قال الإِمام ابن كثير : وقوله { إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ } أى : إلا المرحومين من أتباع الرسل ، الذين تمسكوا بما أمروا به من الدين الذى أخبرتهم به رسل الله إليهم ، ولم يزل ذلك دأبهم ، حتى كان النبى - صلى الله عليه وسلم - الأمى خاتم الرسل والأنبياء ، فاتبعوه وصدقوه ونصروه ، ففازوا بسعادة الدنيا والآخرة ؛ لأنهم الفرقة الناجية ، كما جاء فى الحديث المروى فى المسانيد والسنن ، من طرق يشد بعضها بعضاً : " إن اليهود افترقت على إحدى وسبعين فرقة ، وإن النصارى افترقوا على ثنتين وسبعين فرقة ، وستفترق أمتى على ثلاث وسبعين فرقة ، كلها فى النار إلا فرقة واحدة . قالوا : ومن هم يا رسول الله ، قال : " ما أنا عليه وأصحابى " واسم الإِشارة فى قوله { ولذلك خَلَقَهُمْ } يعود على المصدر المفهوم من مختلفين قال الآلوسى : فكأنه قيل : وللاختلاف خلق الناس ، على معنى لثمرة الاختلاف من كون فريق فى الجنة وفريق فى السعير خلقهم .
واللام لام العاقبة والصيرورة ، لأن حكمة خلقهم ليس هذا ، لقوله - سبحانه - { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } ولأنهم لو خلقهم له - أى للاختلاف - لم يعذبهم على ارتكاب الباطل .
ومنهم من جعل الإِشارة إلى الرحمة لأنها أقرب مذكور ، فيكون التقدير : إلا من رحم ربك ولرحمته - سبحانه - خلق الناس .
وصح تذكير اسم الإِشارة مع عودته إلى الرحمة لكون تأنيثها غير حقيقى .
ومنهم من جهل الإِشارة إلى مجموع الاختلاف والرحمة ، لأنه ما مانع من الإِشارة بها إلى شيئين كما فى قوله { عَوَانٌ بَيْنَ ذلك } أى بين الفارض والبكر .
فيكون المعنى : " وللاختلاف والرحمة خلقهم " أى أنه - سبحانه - خلق أهل الرحمة للرحمة وأهل الاختلاف للاختلاف .
وقد رجح الإِمام القرطبى هذا الوجه فقال : قوله " ولذلك خلقهم " قال الحسن ومقاتل وعطاء :
الإِشارة إلى الاختلاف ، أى : وللاختلاف خلقهم . وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك .
الإِشارة إلى الرحمة : أى : ولرحمته خلقهم .
وقيل : الإِشارة إلى الاختلاف والرحمة ، وقد يشار بذلك إلى شيئين متضادين ، كما فى قوله - تعالى - { والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } وهذا أحسن الأقوال - إن شاء الله - لأنه يعم . أى : ولما ذكر خلقهم . . أى : خلقهم ليكون فريق فى الجنة وفريق فى السعير . أى خلق أهل الاختلاف للاختلاف وأهل الرحمة للرحمة . .
والمراد بكلمة ربك فى قوله - سبحانه - { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ } فاللازم دخول جميع تابعيه فى جهنم ، والقرآن يفسر بعضه بعضا . .
شاء الله ألا يكون الناس أمة واحدة . فكان من مقتضى هذا أن يكونوا مختلفين . وأن يبلغ هذا الاختلاف أن يكون في أصول العقيدة - إلا الذين أدركتهم رحمة الله - الذين اهتدوا إلى الحق - والحق لا يتعدد - فاتفقوا عليه . وهذا لا ينفي أنهم مختلفون مع أهل الضلال .
( وتمت كلمة ربك : لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ) . .
يفهم أن الذين التقوا على الحق وأدركتهم رحمة الله لهم مصير آخر هو الجنة تمتليء بهم كما تمتليء جهنم بالضالين المختلفين مع أهل الحق ، والمختلفين فيما بينهم على صنوف الباطل ومناهجه الكثيرة !
لمّا أشعر الاختلاف بأنه اختلاف في الدّين ، وأنّ معناه العدول عن الحق إلى الباطل ، لأنّ الحق لا يقبل التعدّد والاختلاف ، عُقّب عموم { ولا يزالون مختلفين } باستثناء من ثبتوا على الدين الحق ولم يخالفوه بقوله : { إلاّ من رحم ربك } ، أي فعصمهم من الاختلاف .
وفهم من هذا أنّ الاختلاف المذموم المحذّر منه هو الاختلاف في أصول الدّين الذي يترتّب عليه اعتبار المخالف خارجاً عن الدين وإن كان يزعم أنّه من مُتّبعيه ، فإذا طرأ هذا الاختلاف وجب على الأمّة قصمه وبذل الوسع في إزالته من بينهم بكلّ وسيلة من وسائل الحقّ والعدل بالإرشاد والمجادلة الحسنة والمناظرة ، فإنْ لم ينجع ذلك فبالقتال كما فعل أبو بكر في قتال العرب الذين جحدوا وجوب الزكاة ، وكما فعل عليّ كرّم الله وجهه في قتال الحروريّة الذين كفّروا المسلمين . وهذه الآية تحذير شديد من ذلك الاختلاف .
وأما تعقيبه بقوله : { ولذلك خلقهم } فهو تأكيد بمضمون { ولا يزالون مختلفين } . والإشارة إلى الاختلاف المأخوذ من قوله : { مختلفين } ، واللاّم للتعليل لأنّه لمّا خلقهم على جِبِلّة قاضية باختلاف الآراء والنزعات وكان مريداً لمقتضى تلك الجبلّة وعالماً به كما بيّناه آنفاً كان الاختلاف علّة غائية لخلقهم ، والعلّة الغائية لا يلزمها القصر عليها بل يكفي أنها غاية الفعل ، وقد تكون معها غايات كثيرة أخرى فلا ينافي ما هنا قولُه : { وما خلقت الجنّ والإنس إلاّ ليعبدون } [ الذاريات : 56 ] لأنّ القصر هنالك إضافيّ ، أي إلاّ بحالة أن يعبدوني لا يشركوا ، والقصر الإضافي لا ينافي وجود أحوال أخرى غير ما قُصدَ الردّ عليه بالقصر كما هو بيّن لمن مارس أساليب البلاغة العربية .
وتقديم المعمول على عامله في قوله : { ولذلك خلقهم } ليس للقصر بل للاهتمام بهذه العلّة ، وبهذا يَندفع ما يوجب الحيرة في التفسير في الجمع بين الآيتين .
ثم أعقب ذلك بقوله : { وتمّت كلمة ربّك لأملأنّ جهنم من الجِنّة والنّاس أجمعين } لأنّ قوله : { إلاّ من رحم ربّك } يؤذن بأنّ المستثنى منه قوم مختلفون اختلافاً لا رحمة لهم فيه ، فهو اختلاف مضاد للرحمة ، وضدّ النعمة النقمة فهو اختلاف أوجب الانتقام .
وتمام كلمة الرب مجاز في الصّدق والتحقّق ، كما تقدّم عند قوله تعالى : { وتمّت كلمات ربّك صدقاً وعدلاً } في سورة [ الأنعام : 115 ] ، فالمختلفون هم نصيب جهنم .
والكلمة هنا بمعنى الكلام . فكلمة الله : تقديره وإرادته . أطلق عليها كلمة } مجازاً لأنّها سبب في صدور كلمة ( كن ) وهي أمر التكوين . وتقدّم تفصيله في قوله تعالى : { وتمّت كلمات ربّك صدقاً وعدلاً } في سورة [ الأنعام : 115 ] .
وجملة { لأملأنّ جهنّم } تفسير للكلمة بمعنى الكلام . وذلك تعبير عن الإرادة المعبّر عنها بالكلام النفسي .
ويجوز أن تكون الكلمة كلاماً خَاطَبَ به الملائكةَ قبل خلق الناس فيكون { لأمْلأنّ جهنّم } تفسيراً ل { كلمة } .
و { من الجِنّة والنّاس } تبعيض ، أي لأمْلأن جهنم من الفريقين . و { أجمعين } تأكيد لشمول تثنية كِلا النوعين لاَ لِشُمُول جميع الأفراد لمنافاته لمعنى التبعيض الذي أفادته { من } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.