ثم بين - سبحانه - مظاهر فضله وكرمه على بنى إسرائيل بعد أ ، بين نهاية فرعون وآله فقال : { وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا التي بَارَكْنَا فِيهَا } .
أى : وأعطينا القوم الذين كانوا يستضعفون في مصر من فرعون وملئه بالاستعباد وقتل الأبناء ، وسوء العذاب ، أعطيناهم من طريق الاستخلاف - قبل أن يزيغوا ويضلوا - مشارق أرض الشام ومغاربها التي باركنا فيها بالخصوبة وسعة الأرزاق ، وبكونها مساكن الأنبياء والصالحين ليكون ذلك امتحانا لهم ، واختبارا لنفوسهم .
وجمع - سبحانه - بين صيغتى الماضى والمستقبل للدلالة على استمرار الاستضعاف وتجدده ، والمراد بهم بنو إسرائيل ، وذكروا بعنوان القوم ، إظهارا لكمال اللطف بهم ، وعظيم الإحسان إليهم ، حيث رفعوا من حضيض المذلة إلى أوج العزة .
وقوله : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحسنى على بني إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ } ، أى : ونفذت كلمة الله الحسنى ومضت عليهم تامة كاملة ، حيث رزقهم - سبحانه - النصر على أعدائهم . والتمكين في الأرض بسبب صبرهم على ظلم فرعون وملئه .
قال الزمخشرى : وحسبك به حاثا على الصبر . ودالا على أن من قابل البلاء بالجزع وكله الله إليه . ومن قابله بالصبر ، وانتظار النصر ، ضمن الله له الفرج .
وعن الحسن : عجبت ممن خف كيف خف وقد سمع قوله - تعالى - ثم تلا هذه الآية { وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ . . . } ومعنى " خف " طاش جزعا وقلة صبر ، ولم يرزق رزانة أولى الصبر " .
ثم ختمت الآية بقوله - تعالى - { وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ } من بناء القصور الشاهقة والمنازل القوية ، وما كانوا يرفعونه من البساتين ، والصروح المشيدة ، كصرح هامان وغيره .
و { يَعْرِشُونَ } بكسر الراء وضمها - أى يرفعون من العرش وهو الشىء المسقف المرفوع .
قال الجمل : وقوله { وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ } في إعرابه أوجه :
أحدها : أن يكون فرعن اسم كان ويصنع خبر مقدم ، والجملة الكونية صلة والعائد محذوف . والتقدير : ودمرنا الذي كان فرعون يصنعه .
والثانى : أن اسم كان ضمير عائد على ما الموصولة ، ويصنع مسند لفرعون . والجملة خبر عن كان ، والعائد محذوف ، والتقدير : ودمرنا الذي كان هو يصنعه فرعون .
الثالث : أن تكون كان زائدة وما مصدرية والتقدير ودمرنا ما يصنع فرعون أى : صنعه " .
وهكذا تنهى السورة الكريمة هذا الدرس بذكر ما أصاب الظالمين والغادرين من دمار وخراب ، وما أصاب المستضعفين الصابرين من خير واستخلاف في الأرض .
ثم بدأت السورة بعد ذلك مباشرة حديثاً طويلا عن هؤلاء المستضعفين من بنى إسرائيل بينت فيه ألوانا من جحودهم لنعم الله ، ونسيانهم لما كانوا فيه من ذل واستعباد ، وتفضيلهم عبادة الأصنام على عبادة الخالق - عز وجل - وغير ذلك من أنواع كفرهم ومعاصيهم ، واستمع إلى القرآن وهو يحكى لونا من رذائلهم فيقول : { وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَآئِيلَ . . } .
وتنسيقاً للجو الحاسم يعجل السياق كذلك بعرض الصفحة الأخرى - صفحة استخلاف المستضعفين - ذلك أن استخلاف بني إسرائيل - في الفترة التي كانوا أقرب ما يكونون فيها إلى الصلاح وقبل أن يزيغوا فيكتب عليهم الذل والتشرد - لم يكن في مصر ، ولم يكن في مكان فرعون وآله . إنما كان في أرض الشام ، وبعد عشرات السنوات من حادث إغراق فرعون - بعد وفاة موسى عليه السلام وبعد التيه أربعين سنة كما جاء في السورة الأخرى - ولكن السياق يطوي الزمان والأحداث ، ويعجل بعرض الاستخلاف هنا تنسيقاً لصفحتي المشهد المتقابلتين :
( وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها " . . . " وتمت كلمة ربك السنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه ، وما كانوا يعرشون ) . .
على أننا نحن البشر - الفانين المقيدين بالزمان - إنما نقول " قبل " و " بعد " لأننا نؤرخ للأحداث بوقت مرورها بنا وإدراكنا لها ! لذلك نقول : إن استخلاف القوم الذين كانوا يستضعفون ، كان متأخراً عن حادث الإغراق . . ذلك إدراكنا البشري . . فأما الوجود المطلق والعلم المطلق فما " قبل " عنده وما " بعد " ؟ ! والصفحة كلها معروضة له سواء ، مكشوفة لا يحجبها زمان ولا مكان . . ولله المثل الأعلى . وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً . .
وهكذا يسدل الستار على مشهد الهلاك والدمار في جانب ؛ وعلى مشهد الاستخلاف والعمار في الجانب الآخر . . وإذا فرعون الطاغية المتجبر وقومه مغرقون ، وإذا كل ما كانوا يصنعون للحياة ، وما كانوا يقيمون من عمائر فخمة قائمة على عمد وأركان ، وما كانوا يعرشون من كروم وثمار . . إذا هذا كله حطام ، في ومضة عين ، أو في بضع كلمات قصار !
مثل يضربه الله للقلة المؤمنة في مكة ، المطاردة من الشرك وأهله ؛ ورؤيا في الأفق لكل عصبة مسلمة تلقى من مثل فرعون وطاغوته ، ما لقيه الذين كانوا يستضعفون في الأرض ، فأورثهم الله مشارق الأرض ومغاربها المباركة - بما صبروا - لينظر كيف يعملون !
عطف على { فانتقمنا منهم } [ الأعراف : 136 ] . والمعنى : فأخذناهم بالعقاب الذي استحقوه وجازيّنا بني إسرائيل بنعمة عظيمة .
وتقدم ءانفاً الكلام على معنى { أوْرثنا } عند قوله تعالى : { أوَ لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها } [ الأعراف : 100 ] والمراد هنا تمليك بني إسرائيل جميع الأرض المقدسة بعد أهلها من الأمم التي كانت تملكها من الكنعانيين وغيرهم . وقد قيل إن فرعون كان له سلطان على بلاد الشام ، ولا حاجة إلى هذا إذ ليس في الآية تعيين الموروث عنه .
والقومُ الذين كانوا يُستْضعفون هم بنو إسرائيل كما وقع في الآية الأخرى : { كذلك وأورثناها بني إسرائيل } [ الشعراء : 59 ] ، وعدل عن تعريفهم بطريق الإضافة إلى تعريفهم بطريق الموصولية لنكتتين : أولاهما : الإيماء إلى علة الخبر ، أي أن الله ملَّكهم الأرض وجعلهم أمة حاكمة جزاء لهم على ما صبروا على الاستعباد ، غيرة من الله على عبيده .
الثانية : التعريض ببشارة المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم بأنهم ستكون لهم عاقبة السلطان كما كانت لبني إسرائيل ، جزاء على صبرهم على الأذى في الله ، ونذارةُ المشركين بزوال سلطان دينهم .
ومعنى يُستضعفون : يستعْبَدون ويهانون ، فالسين والتاء للحسبان مثل استنجب ، أو للمبالغة كما في استجاب .
والمشارق والمغارب جُمع باعتبار تعدد الجهات ، لأن الجهة أمر نسبي تتعد بتعدد الأمكنة المفروضة ، والمراد بهما إحاطة الأمكنة .
و { الأرض } أرض الشام وهي الأرض المقدسة وهي تبتدىء من السواحل الشرقية الشمالية للبحر الأحمر وتنتهي إلى سواحل بحر الروم وهو البحر المتوسط وإلى حدود العراق وحدود بلاد العرب وحدود بلاد الترك .
و { التي باركنا فيها } صفة للأرض أو لمشارقها ومَغاربها ؛ لأن ما صدقيْهما متحدان ، أي قدرنا لها البركة ، وقد مضى الكلام على البركة عند قوله تعالى : { لَفَتَحْنا عليهم بركات } في هذه السورة ( 96 ) . أي أعضناهم عن أرض مصر التي أخرجوا منها أرضاً هي خير من أرض مصر .
عطف على جملة : { وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون } الخ . . . والمقصود من هذا الخبر هو قوله : { بما صبروا } تنويهاً بفضيلة الصبر وحسن عاقبته ، وبذلك الاعتبار عطفت هذه الجملة على التي قبلها ، وإلاّ فإن كلمة الله الحسنى على بني إسرائيل تشمل إيراثهم الأرض التي بارك الله فيها ، فتتنزل من جملة : { وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون } إلى آخرها منزلة التذييل الذي لا يعطف ، فكان مقتضى العطف هو قوله { بما صبروا } .
وكلمة : هي القول ، وهو هنا يُحتمل أن يكون المراد به اللفظ الذي وعد الله بني إسرائيل على لسان موسى في قوله : { عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض } [ الأعراف : 129 ] أو على لسان إبراهيم وهي وعد تمليكهم الأرض المقدسة ، فتمام الكلمة تحقق وعدها ، شُبّه تحققها بالشيء إذا استوفى أجزاءه ، ويحتمل أنها كلمة الله في علمه وقدَره وهي أرادة الله إطلاقهم من استعباد القبط وإرادته تمليكهم الأرض المقدسة كقوله :
{ وكلمته ألقاها إلى مريم } [ النساء : 171 ] .
وتمام الكلمة بهذا المعنى ظهور تعلقها التنجيزي في الخارج على نحو قول موسى { يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم } [ المائدة : 21 ] وقد تقدم عند قوله تعالى : { وتمت كلمات ربك صدقاً وعدلاً } في سورة الأنعام ( 115 ) .
و { الحسنى } : صفة ل { كلمة } وهي صفة تشريف كما يقال : الأسماء الحسنى ، أي كلمة ربك المنزهة عن الخُلف ، ويحتمل أن يكون المراد حسنَها لبني إسرائيل ، وإن كانت سيئة على فرعون وقومه ، لأن العدل حسَن وإن كان فيه إضرار بالمحكوم عليه .
والخطاب في قوله : { ربك } للنبيء صلى الله عليه وسلم أدمح في ذكر القصة إشارة إلى أن الذي حقق نصر موسى وأمته على عدوهم هو ربك فسينصرك وأمتك على عدوكم ؛ لأنه ذلك الرب الذي نصر المؤمنين السابقين ، وتلك سنتُه وصنعه ، وليس في الخطاب التفات من الغيبة إلى الخطاب لاختلاف المراد من الضمائر .
وعدي فعل التمام ( بعلى ) للإشارة إلى تضمين { تمت } معنى الإنعام ، أو معنى حقت .
وباء { بما صبروا } للسببية ، و ( ما ) مصدرية أي بصبرهم على الأذى في ذات الإله وفي ذلك تنبيه على فائدة الصبر وأن الصابر صائر إلى النصر وتحقيق الأمل .
والتدمير : التخريب الشديد وهو مصدر دمّر الشيء إذا جعله دامراً للتعدية متصرف من الدمار بفتح الدال وهو مصدر قاصر ، يقال دَمَر القومُ بفتح الميم يدمُرون بضم الميم دَمارا ، إذا هلكوا جميعاً ، فهم دامرون . والظاهر أن إطلاق التدمير على إهلاك المصنوع مجازي علاقته الإطلاق لأن الظاهر أن التدمير حقيقته إهلاك الإنسان .
و { ما كان يصنع فرعون } : ما شاده من المصانع ، وإسناد الصنع إليه مجاز عقلي لأنه الآمر بالصنع ، وأما إسناده إلى قوم فرعون فهو على الحقيقة العقلية بالنسبة إلى القوم لا بالنسبة إلى كل فرد على وجه التغليب .
و { يَعْرشون } ينشئون من الجنات ذات العرايش . والعريش : ما يُرفع من دوالي الكروم ، ويطلق أيضاً على النخلات العديدة تربّى في أصل واحد ، ولعل جنات القبط كانت كذلك كما تشهد به بعض الصور المرسومة على هياكلهم نقشاً ودهناً ، وقد تقدم في قوله تعالى : { وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات } في سورة الأنعام ( 141 ) وفعله عَرَش من بابي ضرَب ونصَرَ وبالأول قرأ الجمهور ، وقرأ بالثاني ابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم ، وذلك أن الله خرب ديار فرعون وقومه المذكورين ، ودمر جناتهم بما ظلموا بالإهمال ، أو بالزلزال ، أو على أيديهم جيوش أعدائهم الذين ملكوا مصر بعدهم ، ويجوز أن يكون { يعرشون } بمعنى يرفعون أي يشيدون من البناء مثل مباني الأهرام والهياكل وهو المناسب لفعل { دمرنا } ، شبه البناء المرفوع بالعرش . ويجوز أن يكون يعرشون استعارة لقوة الملك والدولة ويكون دمرنا ترشيحاً للاستعارة .
وفعل { كان } في الصلتين دال على أن ذلك دأبُه وهجيرَاه ، أي ما عني به من الصنائع والجنات . وصيغة المضارع في الخبرين عن ( كان ) للدلالة على التجدد والتكرر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قال: {وأورثنا} الأرض {القوم الذين كانوا يستضعفون}، يعني بنى إسرائيل، يعني بالاستضعاف قتل الأبناء، واستحياء النساء بأرض مصر، وورثهم {مشارق الأرض} المقدسة، {ومغاربها}، وهي الأردن وفلسطين، {التي باركنا فيها}، يعني بالبركة الماء، والثمار الكثيرة، {وتمت كلمات ربك الحسنى}، وهي النعمة، {على بني إسرائيل بما صبروا}، حين كلفوا بأرض مصر ما لا يطيقون من استعبادهم إياهم، يعني بالكلمة التي في القصص من قوله: {ونريد أن نمن} (القصص: 5-6) إلى آيتين، وأهلك الله عدوهم، ومكن لهم في الأرض، فهي الكلمة، وهي النعمة التي تمت على بنى إسرائيل. {ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه}، يعني وأهلكنا عمل فرعون وقومه القبط في مصر، {و} أهلكنا {وما كانوا يعرشون}، يعني يبنون من البيوت والمنازل.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وأورثنا القوم الذين كان فرعون وقومه يستضعفونهم، فيذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم، ويستخدمونهم تسخيرا واستعبادا من بني إسرائيل، "مشارق الأرض": الشأم، وذلك ما يلي الشرق منها، "ومغاربها التي باركنا فيها"، يقول: التي جعلنا فيها الخير ثابتا دائما لأهلها. وإنما قال جلّ ثناؤه: "وأوْرَثْنا": لأنه أورث ذلك بني إسرائيل، بمهلك من كان فيها من العمالقة...
وأما قوله: "وَتمّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ الحُسْنَى "فإنه يقول: وفي وعد الله الذي وعد بني إسرائيل بتمامه، على ما وعدهم من تمكينهم في الأرض، ونصره إياهم على عدوّهم فرعونَ. وكلمته الحسنى قوله جلّ ثناؤه: "ونُريدُ أنْ نَمُنّ على الّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أئمّةً وَنجْعَلَهُمُ الوَارِثينَ ونُمَكّنَ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ"...
وأما قوله: "وَدَمّرْنَا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ" فإنه يقول: وأهلكنا ما كان فرعون وقومه يصنعونه من العمارات والمزارع. "وما كانُوا يَعْرِشُونَ" يقول: وما كانوا يبنون من الأبنية والقصور، وأخرجناهم من ذلك كله، وخرّبنا جميع ذلك...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
مَنْ صبر على مقاساة الذُّلِّ في الله وضع الله على رأسه قلنسوة العرفان، فهو العزيز سبحانه، لا يُشْمِتُ بأوليائه أعداءهم، ولا يضيع من جميل عهده جزاءَهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وتمت كَلِمَتُ رَبّكَ الحسنى}... والحسنى: تأنيث الأحسن صفة للكلمة. ومعنى تمت على بني إسرائيل: مضت عليهم واستمرت من قولك: تمَّ على الأمر إذا مضى عليه {بِمَا صَبَرُواْ} بسبب صبرهم، وحسبك به حاثاً على الصبر، ودالاً على أنّ من قابل البلاء بالجزع وكله الله إليه، ومن قابله بالصبر وانتظار النصر ضمن الله له الفرج...
{مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ} ما كانوا يعملون ويسوّون من العمارات وبناء القصور {وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ} من الجنات {هُوَ الذى أَنشَأَ جنات معروشات} [الأنعام: 141] أو وما كانوا يرفعون من الأبنية المشيدة في السماء. كصرح هامان وغيره...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وتمّت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا} تمام الشيء: وصوله إلى آخر حده، وكلمة الله وعده لبني إسرائيل بإهلاك عدوهم واستخلافهم في الأرض. وفي مجاز الأساس: وتم على أمر: مضى عليه وتم على أمرك، وتم إلى مقصدك. والمعنى نفذت كلمة الله ومضت على بني إسرائيل تامة كاملة بسبب صبرهم على الشدائد التي كابدوها من فرعون وقومه، إذ كان وعد الله تعالى إياهم بما وعدهم مقرونا بأمرهم بالصبر والاستعانة به والتقوى له كما أمرهم نبيهم عليه السلام تبليغا عنه تعالى راجع {وقال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا} –الآية- من هذا السياق. وإذا كان قد تم وعد الله تعالى لهم بذلك ثم سلبهم الله تلك الأرض بظلمهم لأنفسهم وللناس فلم يبق من مقتضى الوعد أن يعودوا إليها مرة أخرى لأنه قد تم ونفذ صدقا وعدلا.
{ودمّرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون} التدمير إدخال الهلاك على السالم والخراب على العامر، والعرش رفع المباني والسقائف للنبات والشجر المتسلق كعرائش العنب ومنه عرش الملك. والمراد بما كان يصنع فرعون وقومه أولا وبالذات ما له تعلق بظلم بني إسرائيل والكيد لموسى عليه السلام، فالأول كالمباني التي كانوا يبنونها للمصريين أو يصنعون اللبن لها ومنها الصرح الذي أمر هامان ببنائه له ليرقى به إلى السماء فيطلع إلى إله موسى، والثاني كالمكايد السحرية والصناعية التي كان يصنعها السحرة لإبطال آياته أو التشكيك فيها كما قال تعالى: {إنما صنعوا كيد ساحر} [طه: 69] {وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب} [غافر: 36] –أسباب السماوات- {فأطّلع إلى إله موسى وإنّي لأظنّه كاذبا وكذلك زيّن لفرعون سوء عمله وصدّ عن السّبيل وما كيد فرعون إلّا في تباب} [غافر: 37] والتباب بمعنى الدمار.
وأما أسباب هذا التدمير لذلك الصنع والعروش فأولها الآيات التي أيد الله تعالى بها موسى عليه السلام من الطوفان والجراد وغيرهما- وتسمى في التوراة الضربات وفيها من المبالغة في ضررها وتخريبها ما أشرنا إليه وذكرنا بعضه- ويليها إنجاء بني إسرائيل وحرمان فرعون وقومه من استعبادهم في أعمالهم، وثالثها هلاك من غرق من قوم فرعون وحرمان البلاد وسائر الأمة من ثمرات أعمالهم في العمران- هذا هو المعروف منها، وما ظلمهم الله تعالى بذلك ولكنهم ظلموا أنفسهم فقد أنذرهم موسى عليه السلام كل ذلك ليتقوا سوء عاقبته فكذبوا بالآيات، وأصروا على الجحود والإعنات.
والعبرة في هذه الآيات من وجهين الأول: أن يتفكر تالي القرآن في تأثير الإيمان والوحي في موسى وهارون عليهما السلام إذ تصديا لأعظم ملك في أعظم دولة في الأرض قاهرة لقومهما ومعبدة لهم في خدمتها منذ قرون كثيرة فدعواه إلى الرجوع عن الكفر والظلم والطغيان وتعبيد بني إسرائيل وأنذراه وهدداه، وما زالا يكافحانه بالحجج والآيات البينات حتى أظفرهما الله تعالى به وأنقذوا قومهما من ظلمه وظلم قومه.
فجدير بالمؤمنين بالله تعالى ورسله من المسلمين أن ينتقلوا من التفكر في هذا إلى التفكر في وعد الله تعالى للمؤمنين بالنصر كما وعد المرسلين إذا هم قاموا بما أمرهم تعالى به على ألسنتهم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهكذا يسدل الستار على مشهد الهلاك والدمار في جانب؛ وعلى مشهد الاستخلاف والعمار في الجانب الآخر.. وإذا فرعون الطاغية المتجبر وقومه مغرقون، وإذا كل ما كانوا يصنعون للحياة، وما كانوا يقيمون من عمائر فخمة قائمة على عمد وأركان، وما كانوا يعرشون من كروم وثمار.. إذا هذا كله حطام، في ومضة عين، أو في بضع كلمات قصار!
مثل يضربه الله للقلة المؤمنة في مكة، المطاردة من الشرك وأهله؛ ورؤيا في الأفق لكل عصبة مسلمة تلقى من مثل فرعون وطاغوته، ما لقيه الذين كانوا يستضعفون في الأرض، فأورثهم الله مشارق الأرض ومغاربها المباركة -بما صبروا- لينظر كيف يعملون!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والقومُ الذين كانوا يُستْضعفون هم بنو إسرائيل كما وقع في الآية الأخرى: {كذلك وأورثناها بني إسرائيل} [الشعراء: 59]، وعدل عن تعريفهم بطريق الإضافة إلى تعريفهم بطريق الموصولية لنكتتين: أولاهما: الإيماء إلى علة الخبر، أي أن الله ملَّكهم الأرض وجعلهم أمة حاكمة جزاء لهم على ما صبروا على الاستعباد، غيرة من الله على عبيده. الثانية: التعريض ببشارة المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم بأنهم ستكون لهم عاقبة السلطان كما كانت لبني إسرائيل، جزاء على صبرهم على الأذى في الله، ونذارةُ المشركين بزوال سلطان دينهم. و {الحسنى}: صفة ل {كلمة} وهي صفة تشريف كما يقال: الأسماء الحسنى، أي كلمة ربك المنزهة عن الخُلف، ويحتمل أن يكون المراد حسنَها لبني إسرائيل، وإن كانت سيئة على فرعون وقومه، لأن العدل حسَن وإن كان فيه إضرار بالمحكوم عليه. والخطاب في قوله: {ربك} للنبيء صلى الله عليه وسلم أدمج في ذكر القصة إشارة إلى أن الذي حقق نصر موسى وأمته على عدوهم هو ربك فسينصرك وأمتك على عدوكم؛ لأنه ذلك الرب الذي نصر المؤمنين السابقين، وتلك سنتُه وصنعه و {ما كان يصنع فرعون}: ما شاده من المصانع، وإسناد الصنع إليه مجاز عقلي لأنه الآمر بالصنع، وأما إسناده إلى قوم فرعون فهو على الحقيقة العقلية بالنسبة إلى القوم لا بالنسبة إلى كل فرد على وجه التغليب.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
بعد هلاك قوم فرعون، وتحطّم قدرتهم، وزوال شوكتهم، ورث بنو إسرائيل الذين طال رزوحهم في أغلال الأسر والعبودية اراضي الفراعنة الشاسعة والآية الحاضرة تشير إلى هذا الأمر (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها).
و «الإرث» كما أسلفنا يعني في اللغة المال الذي ينتقل من شخص إلى آخر من دون تجارة ومعاملة، سواء كان المنتَقَل منه حياً أو ميّتاً.
و«يستضعفون» مشتقّة من مادة «الاستضعاف» وتطابق كلمة «الاستعمار» التي تستعمل اليوم في عصرنا الحاضر، ومفهومها هو أن يقوم جماعة بإضعاف جماعة أُخرى حتى يمكن للجماعة الأُولى أن تستغل الجماعة الضعيفة في سبيل مآربها ومصالحها، غاية ما هنالك أن هناك تفاوتاً بين هذه اللفظة ولفظة الاستعمار، وهو: أن الاستعمار ظاهره تعمير الأرض، وباطنه الإِبادة والتدمير، ولكن الإِستضعفاف ظاهره وباطنه واحد.
والتعبير ب (كانوا يستضعفون) إشارة إلى الفرعونيين كانوا يستبقون بني إسرائيل في حالة ضعف دائمة: ضعف فكري، وضعف أخلاقي، وضعف اقتصادي، ومن جميع الجهات وفي جميع النواحي.
والتعبير ب (مشارق الأرض ومغاربها) إشارة إلى الأراضي الواسعة العريضة التي كانت تحت تصرّف الفرعونيين، لأنّ الأراضي الصغيرة ليس لها مشارق ومغارب مختلفة، وبعبارة أُخرى «ليس لها آفاق متعددة» ولكن الأراضي الواسعة جداً من الطبيعي أن يكون مشارق ومغارب بسبب كروية الأرض فيكون التعبير بمشارق الأرض ومغاربها كناية عن أراضي الفرعونيين الواسعة العريضة جدّاً.
وجملة (باركنا فيها) إشارة إلى الخصب العظيم الذي كانت تتمتع به هذه المنطقة يعني مصر والشام التي كانت تعدّ آنذاك، وفي هذا الزمان أيضاً، من مناطق العالم الخصبة الكثيرة الخيرات. حتى أن بعض المفسّرين كتب: إن بلاد الفراعنة في ذلك العصر كانت واسعة جدّاً بحيث كانت تشمل بلاد الشام أيضاً.
وعلى هذا الأساس لم يكن المقصود من العبارة هو الحكومة على كل الكرة الأرضية، لأنّ هذا يخالف التاريخ حتماً. بل المقصود هو حكومة بني إسرائيل على كل أراضي الفراعنة وبلادهم.
ثمّ يقول: (وتمت كلمة ربّك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا) أي تحقق الوعد الإِلهي لبني إسرائيل بانتصارهم على الفرعونيين، بسبب صبرهم وثباتهم.
وهذا هو الوعد الذي أُشير إليه في الآيات السابقة (الآية 128 و 129 من نفس هذه السورة).
صحيح أنَّ هذه الآية تحدّثت عن بني إِسرائيل ونتيجة ثباتهم في وجه الفرعونيين فقط، إلاّ أنّه يستفاد من الآيات القرآنية الأُخرى أن هذا الموضوع لا يختص بقوم أو شعب خاص، بل إن كان شعب مستضعف نهض وحاول تخليص نفسه من مخالب الأسر والاستعمار، استعان في هذا السبيل بالثبات والاستقامة، سوف ينتصر آخر المطاف ويحرر الأراضي التي احتلها الظلمة الجائرون.
ثمّ يضيف في آخر الآية: نحن الذين دمرنا قصور فرعون وقومه العظيمة، وأبنيتهم الجميلة الشامخة، وكذا بساتينهم ومزارعهم العظيمة (ودمرّنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون).
و«صنع» كما يقول «الراغب» في «المفردات» يعني الأعمال الجميلة، وقد وردت هذه اللفظة في الآية الحاضرة بمعنى الهندسة الجميلة الرائعة التي كان يستخدمها الفرعونيين في أبنيتهم.
و«ما يعرشون» في الأصل تعني الأشجار والبساتين التي تنصب بواسطة العروش والسقف، ولها جمال عظيم وروعة باهرة.
و«دمرنا» من مادة «التدمير» بمعنى الإِهلاك والإبادة.
وهنا يطرح السؤال التالي وهو: كيف أبيدت هذه القصور والبساتين، ولماذا؟
ونقول في الجواب: لا يبعد أن ذلك حدث بسبب زلازل وطوفانات جديدة وأمّا الضرورة التي قضت بهذا الفعل فهي أن جميع الفرعونيين لم يغرقوا في النيل، بل غَرق فرعون وجماعة من خواصّه وعسكره الذين كانوا يلاحقون موسى (عليه السلام)، ومن المسلَّم أنّه لو بقيت تلك الثروات العظيمة، والإمكانيات الاقتصادية الهائلة بيد من بقي من الفراعنة الذين كان عدد نفوسهم في شتى نواحي مصر كثيراً جداً لاستعادوا بها شوكتهم، ولقدروا على تحطيم بني إسرائيل، أو الحاق الأذى بهم على الأقل. أمّا الإمكانيات والوسائل فإن من شأنه أن يجردهم من أسباب الطغيان إلى الأبد.