وبعد هذا البيان الحكيم ، يتجه القرآن إلى المؤمنين بالتثبيت والتعزية فينهاهم عن أسباب الفشل والضعف ، ويأمرهم بالصمود وقوة اليقين . ويبشرهم بأنهم هم الأعلون فيقول : { وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } .
وقوله { تَهِنُوا } من الوهن - بسكون الهاء وفتحها - وهو الضعف . وأصله ضعف الذات كما فى قوله - تعالى - حكاية عن زكريا : { قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي }
وهو هنا مجاز عن خور العزيمة ، وضعف الإرادة ، وانقلاب الرجاء يأساً والشجاعة جبنا ، واليقين شكا ، ولذلك نهوا عنه .
وقوله : { تَحْزَنُوا } من الحزن وهو ألم نفسى يصيب الإنسان عند فقد ما يحب أو عدم إدراكه ، أو عند نزول أمر يجعل النفس فى هم وقلق .
والمقصود من النهى عن الوهن والحزن ، النهى عن سببهما وعن الاسترسال فى الألم مما أصابهم فى غزوة أحد .
والمعنى : لا تسترسلوا - أيها المؤمنون - فى الهم والألم مما أصابكم فى يوم أحد ، ولا تضعفوا عن جهاد أعدائكم فإن الضعف ليس من صفات المؤمنين ، ولا تحزنوا على من قتل منكم فإن هؤلاء القتلى من الشهداء الذين لهم منزلتهم السامية عند الله .
وقوله : { وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ } جملة حالية من ضمير الجماعة فى ولا تهنوا ولا تحزنوا والمقصوج بها بشارتهم وتسليتهم وإدخال الطمأنينة على قلوبهم .
أى لا تضعفوا ولا تحزنوا والحال أنكم أنتم الأعلون الغالبون دون عدوكم فأنتم قد أصبتم منهم فى غزوة بدر أكثر مما أصابوا منكم فى غزوة أحد . وأنتم تقاتلون من أجل إعلاء كلمة الله وهم يقاتلون فى سبيل الطاغوت .
وأنتم سيكون لكم النصر عليهم فى النهاية ، لأن الله - تعالى - قد وعدكم بذلك فهو القائل : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد } . وقوله : { إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } جملة شرطية ، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله .
أى : إن كنتم مؤمنين حقا فلا تهنوا ولا تحزنوا بل اعتبروا بمن سبقكم ولا تعودوا لما وقعتم فيه من أخطاء يوجب قوة القلب ، وصدق العزيمة ، والصمود فى وجه الأعداء ، والإصرار على قتالهم حتى تكون كلمة الله هى العليا .
والتعليق بالشرط فى قوله { إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } : المراد منه التهييج لنفوسهم حتى يكون تمسكها بالإيمان أشد وأقوى ، إذ قد علم الله - تعالى - أنهم مؤمنون ، ولكنهم لما لاح عليهم الوهن والحزن بسبب ما أصابهم فى أحد صاروا بمنزلة من ضعف يقينه ، فقيل لهم : إن كنتم مؤمنين حقا فاتركوا الوهن والحزن وجدوا فى قتال أعدائكم ، فإن سنة الله فى خلقه اقتضت أن تصيبوا من أعدائكم وأن تصابوا منهم إلا أن العاقبة ستكون لكم .
فالآية الكريمة تحريض للمؤمنين على الجهاد والصبر ، وتشجيع على القتال وتسلية لهم عما أصابهم ، وبشارة بأن النصر فى النهاية سيكون حليفهم .
{ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مّؤْمِنِينَ }
وهذا من الله تعالى ذكره تعزية لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما أصابهم من الجراح والقتل بأُحد ، قال : ولا تهنوا ولا تحزنوا يا أصحاب محمد ، يعني ولا تضعفوا بالذي نالكم من عدوّكم بأُحد من القتل والقروح ، عن جهاد عدوكم وحربهم ، من قول القائل : وهن فلان في هذا الأمر فهو يهن وهنا : { وَلا تَحْزَنُوا } : ولا تأسوا فتجزعوا على ما أصابكم من المصيبة يومئذ ، فإنكم أنتم الأعلون ، يعني الظاهرون عليهم ، ولكم العقبى في الظفر والنصرة عليهم ، يقول : إن كنتم مؤمنين ، يقول : إن كنتم مصدّقي في نبيي محمد صلى الله عليه وسلم فيما يعدكم ، وفيما ينبئكم من الخبر عما يئول إليه أمركم وأمرهم . كما :
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن يونس ، عن الزهري ، قال : كثر في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم القتل والجراح ، حتى خلص إلى كل امرىء منهم اليأس ، فأنزل الله عزّ وجلّ القرآن ، فآسى فيه المؤمنين بأحسن ما آسى به قوما من المسلمين كانوا قبلهم من الأمم الماضية فقال : { وَلاَ تَهنُوا وَلا تَحْزَنُوا وأنتُمُ الأعْلَوْنَ إنْ كُنْنُمْ مُوءْمِنِينَ } إلى قوله : { لَبَرَزَ الّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ القَتْلُ إلى مَضَاجِعِهِمْ } .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَلاَ تَهْنُوا وَلا تَحْزَنُوا وأنتُمُ الأعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُوءْمِنِينَ } : يعزّي أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كما تسمعون ، ويحثهم على قتال عدوّهم ، وينهاهم عن العجز والوهن في طلب عدوّهم في سبيل الله .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، قال : حدثنا عباد ، عن الحسن ، في قوله : { وَلاَ تَهْنُوا وَلا تَحْزَنُوا وأنتُمُ الأعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُوءْمِنِينَ } قال : يأمر محمدا يقول : ولا تهنوا أن تمضوا في سبيل الله .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ : { وَلاَ تَهْنُوا } : ولا تضعفوا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، في قوله : { وَلاَ تَهْنُوا وَلا تَحْزَنُوا } يقول : ولا تضعفوا .
حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { وَلاَ تَهْنُوا } قال ابن جريج : ولا تضعفوا في أمر عدوكم ، { وَلا تَحْزَنُوا وأنتُمُ الأعْلَوْنَ } قال : انهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب ، فقالوا : ما فعل فلان ؟ ما فعل فلان ؟ فنعى بعضهم بعضا ، وتحدثوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل ، فكانوا في همّ وحزن . فبينما هم كذلك ، إذ علا خالد بن الوليد الجبل بخيل المشركين فوقهم وهم أسفل في الشعب¹ فلما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم فرحوا ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «اللّهُمّ لا قُوّةَ لَنا إلاّ بِكَ ، ولَيْسَ يَعْبُدُكَ بِهَذِهِ البَلْدَةِ غَيْرُ هَولاءِ النّفَرِ » . قال : وثاب نفر من المسلمين رماة ، فصعدوا ، فرموا خيل المشركين حتى هزمهم الله ، وعلا المسلمون الجبل¹ فذلك قوله : { وأنتُمُ الأعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُوءْمِنِينَ } .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { وَلاَ تَهْنُوا } أي لا تضعفوا ، { وَلا تَحْزَنُوا } ولا تأسوا على ما أصابكم ، { وأنتُمُ الأعْلَوْنَ } أي لكم تكون العاقبة والظهور ، { إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } : إن كنتم صدقتم نبيي بما جاءكم به عني .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : أقبل خالد بن الوليد يريد أن يعلو عليهم الجبل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «اللّهُمّ لا يَعْلُونَ عَلَيْنَا ! » فأنزل الله عزّ وجلّ : { وَلاَ تَهْنُوا وَلا تَحْزَنُوا وأنتُمُ الأعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.