التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يَوۡمَ يَأۡتِ لَا تَكَلَّمُ نَفۡسٌ إِلَّا بِإِذۡنِهِۦۚ فَمِنۡهُمۡ شَقِيّٞ وَسَعِيدٞ} (105)

ثم ذكر - سبحانه - جانبا من أهوال هذا اليوم ، ومن أحوال الناس فيه فقال : { يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ }

والشقى : صفة مشبهة من الفعل شقى ، وهو الشخص المتلبس بالشقاوة ، والشقاء :

أى سوء الحال - بسبب إيثاره الضلالة على الهداية ، والباطل على الحق . . .

والسعيد : هو الشخص المتلبس بالسعادة ، وبالأحوال الحسنة بسبب إيمانه وعمله الصالح .

والمعنى : حين يأتى هذا اليوم ؛ وهو يوم القيامة ، لا تتتكلم فيه نفس بأى كلام إلا بإذن الله - تعالى - ويكون الناس فيه منقسمين إلى قسمين : قسم شقى معذب بسبب كفره ، وسوء عمله ، وتفريطه فى حقوق الله . . .

وقسم سعيد منعم بسبب إيمانه : وعمله الصالح . . .

فإن قيل : كيف نجمع بين هذه الآية التى تنفى الكلام عن كل نفس إلا بإذن الله وبين قوله - تعالى - { يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا . . . } فالجواب : أن فى يوم القيامة مواقف متعددة ، ففى بعضها يجادل الناس عن أنفسهم ، وفى بعضها يكفون عن الكلام إلا بإذن الله ، وفى بعضها يختم على أفواههم ، وتتكلم أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون .

وفى هذه الآية الكريمة إبطال لما زعمها لمشركون من أن أصنامهم ستدافع عنهم ، وستشفع لهم يوم القيامة .

قال الإِمام ابن كثير : قوله - تعالى - { يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ . . . } أى : يوم يأتى هذا اليوم وهو يوم القيامة ، لا يتكلم أحد إلا بإذن الله - تعالى - كما قال - سبحانه - { يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً } وقال - سبحانه - { وَخَشَعَتِ الأصوات للرحمن فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً } - فى الصحيحين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى حديث الشفاعة الطويل : - " ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل ، ودعوة الرسل يومئذ : اللهم سلم سلم " .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يَوۡمَ يَأۡتِ لَا تَكَلَّمُ نَفۡسٌ إِلَّا بِإِذۡنِهِۦۚ فَمِنۡهُمۡ شَقِيّٞ وَسَعِيدٞ} (105)

وقوله : { فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } أي : فمن أهل الجمع شقي ومنهم سعيد ، كما قال : { فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ } [ الشورى : 7 ] .

وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده : حدثنا موسى بن حيان ، حدثنا عبد الملك بن عمرو ، حدثنا سليمان بن{[14911]} سفيان ، حدثنا عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ، عن عمر{[14912]} رضي الله عنه ، قال : لما نزلت { فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } سألت النبي صلى الله عليه وسلم ، قلت :{[14913]} يا رسول الله ، علام نعمل{[14914]} ؟ على شيء قد فُرغ منه ، أم على شيء لم يفرغ منه ؟ فقال : " على شيء قد فرغ منه يا عمر وجرت به الأقلام ، ولكن كل ميسر لما خلق له " {[14915]} .


[14911]:- في ت ، أ : "أبو".
[14912]:- في أ : "عمر بن الخطاب".
[14913]:- في ت : "فقلت".
[14914]:- في ت : "على ما يعمل".
[14915]:- ورواه الترمذي في السنن برقم (3111) عن بندار ، عن أبي عامر العقدي - عبد الملك بن عمرو به - وقال الترمذي : "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث عبد الملك بن عمرو".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{يَوۡمَ يَأۡتِ لَا تَكَلَّمُ نَفۡسٌ إِلَّا بِإِذۡنِهِۦۚ فَمِنۡهُمۡ شَقِيّٞ وَسَعِيدٞ} (105)

القول في تأويل قوله تعالى : { يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلّمُ نَفْسٌ إِلاّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيّ وَسَعِيدٌ * فَأَمّا الّذِينَ شَقُواْ فَفِي النّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السّمَاوَاتُ وَالأرْضُ إِلاّ مَا شَآءَ رَبّكَ إِنّ رَبّكَ فَعّالٌ لّمَا يُرِيدُ } .

يقول تعالى ذكره : يوم يأتي القيامة أيها الناس ، وتقوم الساعة لا تكلم نفس إلا بإذن ربها .

واختلفت القرّاء في قراءة قوله : { يَوْمَ يَأْتِي } ؛ فقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة بإثبات الياء فيها : { يَوْمَ يَأْتي لا تُكَلّمُ نَفْسٌ } . وقرأ ذلك بعض قرّاء أهل البصرة ، وبعض الكوفيين بإثبات الياء فيها في الوصل ، وحذفها في الوقف . وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة بحذف الياء في الوصل والوقف : { يَوْمَ يَأْتِ لا تُكَلّمُ نَفْسٌ إلاّ بإذْنِهِ } .

والصواب من القراءة في ذلك عندي : { يَوْمَ يَأْتِ } ، بحذف الياء في الوصل والوقف ، اتباعا لخط المصحف ، وأنها لغة معروفة لهذيل ، تقول : ما أَدْرِ ما تقول ، ومنه قول الشاعر :

كَفّاكَ كَفّ ما تُلِيقُ دِرْهما *** جُودا وأُخرَى تُعْطِ بالسّيْفِ الدّما

وقيل : { لا تَكَلّمُ } ، وإنما هي : «لا تتكلم » ، فحذف إحدى التاءين اجتزاء بدلالة الباقية منهما عليها .

وقوله : { فَمِنْهُمْ شَقِيّ وسَعِيدٌ } ، يقول : فمن هذه النفوس التي لا تكلم يوم القيامة إلا بإذن ربها ، شقي وسعيد وعادٍ على النفس ، وهي في اللفظ واحدة بذكر الجميع في قوله : { فَمِنْهُمْ شَقِيّ وَسَعِيدٌ } ، يقول تعالى ذكره : { فأمّا الّذِينَ شَقُوا فَفِي النّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ } ، وهو أول نهاق الحمار وشبهه ، { وَشَهِيقٌ } ، وهو آخر نهيقه إذا ردده في الجوف عند فراغه من نهاقه ، كما قال رؤبة بن العجاج :

حَشْرَجَ في الجَوْفِ سَحِيلاً أوْ شَهَقْ *** حتى يُقالَ ناهِقٌ وَما نَهَقْ

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : { لَهُمْ فِيها زَفيرٌ وشَهيقٌ } ، يقول : صوت شديد ، وصوت ضعيف .

قال : حدثنا إسحاق ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن أبي العالية ، في قوله : { لَهُمْ فِيها زَفيرٌ وشَهِيقٌ } ، قال : الزفير في الحلق ، والشهيق في الصدر .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية بنحوه .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : صوت الكافر في النار صوت الحمار : أوله زفير ، وآخره شهيق .

حدثنا أبو هشام الرفاعي ومحمد بن معمر البحراني ومحمد بن المثنى ومحمد بن بشار ، قالوا : حدثنا أبو عامر ، قال : حدثنا سليمان بن سفيان ، قال : حدثنا عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ، عن عمر ، قال : لما نزلت هذه الآية : { فَمِنْهُمْ شَقِيّ وَسَعِيدٌ } ، سألت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلت : يا نبيّ الله ، فعلام عملنا ؟ على شيء قد فرغ منه ، أم على شيء لم يفرغ منه ؟ قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «على شَيْءٍ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ يا عُمَرُ وَجَرَتْ بِهِ الأقْلامُ ، وَلَكِنْ كُلّ مُيَسّرٌ لِمّا خُلِقَ لَهُ » . اللفظ لحديث ابن معمر .

وقوله : { خالِدِينَ فِيها ما دَامَتِ السّمَوَاتُ والأرْضُ إلاّ ما شاءَ رَبّكَ إنّ رَبّكَ فَعّالٌ لِمَا يرِيدُ } ، يعني تعالى ذكره بقوله : { خالِدِينَ فِيها } ، لابثين فيها ، ويعني بقوله : { ما دَامَتِ السّماوَاتُ والأرْضُ } ، أبدا ؛ وذلك أن العرب إذا أرادت أنُ تصف الشيء بالدوام أبدا ، قالت : هذا دائم دوام السموات والأرض ، بمعنى : إنه دائم أبدا ، وكذلك يقولون : هو باق ما اختلف الليل والنهار ، وما سمر لنا سمير ، وما لألأت العفر بأذنابها ، يعنون بذلك كله : أبدا . فخاطبهم جلّ ثناؤه بما يتعارفون به بينهم ، فقال : { خالِدِينَ فِيها ما دَامَتِ السمَواتُ والأرْضُ } ، والمعنى في ذلك : خالدين فيها أبدا .

وكان ابن زيد يقول في ذلك بنحو ما قلنا فيه :

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { خالِدِينَ فِيها ما دَامَتِ السمَواتُ والأرْضُ } ، قال : ما دامت الأرض أرضا ، والسماء سماء . ثم قال : { إلاّ ما شاءَ رَبّكَ } .

واختلف أهل العلم والتأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : هذا استثناء استثناه الله في أهل التوحيد أنه يخرجهم من النار إذا شاء ، بعد أن أدخلهم النار . ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : { فَأمّا الّذِينَ شَقُوا فَفِي النّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وشَهِيقٌ خالِدِينَ فِيها ما دَامَتِ السّماوَاتُ والأرْضُ إلاّ ما شاءَ رَبّكَ } ، قال : الله أعلم بثُنياه . وذُكر لنا أن ناسا يصيبهم سَفَع من النار بذنوب أصابوها ، ثم يدخلهم الجنة .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { خالِدِينَ فِيها ما دَامَتِ السمَواتُ والأرْضُ إلاّ ما شاءَ رَبّكَ } ، والله أعلم بثنيّته ، ذكر لنا أن ناسا يصيبهم سفع من النار بذنوب أصابتهم ، ثم يدخلهم الله الجنة بفضل رحمته ، يقال لهم الجهنميون .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا شيبان بن فروخ ، قال : حدثنا أبو هلال ، قال : حدثنا قتادة ، وتلا هذه الآية : { فَأمّا الّذِينَ شَقُوا فَفِي النّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وشَهِيقٌ . . . } ، إلى قوله : { لِمَا يُريدُ } ، فقال عند ذلك : حدثنا أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنَ النار » ، قال قتادة : ولا نقول مثل ما يقول أهل حروراء .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن أبي مالك ، يعني : ثعلبة ، عن أبي سنان ، في قوله : { فَأمّا الّذِينَ شَقَوا فَفِي النّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وشَهِيقٌ خالِدِينَ فِيها ما دَامَتِ السمَواتُ والأرْضُ إلاّ ما شاءَ رَبّكَ } ، قال : استثناء في أهل التوحيد .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الضحاك بن مزاحم : { فَأمّا الّذِينَ شَقُوا فَفِي النّارِ . . . } ، إلى قوله : { خالِدِينَ فِيها ما دَامَتِ السمَواتُ والأرْضُ إلاّ ما شاء رَبّكَ } ، قال : يخرج قوم من النار فيدخلون الجنة ، فهم الذين استُثني لهم .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عامر بن جشِب ، عن خالد بن معدان في قوله : { لابِثِينَ فيها أحْقابا } ، وقوله : { خالِدينَ فِيها إلاّ ما شاءَ رَبّكَ } ، أنهما في أهل التوحيد .

وقال آخرون : الاستثناء في هذه الآية في أهل التوحيد ، إلا أنهم قالوا : معنى قوله : { لاّ ما شاءَ رَبّكَ } ، إلا أن يشاء ربك أن يتجاوز عنهم فلا يدخلهم النار . ووجهوا الاستثناء إلى أنه من قوله : { فأمّا الّذِينَ شَقُوا فَفِي النارِ . . . إلاّ ما شاءَ رَبّكَ } ، لا من الخلود . ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : حدثنا ابن التيمي ، عن أبيه ، عن أبي نضرة ، عن جابر أو أبي سعيد ، يعني : الخدري ، أو عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في قوله : { إلاّ ما شاءَ رَبّكَ إنّ رَبّكَ فَعّالٌ لِمَا يُرِيدُ } ، قال : «هَذِهِ الآية تَأْتي على القُرْآنِ كُلّهِ » ، يقول : حيث كان في القرآن خالِدِينَ فيها تأتي عليه . قال : وسمعت أبا مُجَلّزٍ يقول : هو جزاؤه ، فإن شاء الله تجاوز عن عذابه .

وقال آخرون : عنى بذلك أهل النار وكل من دخلها . ذكر من قال ذلك :

حُدثت عن المسيب ، عمن ذكره ، عن ابن عباس : { خَالدِينَ فِيها ما دَامَتِ السّمَاوَاتُ والأرْضُ } ، لا يموتون ، ولا هم منها يخرجون ما دامت السماوات والأرض . { إلاّ ما شاءَ رَبّكَ } ، قال : استثناء الله . قال : يأمر النار أن تأكلهم . قال : وقال ابن مسعود : ليأتينّ على جهنم زمان تخفق أبوابها ليس فيها أحد ، وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقابا .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن بيان ، عن الشعبي ، قال : جهنم أسرع الدارين عمرانا وأسرعهما خرابا .

وقال آخرون : أخبرنا الله بمشيئته لأهل الجنة ، فعرفنا معنى ثنياه بقوله : { عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } ، أنها في الزيادة على مقدار مدة السماوات والأرض ، قال : ولم يخبرنا بمشيئته في أهل النار ، وجائز أن تكون مشيئته في الزيادة ، وجائز أن تكون في النقصان . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { خَالدِينَ فِيها ما دَامَتِ السّمَاوَاتُ والأرْضُ آلاّ ما شاءَ رَبّكَ } ، فقرأ حتى بلغ : { عَطَاءً غيرَ مجْذُوذٍ } ، قال : وأخبرنا بالذي يشاء لأهل الجنة ، فقال : { عطاء غير مجذوذ } ، ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار .

وأولى هذه الأقوال في تأويل هذه الآية بالصواب ، القول الذي ذكرنا عن قتادة والضحاك ، من أن ذلك استثناء في أهل التوحيد من أهل الكبائر أنه يدخلهم النار ، خالدين فيها أبدا إلا ما شاء من تركهم فيها أقل من ذلك ، ثم يخرجهم ، فيدخلهم الجنة ، كما قد بيّنا في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصحة في ذلك ، لأن الله جل ثناؤه أوعد أهل الشرك به الخلود في النار ، وتظاهرت بذلك الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فغير جائز أن يكون استثناء في أهل الشرك ، وأن الأخبار قد تواترت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله يدخل قوما من أهل الإيمان به بذنوب أصابوها النار ، ثم يخرجهم منها ، فيدخلهم الجنة ، فغير جائز أن يكون ذلك استثناء أهل التوحيد قبل دخولها مع صحة الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ذكرنا ، وأنا إن جعلناه استثناء في ذلك كنا قد دخلنا في قول من يقول : لا يدخل الجنة فاسق ولا النار مؤمن ، وذلك خلاف مذاهب أهل العلم وما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . فإذا فسد هذان الوجهان ، فلا قول قال به القدوة من أهل العلم إلا الثالث . ولأهل العربية في ذلك مذهب غير ذلك سنذكره بعد ، ونبينه إن شاء الله تعالى .

وقوله : { إنّ رَبّكَ فَعّالٌ لِمَا يُرِيدُ } ، يقول تعالى ذكره : إن ربك يا محمد لا يمنعه مانع من فعل ما أراد فعله بمن عصاه وخالف أمره من الانتقام منه ، ولكنه يفعل ما يشاء ، فيمضي فعله فيهم وفيمن شاء من خلقه فعله وقضاءه .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَوۡمَ يَأۡتِ لَا تَكَلَّمُ نَفۡسٌ إِلَّا بِإِذۡنِهِۦۚ فَمِنۡهُمۡ شَقِيّٞ وَسَعِيدٞ} (105)

جملة { يوم يَأتي لا تكلّم نَفْسٌ } تفصيل لمدلول جملة { ذلك يوم مجموع له النّاس } [ هود : 103 ] الآية ، وبينت عظمة ذلك اليوم في الشرّ والخير تبعاً لذلك التفصيل . فالقصد الأوّل من هذه الجملة هو قوله : { فمنهم شقيّ وسعيد } وما بعده ، وأمّا ما قبله فتمهيد له أفصح عن عظمة ذلك اليوم . وقد جاء نظم الكلام على تقديم وتأخير اقتضاه وضع الاستطراد بتعظيم هول اليوم في موضع الكلام المتّصل لأنّه أسعد بتناسب أغراض الكلام ، والظروف صالحة لاتّصال الكلام كصلاحيّة الحروف العاطفة وأدوات الشرط .

و { يوم } من قوله : { يوم يأتي } مستعمل في معنى ( حين ) أو ( ساعة ) ، وهو استعمال شائع في الكلام العربيّ في لفظ ( يوم ) و ( ليلة ) توسّعاً بإطلاقهما على جزء من زمانهما إذ لا يخلو الزّمان من أن يقع في نهار أو في ليل فذلك يوم أو ليلة فإذا أطلقا هذا الإطلاق لم يستفد منهما إلاّ معنى ( حين ) دون تقدير بمدّة ولا بنهار وَلاَ لَيْللٍ ، ألاَ ترى قول النابغة :

تخيّرن من أنهار يوم حليمة

فأضاف ( أنهار ) جمع نهار إلى اليوم . وروي : من أزمان يوم حليمة .

وقول توبة بن الحُميّر :

كأن القلب ليلة قيل : يُغدَى *** بليلي الأخيلية أو يراح

أراد ساعة ، قيل : يُغدى بليلى ، ولذلك قال : يغدى أو يراح ، فلم يراقب ما يناسب لفظ ليلة من الرّواح .

فقوله تعالى : { يوم يأتي } معناه حين يأتي . وضمير ( يأتي ) عائد إلى { يوم مشهود } [ هود : 103 ] وهو يوم القيامة . والمراد بإتيانه وقوعه وحلوله كقوله : { هل ينظرون إلاّ الساعة أن تأتيهم } [ الزخرف : 66 ] .

فقوله : { يوم يأتي } ظرف مُتَعلّق بقوله : { لا تكلّم نفس إلاّ بإذنه } .

وجملة { لا تكلم نفس } مستأنفة ابتدائية . قدّم الظرف على فعلها للغرض المتقدم . والتّقدير : لا تكلّم نفس حينَ يحلّ اليوم المشهود . والضّمير في { بإذنه } عائد إلى الله تعالى المفهوم من المقام ومن ضمير { نؤخّره } [ هود : 104 ] . والمعنى أنّه لا يتكلّم أحد إلاّ بإذن من الله ، كقوله : { يوم يقوم الروح والملائكة صفّاً لا يتكلّمون إلاّ من أذن له الرحمن وقال صواباً } [ النبأ : 38 ] . والمقصود من هذا إبطال اعتقاد أهل الجاهلية أنّ الأصنام لها حقّ الشفاعة عند الله .

و { نفس } يَعمّ جميع النفوس لوقوعه في سياق النفي ، فشمل النفوس البرة والفاجرة ، وشمل كلام الشافع وكلام المجادل عن نفسه . وفُصّل عموم النفوس باختلاف أحوالها . وهذا التفصيل مفيد تفصيل الناس في قوله : { مجموع له النّاس } [ هود : 103 ] ، ولكنّه جاء على هذا النسج لأجل ما تخلّل ذلك من شبه الاعتراض بقوله : { وما نؤخّره إلاّ لأجل معدود } [ هود : 104 ] إلى قوله : { بإذنه } وذلك نسيج بديع .

والشقيّ : فعيل صفة مشبهة من شَقِيَ ، إذا تلبّس بالشّقاء والشقاوة ، أي سوء الحالة وشرّها وما ينافر طبع المتّصف بها .

والسّعيد : ضدّ الشقيّ ، وهو المتلبّس بالسّعادة التي هي الأحوال الحسنة الخيّرة الملائمة للمتّصف بها .

والمعنى : فمنهم يومئذٍ من هو في عذاب وشدّة ومنهم من هو في نعمة ورخاء .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{يَوۡمَ يَأۡتِ لَا تَكَلَّمُ نَفۡسٌ إِلَّا بِإِذۡنِهِۦۚ فَمِنۡهُمۡ شَقِيّٞ وَسَعِيدٞ} (105)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{يوم يأت} ذلك اليوم، {لا تكلم نفس إلا بإذنه}، بإذن الله تعالى، {فمنهم}، يقول الله تعالى: فمن الناس {شقي وسعيد}.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: يوم يأتي القيامة أيها الناس، وتقوم الساعة لا تكلم نفس إلا بإذن ربها...

وقيل: {لا تَكَلّمُ}، وإنما هي: «لا تتكلم»، فحذف إحدى التاءين اجتزاء بدلالة الباقية منهما عليها.

وقوله: {فَمِنْهُمْ شَقِيّ وسَعِيدٌ}، يقول: فمن هذه النفوس التي لا تكلم يوم القيامة إلا بإذن ربها، شقي وسعيد، وعاد على النفس، وهي في اللفظ واحدة بذكر الجميع في قوله: {فَمِنْهُمْ شَقِيّ وَسَعِيدٌ}.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

... فمنهم شقي بأعماله الخبيثة التي إذا اختارها، وعملها، أدخله النار... ومنهم سعيد بما أكرم من الطاعة والخيرات التي إذا اختارها، وعملها، أدخلته الجنة...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

فإن قلت: فاعل يأتي ما هو؟ قلت: الله عز وجل، كقوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله} [البقرة: 210]، {أَوْ يَأْتِي رَبُّكَ} [الأنعام: 158]، {وَجَاء رَبُّكَ} [الفجر: 22] وتعضده قراءة: «وما يؤخر» بالياء. ويجوز أن يكون الفاعل ضمير اليوم، كقوله تعالى: {أو تَأْتِيَهُمُ الساعة}... فإن قلت: فإذا جعلت الفاعل ضمير اليوم، فقد جعلت اليوم وقتاً لإتيان اليوم وحدّدت الشيء بنفسه قلت: المراد إتيان هوله وشدائده...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

ومعنى قوله: {لا تكلم نفس إلا بإذنه} وصف المهابة يوم القيامة وذهول العقل وهول القيامة، وما ورد في القرآن من ذكر كلام أهل الموقف في التلاوم والتساؤل والتجادل، فإما أن يكون بإذن وإما أن تكون هذه هنا مختصة في تكلم شفاعة أو إقامة حجة. وقوله {فمنهم} عائد على جميع الذي تضمنه قوله: {نفس} إذ هو اسم جنس يراد به الجمع...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما كان كأنه قيل: يا ليت شعري ماذا يكون حال الناس إذا أتى ذلك الأجل وفيهم الجبابرة والرؤساء وذوو العظمة والكبراء! أجيب بقوله: {يوم يأت} أي ذلك الأجل لا يقدرون على الامتناع بل ولا على مطلق الكلام، وحذف ابن عامر وعاصم وحمزة الياء اجتزاء عنها بالكسرة كما هو فاشٍ في لغة هذيل، وكان ذلك إشارة إلى أن شدة هوله تمنع أهل الموقف الكلام أصلاً في مقدار ثلثيه، ثم يؤذن لهم في الكلام في الثلث الآخر بدلالة المحذوف وقرينة الاستثناء، فإن العادة أن يكون المستثنى أقل من المستثنى منه {لا تكلم} ولو أقل كلام بدلالة حذف التاء {نفس} من جميع الخلق في ذلك اليوم الذي هو يوم الآخرة، وهو ظرف هذا الأجل وهو يوم طويل جداً ذو ألوان وفنون وأهوال وشؤون، تارة يؤذن فيه في الكلام، وتارة يكون على الأفواه الختام، وتارة يسكتهم الخوف والحسرة والآلام، وتارة ينطقهم الجدال والخصام {إلا بإذنه} أي بإذن ربك المكرر ذكره في هذه الآيات إشارة إلى حسن التربية وإحكام التدبير.

ولما علم من هذا أنه يوم عظمة وقهر، سبب عن تلك العظمة تقسيم الحاضرين فقال: {فمنهم} أي الخلائق الحاضرين لأمره {شقي} ثبتت له الشقاوة فيسر في الدنيا لأعمالها {وسعيد} ثبتت له السعادة فمشى على منوالها؛ والتأخير: الإذهاب عن جهة الشيء بالإبعاد منه، وضده التقديم؛ والأجل: الوقت المضروب لوقوع أمر من الأمور؛ واللام تدل على العلة والغرض والحكمة بخلاف "إلى"؛ والشقاء: قوة أسباب البلاء.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه} أي في الوقت الذي يجيء فيه ذلك اليوم المعين لا تتكلم نفس من الأنفس الناطقة إلا بإذن الله تعالى لأنه يومه الخاص الذي لا يملك أحد فيه قولا ولا فعلا إلا بإذنه، كما قال: {يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا} [النبأ: 38] وقال: {يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمان فلا تسمع إلا همسا يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا} [طه: 108، 109] وقال الكفار {هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون} [المرسلات: 35، 36] وقال: {اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم} [يس: 65] الخ، وفسرت كلمة [يوم] في الآية بالوقت المطلق، أي غير المحدود؛ لأنه ظرف لليوم المحدود الموصوف بما ذكر، الذي هو فاعل يأتي.

وأراد بعضهم الهرب من جعل يوم ظرفا لليوم، فقالوا: المعنى يوم يأتي جزاؤه، أو هوله، أو الله تعالى، واستشهدوا للأخير بقوله: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله} [البقرة: 210]، والشواهد التي أوردناها نص في هذا المقام، ولا حاجة إلى غير جعل يوم بمعنى وقت أو حين. وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة [يأت] بحذف الياء اجتزاء عنها بالكسرة، وهذا هو الموافق لرسم المصحف الإمام، وهو لغة هذيل، تقول: ما أدر ما تقول. ونفي الكلام في ذلك اليوم إلا بإذنه تعالى يفسر لنا الجمع بين الآيات النافية له مطلقا والمثبتة له مطلقة.

{فمنهم شقي وسعيد} أي فمن الأنفس المكلفة التي تجمع فيه شقي مستحق لوعيد الكافرين بالعذاب الدائم، ومنهم سعيد مستحق لما وعد به المتقون من الثواب الدائم، ولا يدخل في هذا التقسيم غير المكلفين كالأطفال والمجانين، وأما من تستوي حسناتهم وسيئاتهم من المؤمنين، ومن تغلب سيئاتهم منهم، ويعاقبون عليها في النار عقابا موقوتا، ثم يدخلون الجنة، فهم من فريق السعداء، باعتبار الخاتمة في الدنيا والآخرة، فالسعداء درجات، والأشقياء دركات.

روى الترمذي وحسنه، وأبو يعلى، وأشهر رواة التفسير عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما نزلت {فمنهم شقي وسعيد} قلت: يا رسول الله فعلام نعمل؟ على شيء قد فرغ منه، أو على شيء لم يفرغ منه؟ قال "بل على شيء قد فرغ منه وجرت به الأقلام يا عمر، ولكن كل ميسر لما خلق له "وحديث "كل ميسر لما خلق له" رواه أحمد والشيخان وغيرهما، ولفظ البخاري عن عمران بن حصين رضي الله عنه قلت: يا رسول الله فيم يعمل العاملون؟ قال: "كل ميسر لما خلق له" وعن علي كرم الله وجهه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان في جنازة فأخذ عودا فجعل ينكت في الأرض فقال: "ما منكم أحد إلا كتب مقعده من الجنة أو من النار" قالوا: ألا تتكل؟ قال: "اعملوا، فكل ميسر لما خلق له". وقرأ: {فأما من أعطى واتقى}. الخ

ومعناه -الذي غفل عنه، أو جهله الكثيرون على ظهوره-: إن الله تعالى يعلم الغيب، وعلمه بأن زيدا يدخل الجنة، أو النار، ليس معناه أنه يدخلها بغير عمل يستحقها به بحسب وعده وحكمته، ولا أنه لا فرق فيما يعمله في الجزاء، وإنما يعلم الله المستقبل كله بجميع أجزائه وأطرافه، ومنه عمل العاملين وما يترتب على كل عمل من الجزاء بحسب وعده ووعيده في كتابه المنزل وكتابته للمقادير، ولا تناقض ولا تعارض بينهما، ونحن لا نعلم الغيب، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم علمنا ما نعلم به ما سيكون في الجملة، وهو أن الجزاء بالعمل، وأن كل إنسان ميسر له، ومسهل عليه ما خلقه الله لأجله من سعادة الجنة وشقاوة النار، وأن ما وهبه للإنسان من العزم والإرادة يكون له من التأثير في تربية النفس ما يوجهها به إلى ما يعتقد أن فيه سعادته.