثنى الشيء من الشيء، وليس منه على ضمير قد كفّ عنه فمجازه، إلا أن يلمّ بشيء ليس من الفواحش ولا من الكبائر... عن أبي الضحى، أن ابن مسعود قال: زنى العينين: النظر، وزنى الشفتين: التقبيل، وزنى اليدين: البطش، وزنى الرجلين: المشي، ويصدّق ذلك الفرْج أو يكذّبه، فإن تقدّم بفرجه كان زانيا، وإلا فهو اللمم...
وقال آخرون: بل ذلك استثناء صحيح، ومعنى الكلام: الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم، إلا أن يلمّ بها ثم يتوب...
وقال آخرون ممن وجه معنى «إلا» إلى الاستثناء المنقطع: اللمم: هو دون حدّ الدنيا وحدّ الآخرة، قد تجاوز الله عنه... عن ابن عباس، قوله: "الّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الإثْمِ والفَوَاحِشَ إلاّ اللّمَمَ" قال: كلّ شيء بين الحدّين، حدّ الدنيا وحدّ الآخرة، تكفّره الصلوات، وهو اللمم، وهو دون كل موجب فأما حدّ الدنيا فكلّ حدّ فرض الله عقوبته في الدنيا وأما حدّ الآخرة فكلّ شيء ختمه الله بالنار، وأخّر عقوبته إلى الآخرة...
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال «إلا» بمعنى الاستثناء المنقطع، ووجّه معنى الكلام إلى "الّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الإثْمِ والفَوَاحِشَ إلاّ اللّمَمَ" بما دون كبائر الإثم، ودون الفواحش الموجبة للحدود في الدنيا، والعذاب في الآخرة، فإن ذلك معفوّ لهم عنه، وذلك عندي نظير قوله جلّ ثناؤه: "إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئاتِكُمْ وَنُدْخِلُكُمْ مُدْخَلاً كَرِيما" فوعد جلّ ثناؤه باجتناب الكبائر، العفو عما دونها من السيئات، وهو اللمم الذي قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «العَيْنانِ تَزْنِيانِ، وَاليَدَانِ تَزْنِيانِ، وَالرّجْلانِ تَزْنِيانِ وَيُصَدّقُ ذلكَ الفَرْجُ أوْ يُكَذّبُهُ»، وذلك أنه لا حد فيما دون ولوج الفرج في الفرج، وذلك هو العفو من الله في الدنيا عن عقوبة العبد عليه، والله جلّ ثناؤه أكرم من أن يعود فيما قد عفا عنه، كما رُوِي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. واللمم في كلام العرب: المقاربة للشيء، ذكر الفرّاء أنه سمع العرب تقول: ضربه ما لمم القتل، يريدون ضربا مقاربا للقتل. قال: وسمعت من آخر: ألمّ يفعل في معنى: كاد يفعل.
["إنّ رَبّكَ يا محمد وَاسِعُ المَغْفِرَةِ"] يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم "إنّ رَبّكَ يا محمد وَاسِعُ المَغْفِرَةِ": واسع عفوه للمذنبين الذين لم تبلغ ذنوبهم الفواحش وكبائر الإثم. وإنما أعلم جلّ ثناؤه بقوله هذا عباده أنه يغفر اللمم بما وصفنا من الذنوب لمن اجتنب كبائر الإثم والفواحش...
وقوله: "هُوَ أعْلَمُ بِكُمْ إذْ أنشأَكُمْ مِنَ الأرْضِ" يقول تعالى ذكره: ربكم أعلم بالمؤمن منكم من الكافر، والمحسن منكم من المسيء، والمطيع من العاصي، حين ابتدعكم من الأرض، فأحدثكم منها بخلق أبيكم آدم منها، وحين أنتم "أجنة في بطون أمهاتكم"، يقول: وحين أنتم حمل لم تولدوا منكم، وأنفسكم بعدما، صرتم رجالاً ونساء...
وقوله: "فَلا تُزَكّوا أنْفُسَكُمْ" يقول جل ثناؤه: فلا تشهدوا لأنفسكم بأنها زكية بريئة من الذنوب والمعاصيّ...
وقوله: "هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتّقَى" يقول جلّ ثناؤه: ربك يا محمد أعلم بمن خاف عقوبة الله فاجتنب معاصيه من عباده.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللّمم} ثم يحتمل أن تكون الكبائر ما يعرفها كل أحد أنها كبيرة، والفواحش ما يعرفها كل أحد أنها فاحشة، واللّمم على هذا يجيء أن تكون من تلك الكبائر والفواحش لأنه استثناها منها فيجب أن تكون من جنسها، لكنه استثناها، وعفا عنها، لما يقعون فيها عن غفلة وسهو أو عن غلبة شهوة ونحوها، وهو الأشبه بتأويل الآية.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والكبائر: الذنوب التي لا يسقط عقابها إلا بالتوبة...
{إِنَّ رَبَّكَ واسع المغفرة} حيث يكفر الصغائر باجتناب الكبائر، والكبائر بالتوبة...
{والفواحش} ما فحش من الكبائر، كأنه قال: والفواحش منها خاصة ولا يخلو قوله تعالى: {إِلاَّ اللمم} من أن يكون استثناء منقطعاً أو صفة، كقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ الله} [الأنبياء: 22] كأنه قيل: كبائر الإثم غير اللمم، وآلهة غير الله.
{فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ} فلا تنسبوها إلى زكاء العمل وزيادة الخير وعمل الطاعات وهذا إذا كان على سبيل الإعجاب أو الرياء: فأما من اعتقد أن ما عمله من العمل الصالح من الله وبتوفيقه وتأييده ولم يقصد به التمدح لم يكن من المزكين أنفسهم، لأن المسرة بالطاعة طاعة، وذكرها شكر.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{الذين} نعت ل {الذين} [النجم: 31] المتقدم قبله، و: {يجتنبون} معناه: يدعون جانباً. واختلف الناس في الكبائر ما هي؟ فذهب الجمهور إلى أنها السبع الموبقات التي وردت في الأحاديث ....
...وتحرير القول في الكبائر أنها كل معصية يوجد فيها حد في الدنيا، أو توعد بنار في الآخرة، أو لعنة ونحو هذا خاصاً بها فهي كثيرة العدد،وقال زيد بن أسلم: «كبير الإثم» هنا يراد به: الكفر.
وقوله: {أعلم بكم} قال مكي بن أبي طالب في المشكل معناه: هو عالم بكم. وقال جمهور أهل المعاني: بل هو التفضيل بالإطلاق، أي هو أعلم من الموجودين جملة...
.فإذا كان علمه قد أحاط بكم وأنتم في هذه الأحوال فأحرى أن يقع بكم وأنتم تعقلون وتجترحون، والإنشاء من الأرض: يراد به خلق آدم عليه السلام، ويحتمل أن يراد به إنشاء الغذاء.وقوله: {فلا تزكوا أنفسكم} ظاهره النهي عن أن يزكي نفسه، ويحتمل أن يكون نهياً عن أن يزكي بعض الناس بعضاً وإذا كان هذا فإنما ينهى عن تزكية السمعة والمدح للدنيا والقطع بالتزكية...
{الذين يجتنبون} أي الذين عادتهم ودأبهم الاجتناب لا الذين اجتنبوا مرة وقدموا عليها أخرى.
المسألة الثانية: الكبائر جمع كبيرة وهي صفة فما الموصوف؟ نقول: هي صفة الفعلة كأنه يقول: الفعلات الكبائر من الإثم.
المسألة الثالثة: إذا ذكر الكبائر فما الفواحش بعدها؟ نقول: الكبائر إشارة إلى ما فيها من مقدار السيئة، والفواحش إشارة إلى ما فيها من وصف القبح كأنه قال: عظيمة المقادير قبيحة الصور، والفاحش في اللغة مختص بالقبيح الخارج قبحه عن حد الخفاء وتركيب الحروف في التقاليب يدل عليه فإنك إذا قلبتها وقلت: حشف كان فيه معنى الرداءة الخارجة عن الحد، ويقال: فشحت الناقة إذا وقفت على هيئة مخصوصة للبول فالفحش يلازمه القبح، ولهذا لم يقل: الفواحش من الإثم وقال في الكبائر: {كبائر الإثم} لأن الكبائر إن لم يميزها بالإضافة إلى الإثم لما حصل المقصود بخلاف الفواحش. المسألة الخامسة: في اللمم وفيه أقوال: (أحدها) ما يقصده المؤمن ولا يحققه وهو على هذا القول من لم يلم إذا جمع فكأنه جمع عزمه وأجمع عليه (وثانيها): ما يأتي به المؤمن ويندم في الحال وهو من اللمم الذي هو مس من الجنون كأنه مسه وفارقه...
.والمغفرة من الستر، وهو لا يكون إلا على قبيح، وكل من خلقه الله إذا نظرت في فعله، ونسبته إلى نعم الله تجده مقصرا مسيئا، فإن من جازى المنعم بنعم لا تحصى مع استغنائه الظاهر، وعظمته الواضحة بدرهم أو أقل منه يحتاج إلى ستر ما فعله...
{هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى}...ليس عملكم أخفى من أحوالكم وأنتم أجنة في بطون أمهاتكم، والله عالم بتلك الأحوال (ثانيها): هو إشارة إلى الضال والمهتدي حصلا على ما هما عليه بتقدير الله، فإن الحق علم أحوالهم وهم في بطون الأمهات، فكتب على البعض أنه ضال، والبعض أنه مهتد (ثالثها): تأكيد وبيان للجزاء، وذلك لأنه لما قال: {ليجزي الذين أساءوا بما عملوا} قال الكافرون: هذا الجزاء لا يتحقق إلا بالحشر، وجمع الأجزاء بعد تفرقها وإعادة ما كان لزيد من الأجزاء في بدنه من غير اختلاط غير ممكن، فقال تعالى: {هو أعلم بكم إذ أنشأكم} فيجمعها بقدرته على وفق علمه كما أنشأكم.
المسألة السادسة: الخطاب مع من؟ فيه ثلاثة احتمالات؛
(الأول): مع الكفار، وهذا على قولنا إنهم قالوا كيف يعلمه الله، فرد عليهم قولهم.
(الثاني) كل من كان زمان الخطاب وبعده من المؤمنين والكفار.
.هو أعلم بكم أيها المؤمنون، علم ما لكم من أول خلقكم إلى آخر يومكم، فلا تزكوا أنفسكم رياء وخيلاء، ولا تقولوا لآخر أنا خير منك وأنا أزكى منك وأتقى، فإن الأمر عند الله، ووجه آخر وهو إشارة إلى وجوب الخوف من العاقبة، أي لا تقطعوا بخلاصكم أيها المؤمنون، فإن الله يعلم عاقبة من يكون على التقي، وهذا يؤيد قول من يقول: أنا مؤمن إن شاء الله للصرف إلى العاقبة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{والفواحش} والفاحشة من الكبائر ما يكرهه الطبع وينكره العقل ويستخسّه.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم، إن ربك واسع المغفرة} أي الذين أحسنوا واجتنبوا كبائر الإِثم والفواحش، أي فعلوا الحسنات واجتنبوا المنهيات، وذلك جامع التقوى... فالاستثناء بمعنى الاستدراك. ووجهه أن ما سمي باللمم ضرب من المعاصي المحذر منها في الدين، فقد يظن الناس أن النهي عنها يلحقها بكبائر الإِثم فلذلك حق الاستدراك، وفائدة هذا الاستدراك عامة وخاصة: أما العامة فلكي لا يعامِل المسلمون مرتكب شيء منها معاملة من يرتكب الكبائر، وأما الخاصة فرحمة بالمسلمين الذين قد يرتكبونها فلا يَفل ارتكابها من نشاط طاعة المسلم، ولينصرف اهتمامه إلى تجنب الكبائر. فهذا الاستدراك بشارة لهم، وليس المعنى أن الله رخص في إتيان اللمم... وهذا النوع يسميه علماء الشريعة الصغائر في مقابلة تسمية النوع الآخر بالكبائر. فمثلوا اللمم في الشهوات المحرمة بالقبلة والغمزة. سمي: اللمم، وهو اسم مصدر أَلمَّ بالمكان إلماماً إذا حلّ به والواسع: الكثير المغفرة، استعيرت السعة لكثرة الشمول لأن المكان الواسع يمكن أن يحتوي على العدد الكثير ممن يحلّ فيه...
والمعنى: لا تحسبوا أنفسكم أزكياء وابتغوا زيادة التقرب إلى الله أولاً تثقوا بأنكم أزكياء فيدخلكم العجب بأعمالكم ويشمل ذلك ذكر المرء أعماله الصالحة للتفاخر بها، أو إظهارها للناس... وهذا من التأديب على التحرز في الحكم والحيطة في الخِبرة واتهام القرائن والبوارق...
أي فوضوا ذلك إلى الله إذ هو أعلم بمن اتقى، أي بحال من اتقى من كمال تقوى أو نقصها أو تزييفها...
فمن صفات الذين أحسنوا أنهم {يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ ٱلإِثْمِ وَٱلْفَوَاحِشَ..} أي: يتركون بالكلية الكبائر من الذنوب ولا يقتربون من هذه المنطقة المحرمة {إِلاَّ ٱللَّمَمَ..} وهو صغائر الذنوب.
فكأنَّ الله تعالى من رحمته بخلقه تكفّل لنا بالصغائر أنْ يمحوها، وجعل لها ممحاة تزيلها وهي الصلوات الخمس، شريطة أنْ نجتنب الكبائر.
وفي الحديث: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهنَّ إذا اجتُنِبَتْ الكبائر " فمَنْ فعل ذلك وسار على هذا المنهج كانت له الحسنى، وكان من أهل الإحسان.
إذن: الإثم والفواحش هي الذنوب الكبيرة التي توعَّد الله مرتكبيها، والفواحش ما فَحُش من الكبائر وعظم، وقد جعل الله له عقوبة وحَداً.
أما (اللمم) الذي استثناه الله وعفا عنه فهو لمم. يعني: صغائر هيِّنة لا يترتب عليها كبيرُ ضرر، وهذه أيضاً مشروطة بعدم الاجتراء عليها أو المبالغة فيها حتى تصير لك عادة.
وإذا عاملك الله تعالى بهذه المنطق فاستح منه سبحانه أنْ تتجرأ عليه ولو بالصغائر، لأن الصغيرة إذا أضيفت إلى الصغيرة وكان في الأمر مداومة وإصرار صارتْ كبيرة، ثم للعاقل أنْ ينظر في حَقِّ مَنْ هذه الصغيرة، إنها في حق الله، إذن: فاقصر.