ثم ساق القرآن للنبي صلى الله عليه وسلم ما يسليه ويثبته فقال : { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بالحق بَشِيراً . . . }
قوله : { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بالحق بَشِيراً وَنَذِيراً } معناه : إنا أرسلناك يا محمد بالدين الصحيح المشتمل على الأحكام الصادقة ، لتبشر بالثواب من آمن وعمل صالحاً ، وتنذر بالعقاب من كفر وعصى .
وصدرت الآية الكريمة بحرف التأكيد ، لمزيد الاهتمام بهذا الخبر ، وللتنويه بشأن الرسول صلى الله عليه وسلم .
وجيء بالمسند إليه ضمير الجلالة ، تشريفاً للنبي صلى الله عليه وسلم فكأن الله - تعالى - يشافهه بهذا الكلام بدون واسطة ، ولذا لم يقل له إن الله أرسلك .
وقوله : { بالحق } متعلق بأرسلناك . والحق : مأخوذ من حق الشيء ، أي : واجب وثبت ، ويطلق الحق على الحكم الصادق المطابق للواقع ، ويسمى الدين الصحيح حقاً لاشتماله على الأحكام الصادقة .
وقوله : { بَشِيراً وَنَذِيراً } حالان ، والبشير : المبشر ، وهو المخبر بالأمر السار للمخبر به الذي لم يسبق له علم به . والنذير : المنذر ، وهو المخبر بالأمر المخوف ليحذر منه .
وجملة { وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الجحيم } معطوف على جملة { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ } .
والجحيم : المتأجج من النار . وأصحابها : الملازمون لها . والسؤال : كناية عن المؤاخذة واللوم .
والمعنى : لا تذهب نفسك عليهم حسرات يا محمد ، فإن وظيفتك أن تبشر وتنذر ولست بعد ذلك مؤاخذاً ببقاء الكافرين على كفرهم ، ولست مسؤولا عن عدم اهتدائهم { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب } وفي وصفهم بأنهم أصحاب الجحيم ، إشعار بأنهم قد طبع على قلوبهم ، فصاروا لا يرجى منها الرجوع عن الكفر .
وفي هذه الجملة مع قوله : { بَشِيراً وَنَذِيراً } تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم حيث لم يؤمن به أولئك الجاحدون المتعنتون .
[ قوله تعالى ]{[2609]} { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ }
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الرحمن بن صالح ، حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله الفزاري عن شيبان النحوي ، أخبرني قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أنزلت علي : { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } قال : " بشيرًا بالجنة ، ونذيرًا من النار " {[2610]} .
وقوله : { وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ } قراءة أكثرهم{[2611]} { وَلا تُسْأَلُ } بضم التاء على الخبر . وفي قراءة أبي بن كعب : " وما تسأل " وفي قراءة ابن مسعود : " ولن تسأل عن أصحاب الجحيم "
نقلهما{[2612]} ابن جرير ، أي : لا نسألك عن كفر من كفر بك ، { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } [ الرعد : 40 ] وكقوله تعالى :
{ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمصَيْطِرٍ } الآية [ الغاشية : 21 ، 22 ] وكقوله تعالى : { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ } [ ق : 45 ] وأشباه ذلك من الآيات .
وقرأ آخرون{[2613]} " ولا تَسْأَلْ عن أصحاب الجحيم " بفتح التاء على النهي ، أي : لا تسأل عن حالهم ، كما قال عبد الرزاق :
أخبرنا الثوري ، عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب القرظي ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليت شعري ما فعل أبواي ، ليت شعري ما فعل أبواي ، ليت شعري ما فعل أبواي ؟ " . فنزلت : { وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ } فما ذكرهما {[2614]} حتى توفاه الله ، عز وجل .
ورواه ابن جرير ، عن أبي كُرَيب ، عن وَكِيع ، عن موسى بن عبيدة ، [ وقد تكلموا فيه عن محمد بن كعب ]{[2615]} بمثله{[2616]} وقد حكاه القرطبي عن ابن عباس ومحمد بن كعب قال القرطبي : وهذا كما يقال لا تسأل عن فلان ؛ أي : قد بلغ فوق ما تحسب ، وقد ذكرنا في التذكرة أن الله أحيا له أبويه حتى آمنا ، وأجبنا عن قوله : ( إن أبي وأباك في النار ) . ( قلت ) : والحديث المروي في حياة أبويه عليه السلام ليس في شيء من الكتب الستة ولا غيرها ، وإسناده ضعيف والله أعلم .
ثم قال [ ابن جرير ]{[2617]} وحدثني القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، أخبرني داود بن أبي عاصم : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم : " أين أبواي ؟ " . فنزلت : { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ }{[2618]} .
وهذا مرسل كالذي قبله . وقد رد ابن جرير هذا القول المروي عن محمد بن كعب [ القرظي ]{[2619]} وغيره في ذلك ، لاستحالة الشك من الرسول صلى الله عليه وسلم في أمر أبويه . واختار القراءة الأولى . وهذا الذي سلكه هاهنا فيه نظر ، لاحتمال أن هذا كان في حال استغفاره لأبويه قبل أن يعلم أمرهما ، فلما علم ذلك تبرأ منهما ، وأخبر عنهما أنهما من أهل النار [ كما ثبت ذلك في الصحيح ]{[2620]} ولهذا أشباه كثيرة ونظائر ، ولا يلزم ما ذكر{[2621]} ابن جرير . والله أعلم .
وقال الإمام أحمد : حدثنا موسى بن داود ، حدثنا فُلَيح بن سليمان ، عن هلال بن علي ، عن عطاء بن يسار ، قال : لقيت عبد الله بن عَمْرو بن العاص ، فقلت : أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة . فقال : أجل ، والله إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن : يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا ، وحرزًا للأميين ، وأنت عبدي ورسولي ، سميتك المتوكل ، لا فظٍّ ولا غليظ ولا سَخَّاب في الأسواق ، ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر ، ولن يقبضه حتى يقيم به الملة العوجاء ، بأن يقولوا : لا إله إلا الله . فيفتح به أعينا عُمْيًا ، وآذانًا صُمًّا ، وقلوبا غُلْفًا .
انفرد بإخراجه البخاري ، فرواه في البيوع عن محمد بن سنان ، عن فُلَيح ، به{[2622]} . وقال : تابعه عبد العزيز بن أبي سلمة ، عن هلال . وقال سعيد : عن هلال ، عن عطاء ، عن عبد الله بن سلام . ورواه في التفسير عن عبد الله ، عن عبد العزيز بن أبي سلمة ، عن هلال ، عن عطاء ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، به{[2623]} . فذكر نحوه ، فعبد الله هذا هو ابن صالح ، كما صرح به في كتاب الأدب . وزعم أبو مسعود الدمشقي أنه عبد الله بن رجاء .
وقد رواه الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه في تفسير هذه الآية من البقرة ، عن أحمد بن الحسن بن أيوب ، عن محمد بن أحمد بن البراء ، عن المعافَى بن سليمان ، عن فليح ، به . وزاد : قال عطاء : ثم لقيت كعب الأحبار ، فسألته فما اختلفا في حرف ، إلا أن كعبًا قال بلُغَتِهِ : أعينًا عمومى ، وآذانًا صمومى ، وقلوبًا غلوفًا{[2624]}
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.