ثم بين - سبحانه - أن أهل الكتاب ليسوا سواء . بل منهم الأشرار ومنهم الأخيار ، وقد بين - سبحانه - هنا صفات الأخيار منهم فقال : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً } .
أى : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب } وهم اليهود والنصارى لفريقاً { يُؤْمِنُ بالله } إيمانا حقا منزها عن الإشراك بكل مظاهره ويؤمن بما { أُنزِلَ إِلَيْكُمْ } من القرآن الكريم على لسان نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم ويؤمن بحقيقة " ما أنزل إليهم " من التوراة والإنجيل ولا يزالون مع هذا الإيمان العميق { خَاشِعِينَ للَّهِ } أى خاضعين له - سبحانه - خائفين من عقابه ، طالبين لرضاه { لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً } أى لا يبيعون آيات الله أو حقيقة من حقائق دينهم فى نظير ثمن هو عرض من أعراض الدنيا الفانية ، لأن هذا الثمن المأخوذ قليل حتى ولو بلغ القناطير المقنطرة من الذهب والفضة .
فأنت ترى أنه - سبحانه - قد وصفهم بخمس صفات كريمة تدل على صفاء نفوسهم وطهارة قلوبهم ، وفى هذا إنصاف من القرآن الكريم للمهتدين من أهل الكتاب .
وقد ذكر القرآن ما يشبه هذه الآية فى كثير من سوره ومن ذلك قوله - تعالى - { لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ الله آنَآءَ الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ } وقوله - تعالى - { مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ } وقدم - سبحانه - إيمانهم بالقرآن على إيمانهم بما أنزل عليهم لأن القرآن هو المهيمن على الكتب السماوية والأمين عليها ، فما وافقه منها فهو حق وما خالفه فهو باطل وقوله { خَاشِعِينَ للَّهِ } حال من فاعل { يُؤْمِنُ } وجمع حملا على المعنى :
ثم بين - سبحانه - جزاءهم الطيب بعد بيان صفاتهم الكريمة فقال : { أولائك لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } .
أى أولئك الموصفون بتلك الصفات الكريمة لهم أجرهم الجزيل فى مقابل أعمالهم الصالحة وأفعالهم الحميدة .
وقوله { إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } كناية عن كمال علمه بمقادير الأجور ومراتب الاستحقاق وأنه يوفيها لكل عامل على ما ينبغى وقدر ما ينبغى .
ويجوز أن يكون كناية عن قرب إنجاز ما وعد من الأجر ؛ فإن سرعة الحساب تستدعى سرعة الجزاء فكأنه قيل : لهم أجرهم عند ربهم عن قريب ، لأن الله - تعالى - سريع الحساب والجزاء .
يخبرُ تعالى عن طائفة من أهل الكتاب أنهم يؤمنون بالله حق الإيمان ، وبما أنزل على محمد ، مع ما هم يؤمنون به من الكتب المتقدمة ، وأنهم خاشعون لله ، أي : مطيعون له خاضعون متذللون بين يديه ، { لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا } أي : لا يكتمون بأيديهم من البشارات بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وذكر صفته ونعته ومبعثه وصفة أمته ، وهؤلاء هم خيرة أهل الكتاب وصفوتهم ، سواء كانوا هودًا أو نصارى . وقد قال تعالى في سورة القصص : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ . وَإِذَا يُتْلَى{[6396]} عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ . أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا } الآية [ القصص : 52 - 54 ] ، وقال تعالى : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } الآية [ البقرة : 121 ] ، وقال : { وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } [ الأعراف : 159 ] ، وقال تعالى : { لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ } [ آل عمران : 113 ] ، وقال تعالى : { قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا . وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا . وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } [ الإسراء : 107 - 109 ] ، وهذه الصفات توجد في اليهود ، ولكن قليلا كما وجد في عبد الله بن سلام وأمثاله ممن آمن من أحبار اليهود ولم يبلغوا عَشْرَةَ أنفُس ، وأما النصارى فكثير منهم مهتدون وينقادون للحق ، كما قال تعالى : { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى [ ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ . وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ . وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ . {[6397]} ] فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا } الآية [ المائدة : 82 - 85 ] ، وهكذا قال هاهنا : { أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ [ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ]{[6398]} } الآية .
وقد ثبت في الحديث أن جعفر بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، لَمّا قرأ سورة { كهيعص } بحضرة النجاشي ملك الحبشة ، وعنده البطاركة والقساوسة{[6399]} بَكَى وبَكَوْا معه ، حتى أخْضَبُوا{[6400]} لِحَاهُم .
وثبت في الصحيحين أن النجاشي لما مات نَعَاه النبي{[6401]} صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه ، وقال : " إن أخًا{[6402]} لكم بالحبشة قد مات فصَلُّوا عليه " . فخرج [ بهم ]{[6403]} إلى الصحراء ، فَصفَّهم ، وصلّى عليه{[6404]} .
وروى ابن أبي حاتم والحافظ أبو بكر بن مردويه من حديث حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس بن مالك قال : لما تُوُفي النجاشي قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : استغفروا لأخيكم . فقال بعض الناس : يأمرنا أن نستغفر لِعِلْج مات بأرض الحبشة . فنزلت : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ } الآية .
ورواه عبد بن حميد وابن{[6405]} أبي حاتم من طريق أخرى عن حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن الحسن{[6406]} عن النبي صلى الله عليه وسلم{[6407]} . ثم رواه ابن مَرْدويه [ أيضا ]{[6408]} من طرق عن حُمَيْد ، عن أنس بن مالك نحو ما تقدم{[6409]} .
ورواه أيضًا ابن{[6410]} جرير من حديث أبي بكر الهُذَلي ، عن قَتَادة ، عن سعيد بن المُسَيَّب ، عن جابر قال : قال [ لنا ]{[6411]} رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات النجاشي : " إن أخاكم أصْحَمة قد مات " . فخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فصلَّى كما يُصَلِّي على الجنائز فكبر عليه أربعا ، فقال المنافقون : يصلي على علج مات بأرض الحبشة : فأنزل الله [ عز وجل ]{[6412]} { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ [ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ]{[6413]} }{[6414]} .
وقد روى الحافظُ أبو عبد الله الحاكم في مستدركه أنبأنا أبو العباس السياري بمرو ، حدثنا عبد الله بن علي الغزال ، حدثنا علي بن الحسن بن شقيق ، حدثنا ابن المبارك ، أنبأنا مصعب بن ثابت ، عن عامر بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه قال : نزل بالنجاشي عَدُوّ من أرضهم ، فجاءه المهاجرون فقالوا : نحب{[6415]} أن نَخْرُجَ إليهم حتى نقاتل معك ، وترى جرأتنا ، ونجزيك بما صنعت بنا . فقال : لا دواء بنصرة الله عز وجل خَيْر من دواء بنصرة الناس . قال : وفيه نزلت : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ } الآية ، ثم قال : هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه{[6416]} .
وقال أبو داود : حدثنا محمد بن عَمْرو الرازي ، حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، حدثني يزيد بن رومان ، عن عروة ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : لما مات النجاشي كنا نُحَدِّث أنه لا يزال يرى على{[6417]} قبره نور{[6418]} .
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } يعني : مسلمة أهل الكتاب .
وقال عَباد بن منصور : سألت الحسن البصري عن قوله تعالى : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ [ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ ] }{[6419]} الآية . قال : هم أهل الكتاب الذين كانوا قبل محمد صلى الله عليه وسلم ، فاتبعوه وعرفوا الإسلام ، فأعطاهم الله تعالى أجر اثنين{[6420]} للذي{[6421]} كانوا عليه من الإيمان{[6422]} قبل محمد صلى الله عليه وسلم وبالذي اتبعوا محمدًا صلى الله عليه وسلم . رواهما ابن أبي حاتم .
وقد ثبت في الصحيحين ، عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة يُؤتَوْنَ أجرَهم مرتين " فذكر منهم : " ورجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي " {[6423]} .
وقوله : { لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا } أي : لا يكتمون ما بأيديهم من العلم ، كما فعله الطائفة المرذولة منهم{[6424]} بل يبذلون ذلك مجانا ؛ ولهذا قال : { أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ }
قال مجاهد : { سَرِيعُ الْحِسَابِ } يعني : سريع الإحصاء . رواه ابن أبي حاتم وغيره .
{ وَإِنّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلََئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ إِنّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } .
اختلف أهل التأويل فيمن عنى بهذه الاَية ، فقال بعضهم : عنى بها أصحمة النجاشي ، وفيه أنزلت . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عصام بن زياد بن رواد بن الجراح ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا أبو بكر الهذلي ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، عن جابر بن عبد الله : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «اخْرُجُوا فَصَلّوا على أخٍ لَكُمْ ! » فصلى بنا ، فكبر أربع تكبيرات ، فقال : «هَذَا النّجاشِي أصَحمةُ » ، فقال المنافقون : انظروا هذا يصلي على علج نصراني لم يره قط ! فأنزل الله : { وَإنّ مِنْ أهْلِ الكِتابِ لَمَنْ يُوْمِنُ باللّهِ } .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا معاذ بن هشام ، قال : حدثنا أبي ، عن قتادة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «إنّ أخاكُمْ النّجاشِيّ قَدْ ماتَ فَصَلّوا عَلَيّهِ ! » قالوا : نصلي على رجل ليس بمسلم ؟ قال : فنزلت : { وَإنّ مِنْ أهْلِ الكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ باللّهِ وَما أُنْزِلَ إلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إلَيْهِمْ خاشِعِينَ للّهِ } قال قتادة : فقالوا : فإنه كان لا يصلي إلى القبلة . فأنزل الله : { ولِلّهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ فَأيْنَما تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ } .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَإنّ مِنْ أهْلِ الكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ باللّهِ وَما أنْزِلَ إلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إلَيْهِمْ } ذكر لنا أن هذه الاَية نزلت في النجاشي وفي ناس من أصحابه آمنوا بنبي الله صلى الله عليه وسلم ، وصدقوا به . قال : وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم استغفر للنجاشي ، وصلى عليه حين بلغه موته ، قال لأصحابه : «صَلّوا على أخٍ لَكُمْ قَدْ ماتَ بِغَيْرِ بِلادِكُمْ ! » فقال أناس من أهل النفاق : يصلي على رجل مات ليس من أهل دينه ! فأنزل الله هذه الاَية : { وَإنّ مِنْ أهْلِ الكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ باللّهِ وَما أنْزِلَ إلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلّهِ لا يَشْتَرُونَ بآياتِ اللّهِ ثَمَنا قَلِيلاً أُولَئِكَ لَهُمْ أجْرُهُمْ عِنْدَ رَبّهِمْ إنّ اللّهَ سَرِيعُ الحِسابِ } .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : { وَإنّ مِنْ أهْلِ الكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ باللّهِ وَما أنْزِلَ إلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إلَيْهِمْ } قال : نزلت في النجاشي وأصحابه ممن آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم ، واسم النجاشي أصحمة .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : قال عبد الرزاق ، وقال ابن عيينة : اسم النجاشي بالعربية عطية .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، قال : لما صلى النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي ، طعن في ذلك المنافقون ، فنزلت هذه الاَية : { وَإنّ مِنْ أهْلِ الكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ باللّهِ } . . . إلا آخر الاَية .
وقال آخرون : بل عنى بذلك عبد الله بن سلام ومن معه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : نزلت يعني هذه الاَية في عبد الله بن سلام ومن معه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني ابن زيد في قوله : { وَإنّ مِنْ أهْلِ الكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ باللّهِ وَما أنْزِلَ إلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إلَيْهِمْ } . . . الاَية كلها ، قال : هؤلاء يهود .
وقال آخرون : بل عنى بذلك : مسلمة أهل الكتاب . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَإنّ مِنْ أهْلِ الكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ باللّهِ وَما أنْزِلَ إلَيْكُمْ } من اليهود والنصارى ، وهم مسلمة أهل الكتاب .
وأولى هذه الأقوال بتأويل الاَية ما قاله مجاهد ، وذلك أن الله جلّ ثناؤه عمّ بقوله : { وَإنّ مِنْ أهْلِ الكِتابِ } أهل الكتاب جميعا ، فلم يخصص منهم النصارى دون اليهود ، ولا اليهود دون النصارى ، وإنما أخبر أن من أهل الكتاب من يؤمن بالله ، وكلا الفريقين ، أعني اليهود والنصارى ، من أهل الكتاب .
فإن قال قائل : فما أنت قائل في الخبر الذي رويت عن جابر وغيره أنها نزلت في النجاشي وأصحابه ؟ قيل : ذلك خبر في إسناده نظر ، ولو كان صحيحا لا شكّ فيه لم يكن لما قلنا في معنى الاَية بخلاف ، وذلك أن جابرا ومن قال بقوله إنما قالوا : نزلت في النجاشي ، وقد تنزل الاَية في الشيء ثم يعمّ بها كلّ من كان في معناه . فالاَية وإن كانت نزلت في النجاشي ، فإن الله تبارك وتعالى قد جعل الحكم الذي حكم به للنجاشي حكما لجميع عباده الذين هم بصفة النجاشي في اتباعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والتصديق بما جاءهم به من عند الله ، بعد الذي كانوا عليه قبل ذلك من اتباع أمر الله فيما أمر به عباده في الكتابين : التوراة والإنجيل . فإذ كان ذلك كذلك ، فتأويل الاَية : وإن من أهل الكتاب التوراة والإنجيل لمن يؤمن بالله ، فيقرّ بوحدانيته ، وما أنزل إليكم أيها المؤمنون ، يقول : وما أنزل إليكم من كتابه ووحيه ، على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، وما أنزل إليهم ، يعني : وما أنزل على أهل الكتاب من الكتب ، وذلك التوراة والإنجيل والزبور ، خاشعين لله ، يعني : خاضعين لله بالطاعة ، مستكينين له بها متذللين . كما :
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني ابن زيد في قوله : { خاشِعِينَ لِلّهِ } قال : الخاشع : المتذلل لله الخائف .
ونصب قوله : { خاشِعِينَ لِلّهِ } على الحال من قوله : { لَمَنْ يُؤمِنُ باللّهِ } وهو حال مّما في «يؤمن » من ذكر «من » .
{ لا يَشْتَرُونَ بآيَاتِ اللّهِ ثَمَنا قَلِيلاً } يقول : لا يحرّفون ما أنزل إليهم في كتبه من نعت محمد صلى الله عليه وسلم فيبدلونه ، ولا غير ذلك من أحكامه وحججه فيه ، لعرض من الدنيا خسيس ، يعطونه على ذلك التبديل ، وابتغاء الرياسة على الجهال ، ولكن ينقادون للحقّ ، فيعملون بما أمرهم الله به ، فيما أنزل إليهم من كتبه ، وينتهون عما نهاهم عنه فيها ، ويؤثرون أمر الله تعالى على هوى أنفسهم .
القول في تأويل قوله : { أُولَئِكَ لَهُمْ أجْرُهُمْ عِنْدَ رَبّهِمْ إنّ اللّهَ سَرِيعُ الحِسابِ } .
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { أولَئِكَ لَهُمْ أجْرُهُمْ } : هؤلاء الذين يؤمنون بالله ، وما أنزل إليكم ، وما أنزل إليهم ، لهم أجرهم عند ربهم¹ يعني : لهم عوض أعمالهم التي عملوها ، وثواب طاعتهم ربهم فيما أطاعوه فيه عند ربهم ، يعني : مذخور ذلك لهم لديه ، حتى يصيروا إليه في القيامة ، فيوفيهم ذلك { إنّ اللّهَ سريعُ الحسابِ } وسرعة حسابه تعالى ذكره ، أنه لا يخفى عليه شيء من أعمالهم قبل أن يعملوها ، وبعد ما عملوها ، فلا حاجة به إلى إحصاء عدد ذلك ، فيقع في الإحصاء إبطاء ، فلذلك قال : { إنّ اللّهَ سَرِيعُ الحِسابِ } .
اختلف المتأولون ، فيمن عنى بهذه الآية ، فقال جابر بن عبد الله وابن جريج وقتادة وغيرهم : نزلت بسبب أصحمة النجاشي سلطان الحبشة{[3813]} ، وذلك أنه كان مؤمناً بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم ، فلما مات عرف بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : اخرجوا فصلوا على أخ لكم ، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس ، فكبر أربعاً{[3814]} ، وفي بعض الحديث : أنه كشف لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن نعشه في الساعة التي قرب منها للدفن ، فكان يراه من موضعه بالمدينة ، فلما صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم قال المنافقون : انظروا إلى هذا يصلي على علج نصراني لم يره قط ، فنزلت هذه الآية{[3815]} ، وكان أصحمة النجاشي نصرانياً ، وأصحمة تفسيره بالعربية عطية ، قاله سفيان بن عيينة وغيره ، وروي أن المنافقين قالوا بعد ذلك : فإنه لم يصل القبلة فنزلت { ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله }{[3816]} وقال قوم : نزلت في عبد الله بن سلام ، وقال ابن زيد ومجاهد : نزلت في جميع من آمن من أهل الكتاب ، و { خاشعين } حال من الضمير في { يؤمن } ، ورد { خاشعين } على المعنى في «من » لأنه جمع لا على لفظ «من » لأنه إفراد ، وقوله تعالى : { لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً } مدح لهم وذم لسائر كفار أهل الكتاب لتبديلهم وإيثارهم كسب الدنيا الذي هو ثمن قليل على آخرتهم وعلى آيات الله تعالى ، وقوله تعالى : { إن الله سريع الحساب } قيل معناه : سريع إتيان بيوم القيامة ، وهو يوم الحساب ، فالحساب إذاً سريع إذ كل آت قريب ، وقال قوم : { سريع الحساب } أي إحصاء أعمال العباد وأجورهم وآثامهم ، إذ ذلك كله في عمله لا يحتاج فيه إلى عد وروية ونظر كما يحتاج البشر .
عطف على جملة { لكن الذين اتقوا ربهم } [ آل عمران : 198 ] استكمالاً لذكر الفِرَق في تلقّي الإسلام : فهؤلاء فريق الذين آمنوا من أهل الكتاب ولم يظهروا إيمانهم لخوف قومهم مثل النجاشي أصحمة ، وأثنى الله عليهم بأنّهم لا يحرّفون الدين ، والآية مؤذنة بأنّهم لم يكونوا معروفين بذلك لأنّهم لو عرفوا بالإيمان لما كان من فائدة في وصفهم بأنّهم من أهل الكتاب ، وهذا الصنف بعكس حال المنافين . وأكّد الخبر بأنّ وبلام الابتداء للردّ على المنافقين الذين قالوا لرسول الله لمّا صلّى على النجاشي : انظروا إليه يصلّي على نصراني ليس على دينه ولم يره قط . على ما روي عن ابن عباس وبعض أصحابه أنّ ذلك سبب نزول هذه الآية . ولعلّ وفاة النجاشي حصلت قبل غزوة أُحُد .
وقيل : أريد بهم هنا من أظهر إيمانه وتصديقه من اليهود مثل عبد الله بن سلام ومخيريق ، وكذا من آمن من نصارى نجران أي الذين أسلموا ورسول الله بمكّة إن صحّ خبر إسلامهم .
وجيء باسم الإشارة في قوله : { أولئك لهم أجرهم عند ربهم } للتنبيه على أنّ المشار إليهم به أحرياء بما سيرد من الإخبار عنهم لأجل ما تقدّم اسمَ الإشارة .
وأشار بقوله : { إن الله سريع الحساب } إلى أنّه يبادر لهم بأجرهم في الدنيا ويجعله لهم يوم القيامة .