{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ . . . }
قال الآلوسي : قوله - تعالى - : { أَلَمْ تَر } هذه الكلمة قد تذكر لمن تقدم علمه فتكون للتعجب والتقرير والتذكير لمن علم بما يأتي - كالأحبار وأهل التواريخ - وقد تذكر لمن لا يكون كذلك فتكون لتعريفه وتعجيبه ، وقد اشتهرت في ذلك حتى أجريت مجرى المثل في هذا الباب ، بأن شبه من " لم ير " الشيء بحال من رآه في أنه لا ينبغي أن يخفى عليه وأنه ينبغي أن يتعجب منه ، ثم أجرى الكلام معه كما يجرى مع من رأى ، قصداً إلى المبالغة في شهرته وعراقته في التعجب . ثم قال : والرؤية إما بمعنى الإِبصار مجازاً عن النظر ، وفائدة التجوز الحث على الاعتبار ، لأن النظر اختياري دون الإدراك الذي بعده ، وإما بمعنى الإِدراك القلبي متضمناً معنى الوصول والانتهاء ولهذا تعدت - أي الرؤية - بإلى في قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ . . } .
والمعنى : قد علمت أيها الرسول الكريم أو أيها الإنسان العاقل - حال أولئك القوم الذين خرجوا من ديارهم التي ألفوها واستوطنوها ، وهم ألوف مؤلفة ، وكثرة كاثرة ، وما كان خروجهم إلا فراراً وخوفاً من الموت الذي سيلاقيهم - إن عاجلا أو آجلا - .
ومن لم يعلم حالهم فها نحن أولاء نعلمه بها ونحيطه بما جرى لهم عن طريق هذا الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
والمقصود من هذه الآية الكريمة حض الناس جميعاً على الاعتبار والاتعاظ وزجرهم عن الفرار من الموت هلعاً وجبناً ، وتحريضهم على القتال في سبيل الله فقد قال - تعالى - بعد ذلك : { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . . . } وإفهامهم أن الفرار من الموت لن يؤدي إلا إلى الوقوع فيه .
وقوله : { وَهُمْ أُلُوفٌ } جملة حالية من الضمير في { خَرَجُواْ } و { أُلُوفٌ } جمع ألف . والتعبير بألوف يفيد أنهم كانوا كثيرى العدد ، ومن شأن الكثرة أنها تدعو إلى الشجاعة ولكنهم مع هذه الكثرة قد استولى عليهم الجبن فخرجوا من ديارهم هرباً من الموت .
وقيل إن معنى { وَهُمْ أُلُوفٌ } أنهم خرجوا مؤتلفي القلوب ، ولم يخرجوا عن افتراق كان منهم ، ولا عن تباغض حدث بينهم . وألوف على هذا القول جمع آلف مثل قاعد وقعود وشهود . قالوا : والوجه الأول أجدر بالاتباع لأن ورود الموت عليهم وهم كثرة عظيمة يفيد مزيد اعتبار بحالهم ، ولأنه هو الظاهر من معنى الآية الكريمة .
وقوله : { حَذَرَ الموت } أي خرجوا لحذر الموت وخشيته ، فقوله : { حَذَرَ } منصوب على أنه مفعول لأجله . الجملة الكريمة تشير إلى أن خروجهم كان الباعث عليه الحرص على مطلق حياة ولو كانت حياة ذل ومهانة ، وأنه لم يكن هناك سبب معقول يحملهم على هذا الخروج ، ولذا كانت نتيجة ذلك أن عاقبهم الله - تعالى - بالموت الذي هوبوا منه فقال :
{ فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ } أي : فقال لهم الله موتوا فماتوا ثم أحياهم بعد ذلك .
فجملة { ثُمَّ أَحْيَاهُمْ } معطوفة على مقدر يستدعيه المقام أي ، فماتوا ثم أحياهم . وإنما حذف للدلالة على الاستغناء عن ذكره لاستحالة تخلف مراده - تعالى - عن إرادته .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما معنى قوله : { فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ } قلت : معناه فأماتهم وإنما جيء به على هذه الصورة للدلالة على أنهم ماتوا ميتة رجل واحد بأمر الله ومشيئته ، وتلك ميتة خارجة عن العادة ، كأنهم أمروا بشيء فامتثلوا امتثالا من غير إباء ولا توقف كقوله - تعالى - { إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } وهذا تشجيع للمسلمين على الجهاد والتعرض للشهادة ، وأن الموت إذا لم يكن منه بد ، ولم ينفع منه مفر ، فأولى أن يكون في سبيل الله .
وقال الجمل : " فإن قلت هذا يقتضي أن هؤلاء ماتوا مرتين وهو مناف للمعروف من أن موت الخلق مرة واحدة ؟ قلنا في الجواب : لا منافاة إذ الموت هنا عقوبة مع بقاء الأجل كما في قوله في قصة موسى : { ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ } وثم موت بانتهاء الأجل ، وتلخيصه : أنه - سبحانه - أماتهم قبل آجالهم عقوبة لهم ثم بعثهم إلى بقية آجالهم ، وميتة العقوبة بعدها حياة - أي في الدنيا - بخلاف ميتة الأجل - فلا حياة بعدها في الدنيا - . . "
وبعد هذا البيان لمعنى الآية قد يقال : من هم أولئك القوم الذين خرجوا من ديارهم فراراً من الموت ؟ وهل الإِماتة والإِحياء بالنسبة لهم كانا على سبيل الحقيقة ؟
للإِجابة على السؤال الأول نقول : لم يرد حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين لنا فيه من هؤلاء القوم وفي أي زمن كانوا ، وإنما أورد بعض المفسرين عن بعض الصحابة والتابعين روايات فيها مقال ، وفيها تفصيلات نرى من الخير عدم ذكرها لضعفها . ومن هذه الروايات ما جاء عن ابن عباس أنه قال : كانوا أربعة آلاف خرجوا فراراً من الطاعون ، حتى إذا كانوا بموضع كذا أو كذا ماتوا . . ثم أحياهم الله بدعوة دعاها نبيهم .
ومنها أنهم - قوم من بني إسرائيل - فروا من الجهاد حين أمرهم الله به على لسان نبيهم " حزقيل " وخافوا من الموت في الجهاد فخرجوا من ديارهم فأماتهم الله ليعرفهم أنه لا ينجيهم من الموت شيء ، ثم أحياهم وأمرهم بالجهاد . . " .
قال القرطبي بعد أن ساق هذه الرواية : وقال ابن عطية : وهذا القصص كله لين الأسانيد ، وإنما اللازم من الآية أن الله - تعالى - أخبر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم إخباراً في عبارة التنبيه والتوقيف عن قوم من البشر خرجوا من ديارهم فراراً من الموت فأماتهم الله ثم أحياهم ليروا هم وكل من جاء من بعدهم أن الإِماتة إنما هي بيد الله لا بيد غيره ، فلا معنى لخوف خائف ولا لاغترار مغتر .
وجعل الله هذه الآية مقدمة بين يدي أمر المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالجهاد . وهذا قول الطبري وهو ظاهر وصف الآية والذي نراه أن الرواية الثانية التي تقول : إنهم قوم من بني إسرائيل فروا من الجهاد حين أمرهم الله به . . معقولة المعنى ، ويؤيدها سياق الآيات ، لأن الآيات تحض الناس على القتال في سبيل الله ، وتسوق لهم قصة هؤلاء القوم لكي يعتبروا ويتعظوا ولا يتخلفوا عن الجهاد الذي هو باب من أبواب الجنة - كما قال الإِمام على بن أبي طالب - ولأن قوله - تعالى : { وَهُمْ أُلُوفٌ } يشعر بأنهم مع كثرة عددهم قد نكصوا على أعقابهم ، وفروا من وجوه أعدائهم وهذا شأن بني إسرائيل في كثير من أدوار تاريخهم وما قاله ابن عطية يشير إليها فهو يقول : وجعل الله هذه الآية مقدمة بين يدي أمر المؤمنين . . . بالجهاد . إلا أنه آثر وصفهم بأنهم قوم من البشر .
وللإِجابة على السؤال الثاني وهو - هل الإِماتة والإِحياء بالنسبة لهم كانا على سبيل الحقيقة - نقول : مبلغ علمنا أن المفسرين مجمعون على أن الموت كان موتاً حقيقياً حسياً لهم ، وأن إعادتهم إلى الحياة بعد ذلك كانت إعادة حقيقية حسية .
وقد خالف الأستاذ الإِمام محمد عبده إجماع المفسرين هذا فرأى أن المراد بالموت في الآية الموت المعنوي بمعنى أن موت الأمم إنما هو في جبنها وذلتها وأن حياتها إنما تكون في عزتها وحريتها ، فقد قال - رحمه الله - ما ملخصه .
" . . والمتبادر من السياق أن أولئك القوم خرجوا من ديارهم بسائق الخوف من عدو مهاجم لا من قلتهم ، فقد كانوا ألوفاً أي كثيرين ، وإنما هو الحذر من الموت الذي يولده الجبن في أنفس الجبناء ، فيريهم أن الفرار من القتال هو الواقي من الموت وما هو إلا سبب الموت بما يمكن الأعداء من رقاب أهله ، قال أبو الطيب :
يرى الجبناء أن الجبن حزم . . . وتلك خديعة الطبع اللئيم
ثم قال : لقد خرجوا فارين { فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ } أي أماتهم بإمكان العدو منهم . . . فمعنى أولئك القوم هو أن العدو نكل بهم فأفنى قوتهم وأزال استقلال أمتهم حتى صارت لا تعد أمة ، بأن تفرق شملها ، وذهبت جامعتها ، فكل من بقي من أفرادها بقي خاضعاً للغالبين ضائعاً فيهم ، لا وجود له في نفسه ، وإنما وجوده تابع لوجود غيره .
ومعنى حياتهم هو عود الاستقلال إليهم ، ذلك أن من رحمة الله في البلاء يصيب الناس أنه يكون تأديباً لهم ، ومطهراً لنفوسهم مما عرض لها من دنس الأخلاق الذميمة .
أشعر الله أولئك القوم بسوء عاقبة الخوف والجبن والفشل والتخاذل بما أذاقهم من مرارتها ، فجمعوا كلمتهم ، ووثقوا رابطتهم ، حتى عادت لهم وحدتهم ، فاعتزوا وكثروا حتى خرجوا من ذل العبودية التي كانوا فيها إلى عز الاستقلال فهذا معنى حياة الأمم وموتها " .
فأنت ترى أن الأستاذ الإِمام يرى أن الموت والحياة في الآية معنويان ، بمعنى أن موت الأم في جبنها وذلتها ، وحياتها في استقلالها وحريتها .
ولعله - رحمه الله - قد اتجه هذا الاتجاه لأن الحض على القتال في سبيل الله واضح في هذه الآيات ، ولأنه يرى أن واقع العالم الإِسلامي يومئذ وما أصابه من ظلم واستبداد واستلاب للحرية يدعوه إلى أن يحرض المسلمين على القتال في سبيل حقهم المسلوب ، وأن يحذرهم من سوء عاقبة الجبن والخنوع .
ومع أننا لا نشك في الدوافع الطيبة والبواعث الكريمة التي جعلت الأستاذ الإِمام يتجه هذا الاتجاه ، إلا أننا لا نتردد في اختيار ما ذهب إليه المفسرون من أن الموت والحياة في الآية حسيان حقيقيان ، لأنه هو الظهر من معنى الآية الكريمة ، ولأنه يتجه اتجاهاً أعم من اتجاه الإِمام محمد عبده ، لأن المفسرين يرون أن الآية واضحة في إثبات قدرة الله وفي صحة البعث ، وفي الحض على القتال في سبيل الله .
قال بعض العلماء : قوله - تعالى - : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ } الآية . " كان المشركون يستفتون اليهود في كثير من الأمور وكانت هذه القصة معلومة لليهود في أسفارهم وتواريخهم ، فنزل القرآن بالإِشارة إليها ليرتدع المشركون عما هم فيه من الضلال وإنكار البعث ، ويعلموا أن دلائل القدرة على البعث مشهورة ، وأن عند اليهود منها ما لو رجعوا إليهم فيه لعلموا أنه حق لا ريب فيه . وفي ذكر هذه القصة مع ذلك تشجيع للمؤمنين على الجهاد والتعرض للشهادة ، وتمهيد لما بعد هذه الآية " .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ } أي : إن الله - تعالى - لصاحب تفضل دائم على الناس حيث أوجدهم بهذه الصورة الحسنة ، وخلق لهم عقولا ليهتدوا بها إلى طريق الخير ، وسخر لهم الكثير مما في هذا الكون . فمن الواجب عليهم أن يشكروه وأن يطيعوه ، ولكن الذي حدث منهم أن أكثرهم لا يشكرون الله - تعالى - على ما منحهم من نعم .
وفي قوله : { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ } إنصاف للقلة الشاكرة منهم ، ومديح لهم على استقامتهم وقوة إيمانهم .
روي عن ابن عباس أنهم كانوا أربعة آلاف وعنه : كانوا ثمانية آلاف . وقال أبو صالح : تسعة آلاف وعن ابن عباس : أربعون ألفًا وقال وهب بن منبه وأبو مالك : كانوا بضعة وثلاثين ألفًا
وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كانوا أهل قرية يقال لها : داوردان . وكذا قال السدي وأبو صالح وزاد : من قبل واسط . وقال سعيد بن عبد العزيز : كانوا من أهل أذرعات ، وقال ابن جريج عن عطاء قال : هذا مثل . وقال علي بن عاصم : كانوا : من أهل داوردان : قرية على فرسخ من واسط .
وقال وكيع بن الجراح في تفسيره : حدثنا سفيان عن ميسرة بن حبيب النهدي ، عن المنهال بن عمرو الأسدي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ } قال : كانوا أربعة آلاف خرجوا فرارًا من الطاعون قالوا : نأتي أرضًا ليس بها{[4194]} موت حتى إذا كانوا بموضع كذا وكذا قال الله لهم{[4195]} موتوا فماتوا فمر عليهم نبي من الأنبياء فدعا ربه أن يحييهم فأحياهم ، فذلك قوله عز وجل : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ } الآية .
وذكر غير واحد من السلف أن هؤلاء القوم كانوا أهل بلدة في زمان بني إسرائيل استوخموا{[4196]} أرضهم وأصابهم بها وباء شديد فخرجوا فرارًا من الموت إلى البرية ، فنزلوا واديًا أفيح ، فملأوا ما بين عدوتيه فأرسل الله إليهم ملكين أحدهما من أسفل الوادي والآخر من أعلاه فصاحا بهم صيحة واحدة فماتوا عن آخرهم موتة رجل واحد فحيزوا إلى حظائر وبني عليهم جدران وقبور [ وفنوا ]{[4197]} وتمزقوا وتفرقوا فلما كان بعد دهر مَرّ بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له : حزقيل فسأل الله أن يحييهم على يديه فأجابه إلى ذلك وأمره أن يقول : أيتها العظام البالية إن الله يأمرك أن تجتمعي فاجتمع عظام كل جسد بعضها إلى بعض ، ثم أمره فنادى : أيتها العظام إن الله يأمرك بأن تكتسي لحمًا وعصبًا وجلدًا . فكان ذلك ، وهو يشاهده ثم أمره فنادى : أيتها الأرواح إن الله يأمرك أن ترجع كل روح إلى الجسد الذي كانت تعمره . فقاموا أحياء ينظرون قد أحياهم الله بعد رقدتهم الطويلة ، وهم يقولون : سبحانك [ اللهم ربنا وبحمدك ]{[4198]} لا إله إلا أنت .
وكان في إحيائهم عبرة ودليل قاطع على وقوع المعاد الجسماني يوم القيامة ولهذا قال : { إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ } أي : فيما يريهم من الآيات الباهرة والحجج القاطعة والدلالات الدامغة ، { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ } أي : لا يقومون بشكر ما أنعم الله به عليهم في دينهم ودنياهم .
وفي هذه القصة عبرة ودليل على أنه لن يغني حذر من قدر وأنه لا ملجأ من الله إلا إليه ، فإن هؤلاء فروا{[4199]} من الوباء طلبًا{[4200]} لطول الحياة فعوملوا بنقيض قصدهم وجاءهم الموت سريعًا في آن واحد .
ومن هذا القبيل الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن عيسى أخبرنا مالك وعبد الرزاق أخبرنا معمر كلاهما عن الزهري عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد [ ابن أسلم ] {[4201]} بن الخطاب عن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن عبد الله بن عباس : أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد : أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام فذكر الحديث فجاءه عبد الرحمن بن عوف وكان متغيبًا لبعض حاجته فقال : إن عندي من هذا علما ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا كان بأرض وأنتم فيها {[4202]} فلا تخرجوا فرارًا منه ، وإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه " فحمد الله عمر ثم انصرف .
وأخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري به{[4203]} .
طريق أخرى لبعضه : قال أحمد : حدثنا حجاج ويزيد العمِّي قالا أخبرنا ابن أبي ذئب عن الزهري عن سالم عن عبد الله بن عامر بن ربيعة : أن عبد الرحمن بن عوف أخبر عمر ، وهو في الشام عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أن هذا السقم عذب به الأمم قبلكم فإذا سمعتم به في أرض فلا تدخلوها وإذا وقع بأرض وأنتم فيها {[4204]} فلا تخرجوا فرارًا منه " قال : فرجع عمر من الشام .
وأخرجاه في الصحيحين من حديث مالك عن الزهري بنحوه{[4205]} .
القول في تأويل قوله : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره : " ألم تر " ، ألم تعلم ، يا محمد ؟ وهو من " رؤية القلب " لا " رؤية العين " ، لأن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم لم يدرك الذين أخبر الله عنهم هذا الخبر ، و " رؤية القلب " : ما رآه ، وعلمه به . فمعنى ذلك : ألم تعلم يا محمد ، الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف ؟ ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " وهم ألوف " . فقال بعضهم : في العدد ، بمعنى جماع " ألف " . ذكر من قال ذلك :
5596- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي= وحدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا وكيع= قال ، حدثنا سفيان ، عن ميسرة النهدي ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت " ، كانوا أربعة آلاف ، خرجوا فرارا من الطاعون ، قالوا : " نأتي أرضا ليس فيها موت " ! حتى إذا كانوا بموضع كذا وكذا ، قال لهم الله : " موتوا " . فمر عليهم نبي من الأنبياء ، فدعا ربه أن يحييهم ، فأحياهم ، فتلا هذه الآية : ( إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ) .
5597- حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا سفيان ، عن ميسرة النهدي ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت " ، قال : كانوا أربعة آلاف خرجوا فرارا من الطاعون ، فأماتهم الله ، فمر عليهم نبي من الأنبياء ، فدعا ربه أن يحييهم حتى يعبدوه ، فأحياهم .
5598- حدثنا محمد بن سهل بن عسكر قال ، أخبرنا إسماعيل بن عبد الكريم قال ، حدثني عبد الصمد : أنه سمع وهب بن منبه يقول : أصاب ناسا من بني إسرائيل بلاء وشدة من الزمان ، فشكوا ما أصابهم وقالوا : " يا ليتنا قد متنا فاسترحنا مما نحن فيه " ! فأوحى الله إلى حزقيل : إن قومك صاحوا من البلاء ، وزعموا أنهم ودوا لو ماتوا فاستراحوا ، وأي راحة لهم في الموت ؟ أيظنون أني لا أقدر أن أبعثهم بعد الموت ؟ فانطلق إلى جبانة كذا وكذا ، فإن فيها أربعة آلاف قال وهب : وهم الذين قال الله : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت " فقم فيهم فنادهم ، وكانت عظامهم قد تفرقت ، فرقتها الطير والسباع . فناداهم حزقيل فقال : " يا أيتها العظام إن الله يأمرك أن تجتمعي " ! فاجتمع عظام كل إنسان منهم معا . ثم نادى ثانية حزقيل فقال : " أيتها العظام ، إن الله يأمرك أن تكتسي اللحم " ، فاكتست اللحم ، وبعد اللحم جلدا ، فكانت أجسادا . ثم نادى حزقيل الثالثة فقال : " أيتها الأرواح ، إن الله يأمرك أن تعودي في أجسادك " ! فقاموا بإذن الله ، وكبروا تكبيرة واحدة .
5599- حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف " ، يقول : عدد كثير خرجوا فرارا من الجهاد في سبيل الله ، فأماتهم الله ، ثم أحياهم وأمرهم أن يجاهدوا عدوهم ، فذلك قوله : وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ .
5600- حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن أشعث بن أسلم البصري قال : بينما عمر يصلي ويهوديان خلفه = وكان عمر إذا أراد أن يركع خوى= فقال أحدهم لصاحبه ، أهو هو ؟ فلما انفتل عمر قال : أرأيت قول أحدكما لصاحبه : أهو هو ؟ فقالا إنا نجده في كتابنا : " قرنا من حديد ، يعطى ما يعطى حزقيل الذي أحيى الموتى بإذن الله " . فقال عمر : ما نجد في كتاب الله " حزقيل " ولا " أحيى الموتى بإذن الله " ، إلا عيسى . فقالا أما تجد في كتاب الله وَرُسُلا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ، فقال عمر : بلى ! قالا وأما إحياء الموتى فسنحدثك : إن بني إسرائيل وقع عليهم الوباء ، فخرج منهم قوم حتى إذا كانوا على رأس ميل أماتهم الله ، فبنوا عليهم حائطا ، حتى إذا بليت عظامهم بعث الله حزقيل فقام عليهم فقال شاء الله ، فبعثهم الله له ، فأنزل الله في ذلك : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف " ، الآية .
5601- حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن الحجاج بن أرطأة قال : كانوا أربعة آلاف .
5602- حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف " ، إلى قوله : ( ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ) ، قال : كانت قرية يقال لها داوردان قبل واسط ، وقع بها الطاعون ، فهرب عامة أهلها فنزلوا ناحية منها ، فهلك من بقي في القرية وسلم الآخرون ، فلم يمت منهم كبير . فلما ارتفع الطاعون رجعوا سالمين ، فقال الذين بقوا : أصحابنا هؤلاء كانوا أحزم منا ، لو صنعنا كما صنعوا بقينا ! ولئن وقع الطاعون ثانية لنخرجن معهم ! فوقع في قابل فهربوا ، وهم بضعة وثلاثون ألفا ، حتى نزلوا ذلك المكان ، وهو واد أفيح ، فناداهم ملك من أسفل الوادي وآخر من أعلاه : أن موتوا ! فماتوا ، حتى إذا هلكوا وبليت أجسادهم ، مر بهم نبي يقال له حزقيل ، فلما رآهم وقف عليهم فجعل يتفكر فيهم ويلوى شدقه وأصابعه ، فأوحى الله إليه : يا حزقيل ، أتريد أن أريك فيهم كيف أحييهم ؟ قال : وإنما كان تفكره أنه تعجب من قدرة الله عليهم فقال : نعم ! فقيل له : ناد ! فنادى : " يا أيتها العظام ، إن الله يأمرك أن تجتمعي ! " ، فجعلت تطير العظام بعضها إلى بعض ، حتى كانت أجسادا من عظام ، ثم أوحى الله إليه أن ناد : " يا أيتها العظام ، إن الله يأمرك أن تكتسي لحما " ، فاكتست لحما ودما ، وثيابها التي ماتت فيها وهي عليها . ثم قيل له : ناد ! فنادى : " يا أيتها الأجساد إن الله يأمرك أن تقومي " ، فقاموا .
5603- حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، قال : فزعم منصور بن المعتمر ، عن مجاهد : أنهم قالوا حين أحيوا : " سبحانك ربنا وبحمدك لا إله إلا أنت " ، فرجعوا إلى قومهم أحياء يعرفون أنهم كانوا موتى ، سحنة الموت على وجوههم ، لا يلبسون ثوبا إلا عاد دسما مثل الكفن ، حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم .
5604- حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا عبد الرحمن بن عوسجة ، عن عطاء الخراساني : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف " ، قال : كانوا ثلاثة آلاف أو أكثر .
5605- حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس : كانوا أربعين ألفا وثمانية آلاف ، حظر عليهم حظائر ، وقد أروحت أجسادهم وأنتنوا ، فإنها لتوجد اليوم في ذلك السبط من اليهود تلك الريح ، وهم ألوف فرارا من الجهاد في سبيل الله ، فأماتهم الله ثم أحياهم ، فأمرهم بالجهاد ، فذلك قوله : وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الآية .
5606- حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة قال ، حدثنا محمد بن إسحاق ، عن وهب بن منبه أن كالب بن يوقنا لما قبضه الله بعد يوشع ، خلف فيهم - يعني في بني إسرائيل - حزقيل بن بوزي وهو ابن العجوز ، وإنما سمي " ابن العجوز " أنها سألت الله الولد وقد كبرت وعقمت ، فوهبه الله لها ، فلذلك قيل له " ابن العجوز " وهو الذي دعا للقوم الذين ذكر الله في الكتاب لمحمد صلى الله عليه وسلم كما بلغنا : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون " . .
5607- حدثني ابن حميد قال ، حدثنا سلمة قال ، حدثني محمد بن إسحاق قال : بلغني أنه كان من حديثهم أنهم خرجوا فرارا من بعض الأوباء من الطاعون ، أو من سقم كان يصيب الناس حذرا من الموت ، وهم ألوف ، حتى إذا نزلوا بصعيد من البلاد قال لهم الله : " موتوا " ، فماتوا جميعا . فعمد أهل تلك البلاد فحظروا عليهم حظيرة دون السباع ، ثم تركوهم فيها ، وذلك أنهم كثروا عن أن يغيبوا . فمرت بهم الأزمان والدهور ، حتى صاروا عظاما نخرة ، فمر بهم حزقيل بن بوزى ، فوقف عليهم ، فتعجب لأمرهم ودخلته رحمة لهم ، فقيل له : أتحب أن يحييهم الله ؟ فقال : نعم ! فقيل له : نادهم فقل : " أيتها العظام الرميم التي قد رمت وبليت ، ليرجع كل عظم إلى صاحبه " . فناداهم بذلك ، فنظر إلى العظام تواثب يأخذ بعضها بعضا . ثم قيل له : قل : " أيها اللحم والعصب والجلد ، اكس العظام بإذن ربك " ، قال : فنظر إليها والعصب يأخذ العظام ثم اللحم والجلد والأشعار ، حتى استووا خلقا ليست فيهم الأرواح . ثم دعا لهم بالحياة ، فتغشاه من السماء شيء كربه حتى غشي عليه منه ، ثم أفاق والقوم جلوس يقولون : " سبحان الله ، سبحان الله " قد أحياهم الله .
وقال آخرون : معنى قوله " وهم ألوف " وهم مؤتلفون . ذكر من قال ذلك :
5608- حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب ، قال ابن زيد في قول الله : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم " ، قال : قرية كانت نزل بها الطاعون ، فخرجت طائفة منهم وأقامت طائفة ، فألح الطاعون بالطائفة التي أقامت ، والتي خرجت لم يصبهم شيء . ثم ارتفع ، ثم نزل العام القابل ، فخرجت طائفة أكثر من التي خرجت أولا فاستحر الطاعون بالطائفة التي أقامت . فلما كان العام الثالث ، نزل فخرجوا بأجمعهم وتركوا ديارهم ، فقال الله تعالى ذكره : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف " ، ليست الفرقة أخرجتهم ، كما يخرج للحرب والقتال ، قلوبهم مؤتلفة ، إنما خرجوا فرارا . فلما كانوا حيث ذهبوا يبتغون الحياة ، قال لهم الله : " موتوا " ، في المكان الذي ذهبوا إليه يبتغون فيه الحياة . فماتوا ، ثم أحياهم الله ، إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ . قال : ومر بها رجل وهي عظام تلوح ، فوقف ينظر فقال : " أنى يحيي هذه الله بعد موتها ؟ " ، فأماته الله مائة عام .
ذكر الأخبار عمن قال : كان خروج هؤلاء القوم من ديارهم فرارا من الطاعون .
5609- حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن الأشعث ، عن الحسن في قوله : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت " ، قال . خرجوا فرارا من الطاعون ، فأماتهم قبل آجالهم ، ثم أحياهم إلى آجالهم .
5610- حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن الحسن في قوله : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت " ، قال : فروا من الطاعون ، فقال لهم الله : ( مُوتُوا ) ثم أحياهم ليكملوا بقية آجالهم .
5611- حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن عمرو بن دينار في قول الله تعالى ذكره : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت " ، قال : وقع الطاعون في قريتهم ، فخرج أناس وبقي أناس ، فهلك الذين بقوا في القرية ، وبقي الآخرون . ثم وقع الطاعون في قريتهم الثانية ، فخرج أناس وبقي أناس ، ومن خرج أكثر ممن بقي . فنجى الله الذين خرجوا ، وهلك الذين بقوا . فلما كانت الثالثة خرجوا بأجمعهم إلا قليلا فأماتهم الله ودوابهم ، ثم أحياهم فرجعوا إلى بلادهم [ وقد أنكروا قريتهم ، ومن تركوا ] . وكثروا بها ، حتى يقول بعضهم لبعض : من أنتم ؟
5612- حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح قال : سمعت عمرو بن دينار يقول : وقع الطاعون في قريتهم ثم ذكر نحو حديث محمد بن عمرو ، عن أبي عاصم .
5613- حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا سويد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف " الآية ، مقتهم الله على فرارهم من الموت ، فأماتهم الله عقوبة ، ثم بعثهم إلى بقية آجالهم ليستوفوها ، ولو كانت آجال القوم جاءت ما بعثوا بعد موتهم .
5614- حدثت عن عمار بن الحسن قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن حصين ، عن هلال بن يساف في قوله تعالى : " ألم تر إلى الذين خرجوا " الآية ، قال : هؤلاء القوم من بني إسرائيل ، كان إذا وقع فيهم الطاعون خرج أغنياؤهم وأشرافهم ، وأقام فقراؤهم وسفلتهم . قال : فاستحر الموت على المقيمين منهم ، ونجا من خرج منهم . فقال الذين خرجوا : لو أقمنا كما أقام هؤلاء ، لهلكنا كما هلكوا ! وقال المقيمون : لو ظعنا كما ظعن هؤلاء ، لنجونا كما نجوا ! فظعنوا جميعا في عام واحد ، أغنياؤهم وأشرافهم وفقراؤهم وسفلتهم . فأرسل عليهم الموت فصاروا عظاما تبرق . قال : فجاءهم أهل القرى فجمعوهم في مكان واحد ، فمر بهم نبي فقال : يا رب لو شئت أحييت هؤلاء فعمروا بلادك وعبدوك ! قال : أو أحب إليك أن أفعل ؟ قال نعم ! قال : فقل : كذا وكذا ، فتكلم به ، فنظر إلى العظام ، وإن العظم ليخرج من عند العظم الذي ليس منه إلى العظم الذي هو منه . ثم تكلم بما أمر ، فإذا العظام تكسى لحما . ثم أمر بأمر فتكلم به ، فإذا هم قعود يسبحون ويكبرون . ثم قيل لهم : وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ .
5615- حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني سعيد بن أبي أيوب ، عن حماد بن عثمان ، عن الحسن : أنه قال في الذين أماتهم الله ثم أحياهم قال : هم قوم فروا من الطاعون ، فأماتهم الله عقوبة ومقتا ، ثم أحياهم لآجالهم .
قال أبو جعفر : وأولى القولين في تأويل قوله : " وهم ألوف " بالصواب ، قول من قال : " عنى بالألوف كثرة العدد " دون قول من قال : " عنى به الائتلاف " ، بمعنى ائتلاف قلوبهم ، وأنهم خرجوا من ديارهم من غير افتراق كان منهم ولا تباغض ، ولكن فرارا : إما من الجهاد ، وإما من الطاعون لإجماع الحجة على أن ذلك تأويل الآية ، ولا يعارض بالقول الشاذ ما استفاض به القول من الصحابة والتابعين .
وأولى الأقوال- في مبلغ عدد القوم الذين وصف الله خروجهم من ديارهم- بالصواب ، قول من حد عددهم بزيادة عن عشرة آلاف ، دون من حده بأربعة آلاف ، وثلاثة آلاف ، وثمانية آلاف . وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر عنهم أنهم كانوا ألوفا ، وما دون العشرة آلاف لا يقال لهم : " ألوف " . وإنما يقال " هم آلاف " ، إذا كانوا ثلاثة آلاف فصاعدا إلى العشرة آلاف . وغير جائز أن يقال : هم خمسة ألوف ، أو عشرة ألوف .
وإنما جمع قليله على " أفعال " ، ولم يجمع على " أفعل " مثل سائر الجمع القليل الذي يكون ثاني مفرده ساكنا للألف التي في أوله . وشأن العرب في كل حرف كان أوله ، ياء أو واوا أو ألفا ، اختيار جمع قليله على أفعال ، كما جمعوا " الوقت " " أوقاتا " و " اليوم " " أياما " ، و " اليسر " و " أيسارا " ، للواو والياء اللتين في أول ذلك . وقد يجمع ذلك أحيانا على " أفعل " ، إلا أن الفصيح من كلامهم ما ذكرنا ، ومنه قول الشاعر :
كانوا ثلاثة آلف وكتيبة ***ألفين أعجم من بني الفدام
وأما قوله : " حذر الموت " ، فإنه يعني : أنهم خرجوا من حذر الموت ، فرارا منه . كما :
5616- حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " حذر الموت " ، فرارا من عدوهم ، حتى ذاقوا الموت الذي فروا منه . فأمرهم فرجعوا ، وأمرهم أن يقاتلوا في سبيل الله ، وهم الذين قالوا لنبيهم : ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .
قال أبو جعفر : وإنما حث الله تعالى ذكره عباده بهذه الآية ، على المواظبة على الجهاد في سبيله ، والصبر على قتال أعداء دينه . وشجعهم بإعلامه إياهم وتذكيره لهم ، أن الإماتة والإحياء بيديه وإليه ، دون خلقه وأن الفرار من القتال والهرب من الجهاد ولقاء الأعداء ، إلى التحصن في الحصون ، والاختباء في المنازل والدور ، غير منج أحدا من قضائه إذا حل بساحته ، ولا دافع عنه أسباب منيته إذا نزل بعقوته ، كما لم ينفع الهاربين من الطاعون ، الذين وصف الله تعالى ذكره صفتهم في قوله : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت " فرارهم من أوطانهم ، وانتقالهم من منازلهم إلى الموضع الذي أملوا بالمصير إليه السلامة ، وبالموئل النجاة من المنية ، حتى أتاهم أمر الله ، فتركهم جميعا خمودا صرعى ، وفي الأرض هلكى ، ونجا مما حل بهم الذين باشروا كرب الوباء ، وخالطوا بأنفسهم عظيم البلاء .
القول في تأويل قوله : إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : إن الله لذو فضل ومن . على خلقه ، بتبصيره إياهم سبيل الهدى ، وتحذيره لهم طرق الردى ، وغير ذلك من نعمه التي ينعمها عليهم في دنياهم ودينهم ، وأنفسهم وأموالهم- كما أحيى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت بعد إماتته إياهم ، وجعلهم لخلقه مثلا وعظة يتعظون بهم ، عبرة يعتبرون بهم ، وليعلموا أن الأمور كلها بيده ، فيستسلموا لقضائه ، ويصرفوا الرغبة كلها والرهبة إليه .
ثم أخبر تعالى ذكره أن أكثر من ينعم عليه من عباده بنعمه الجليلة ، ويمن عليه بمننه الجسيمة ، يكفر به ويصرف الرغبة والرهبة إلى غيره ، ويتخذ إلها من دونه ، كفرانا منه لنعمه التي توجب أصغرها عليه من الشكر ما يفدحه ، ومن الحمد ما يثقله ، فقال تعالى ذكره : " ولكن أكثر الناس لا يشكرون " ، يقول : لا يشكرون نعمتي التي أنعمتها عليهم ، وفضلي الذي تفضلت به عليهم ، بعبادتهم غيري ، وصرفهم رغبتهم ورهبتهم إلى من دوني ممن لا يملك لهم ضرا ولا نفعا ، ولا يملك موتا ولا حياة ولا نشورا .
{ أَلَمْ تَرَ } تعجيب وتقرير لمن سمع بقصتهم من أهل الكتاب وأرباب التواريخ ، وقد يخاطب به من لم ير ومن لم يسمع فإنه صار مثلاً في التعجب . { إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن ديارهم } يريد أهل داوردان قرية قبل واسط وقع فيها طاعون فخرجوا هاربين ، فأماتهم الله ثم أحياهم ليعتبروا ويتيقنوا أن لا مفر من قضاء الله تعالى وقدره . أو قوماً من بني إسرائيل دعاهم ملكهم إلى الجهاد ففروا حذر الموت فأماتهم الله ثمانية أيام ثم أحياهم . { وَهُمْ أُلُوفٌ } أي ألوف كثيرة . قيل عشرة . وقيل ثلاثون . وقيل سبعون وقيل متألفون جمع إلف أو آلف كقاعد وقعود والواو للحال . { حَذَرَ الموت } مفعول له . { فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ } أي قال لهم موتوا فماتوا كقوله : { كُنْ فَيَكُونُ } والمعنى أنهم ماتوا ميتة رجل واحد من غير علة ، بأمر الله تعالى ومشيئته . وقيل ناداهم به ملك وإنما أسند إلى الله تعالى تخويفاً وتهويلاً . { ثُمَّ أحياهم } قيل مر حزقيل عليه السلام على أهل داوردان وقد عريت عظامهم وتفرقت أوصالهم ، فتعجب من ذلك فأوحى الله تعالى إليه ناد فيهم أن قوموا بإذن الله تعالى ، فنادى فقاموا يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إِلا أنت . وفائدة القصة تشجيع المسلمين على الجهاد والتعرض للشهادة ، وحثهم على التوكل والاستسلام للقضاء . { إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس } حيث أحياهم ليعتبروا ويفوزوا وقص عليهم حالهم ليستبصروا { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ } أي لا يشكرونه كما ينبغي ، ويجوز أن يراد بالشكر الاعتبار والاستبصار .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ( 243 )
هذه رؤية القلب بمعنى : ألم تعلم ، والكلام عند سيبويه بمعنى تنبه إلى أمر الذين ، ولا تحتاج هذه الرؤية إلى مفعولين( {[2350]} ) ، وقصة هؤلاء فيما قال الضحاك( {[2351]} ) هي أنهم قوم من بني إسرائيل أمروا بالجهاد ، فخافوا الموت بالقتل في الجهاد ، فخرجوا من ديارهم فراراً من ذلك ، فأماتهم الله ليعرفهم أنه لا ينجيهم من الموت شيء ، ثم أحياهم وأمرهم بالجهاد بقوله { وقاتلوا في سبيل الله } [ البقرة : 190 ، 244 ] الآية ، وحكى قوم من اليهود لعمر بن الخطاب رضي الله عنه أن جماعة من بني إسرائيل وقع فيهم الوباء ، فخرجوا من ديارهم فراراً منه ، فأماتهم الله ، فبنى عليهم سائر بني إسرائيل حائطاً ، حتى إذا بليت عظامهم بعث الله حزقيل النبي عليه السلام ، فدعا الله فأحياهم له ، وقال السدي : «هم أمة كانت قبل واسط في قرية يقال لها داوردان ، وقع بها الطاعون فهربوا منه وهم بضعة وثلاثون ألفاً » . في حديث طويل ، ففيهم نزلت الآية . وقال إنهم فروا من الطاعون الحسن وعمرو بن دينار . وحكى النقاش أنهم فروا من الحمى . وحكى فيهم مجاهد أنهم لما أحيوا رجعوا إلى قومهم يعرفون . لكن سحنة الموت( {[2352]} ) على وجوههم . ولا يلبس أحد منهم ثوباً إلا عاد كفناً رميماً حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم ، وروى ابن جريج عن ابن عباس أنهم كانوا من بني إسرائيل ، وأنهم كانوا أربعين ألفاً وثمانية آلاف ، وأنهم أميتوا ثم أحيوا وبقيت الرائحة على ذلك السبط من بني إسرائيل إلى اليوم ، فأمرهم الله بالجهاد ثانية فذلك قوله { وقاتلوا في سبيل الله } [ البقرة : 190- 244 ] .
قال القاضي أبو محمد : وهذا القصص كله لين الأسانيد( {[2353]} ) ، وإنما اللازم من الآية أن الله تعالى أخبر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أخباراً في عبارة التنبيه والتوقيف ، عن قوم من البشر خرجوا من ديارهم فراراً من الموت ، فأماتهم الله تعالى ثم أحياهم ، ليروا هم وكل من خلف بعدهم أن الإماتة إنما هي بيد الله لا بيد غيره ، فلا معنى لخوف خائف ولاغترار مغتر ، وجعل الله تعالى هذه الآية مقدمة بين يدي أمره المؤمنين من أمة محمد بالجهاد . هذا قول الطبري ، وهو ظاهر رصف الآية ، ولموردي القصص في هذه القصة زيادات اختصرتها لضعفها . واختلف الناس في لفظ { ألوف } . فقال الجمهور : هي جمع ألف . وقال بعضهم : كانوا ثمانين ألفاً . وقال ابن عباس : «كانوا أربعين ألفاً » . وقيل : كانوا ثلاثين ألفاً . وهذا كله يجري مع { ألوف } إذ هو جمع الكثير ، وقال ابن عباس أيضاً : «كانوا ثمانية آلاف » ، وقال أيضاً : أربعة آلاف ، وهذا يضعفه لفظ { ألوف } لأنه جمع الكثير( {[2354]} ) . وقال ابن زيد في لفظ { ألوف } : «إنما معناها وهم مؤتلفون » أي لم تخرجهم فرقة قومهم ولا فتنة بينهم .
إنما كانوا مؤتلفين ، فخالفت هذه الفرقة فخرجت فراراً من الموت وابتغاء الحياة ، فأماتهم الله في منجاهم بزعمهم( {[2355]} ) .
وقوله تعالى : { فقال لهم الله موتوا } الآية ، إنما هي مبالغة في العبارة عن فعله بهم . كان ذلك الذي نزل بهم فعل من قيل له : مت ، فمات ، وحكي أن ملكين صاحا بهم : موتوا ، فماتوا . فالمعنى قال لهم الله بواسطة الملكين . وهذا الموت ظاهر الآية ، وما روي في قصصها أنه موت حقيقي فارقت فيها الأرواح الأجساد ، وإذا كان ذلك فليس بموت آجالهم ، بل جعله الله في هؤلاء كمرض حادث مما يحدث على البشر( {[2356]} ) . وقوله تعالى : { إن الله لذو فضل على الناس } الآية ، تنبيه على فضل الله على هؤلاء القوم الذين تفضل عليهم بالنعم وأمرهم بالجهاد ، وأمرهم بأن لا يجعلوا الحول والقوة إلاّ له ، حسبما أمر جميع العالم بذلك ، فلم يشكروا نعمته في جميع هذا ، بل استبدوا وظنوا أن حولهم وسعيهم ينجيهم . وهذه الآية تحذير لسائر الناس من مثل هذا الفعل ، أي فيجب أن يشكر الناس فضل الله في إيجاده لهم ورزقه إياهم وهدايته بالأوامر والنواهي ، فيكون منهم الجري إلى امتثالها لا طلب الخروج عنها ، وتخصيصه تعالى الأكثر دلالة على الأقل الشاكر .