ثم تنتقل السورة بعد هذا التهديد والإِنذار ، إلى دعوتهم إلى التأمل والتفكر ، في مشهد الطير صافات في الجو . . وفي أحوال أنفسهم عند اليأس والفقر ، وعند الهزيمة والإعراض عن الحق . . فيقول - سبحانه - :
{ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطير . . } .
قال بعض العلماء : قوله : { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطير . . } عطف على جملة { هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولاً . . } استرسالا في الدلائل على انفراد الله - تعالى - بالتصرف في الموجودات ، وقد انتقل من دلالة أحوال البشر وعالمهم ، إلى دلالة أعجب أحوال العجماوات ، وهي أحوال الطير في نظام حركاتها في حال طيرانها ، إذ لا تمشي على الأرض ، كما هو في حركات غيرها على الأرض ، فحالها أقوى دلالة على عجيب صنع الله المنفرد به . .
والاستفهام في قوله - تعالى - : { أَوَلَمْ يَرَوْا . . . } للتعجيب من حال المشركين ، لعدم تفكرهم فيما يدعو إلى التفكر والاعتبار . .
والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام ، والطير : جمع طائر كصحب وصاحب . .
والمعنى : أغفل هؤلاء المشركون ، وانطمست أعينهم عن رؤية الطير فوقهم ، وهن { صَافَّاتٍ } أي : باسطات أجنحتهن في الهواء عند الطيران في الجو ، { وَيَقْبِضْنَ } أي : ويضممن أجنحتهن تارة على سبيل الاستظهار بها على شدة التحرك في الهواء . . { مَا يُمْسِكُهُنَّ } في حالتي البسط والقبض { إِلاَّ الرحمن } الذي وسعت رحمته وقدرته كل شئ ، والذي أحسن كل شئ خلقه . .
{ إِنَّهُ } - سبحانه - { بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ } أي : إنه - سبحانه - مطلع على أحوال كل شئ ، ومدبر لأمره على أحسن الوجوه وأحكمها . .
قال صاحب الكشاف : { صَافَّاتٍ } باسطات أجنحتهن فى الجو عند طيرانها ، لأنهن إذا بسطنها صففن قوادمها صفا { وَيَقْبِضْنَ } أي : ويضممنها إذا ضربن بها جنوبهن .
فإن قلت : لم قيل { وَيَقْبِضْنَ } ولم يقل : وقابضات ؟
قلت : لأن الأصل في الطيران هو صف الأجنحة ، لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء ، والأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها . وأما القبض فطارئ على البسط ، للاستظهار به على التحرك ، فجئ بما هو طارئ غير أصل بلفظ الفعل ، على معنى أنهن صافات ، ويكون منهن القبض تارة ، كما يكون من السابح . .
والمراد بإمساكهن : عدم سقوطهن إلى الأرض بقدرته وحكمته - تعالى - حيث أودع فيها من الخصائص ما جعلها تطير في الجو ، كالسابح في الماء .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { أَلَمْ يَرَوْاْ إلى الطير مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السمآء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الله . . . }
بعدئذ ينتقل بهم من لمسة التهديد والنذير ، إلى لمسة التأمل والتفكير . في مشهد يرونه كثيرا ، ولا يتدبرونه إلا قليلا . وهو مظهر من مظاهر القدرة ، وأثر من آثار التدبير الإلهي اللطيف .
( أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ? ما يمسكهن إلا الرحمن ، إنه بكل شيء بصير ) . .
وهذه الخارقة التي تقع في كل لحظة ، تنسينا بوقوعها المتكرر ، ما تشي به من القدرة والعظمة . ولكن تأمل هذا الطير ، وهو يصف جناحيه ويفردهما ، ثم يقبضهما ويضمهما ، وهو في الحالين : حالة الصف الغالبة ، وحالة القبض العارضة يظل في الهواء ، يسبح فيه سباحة في يسر وسهولة ؛ ويأتي بحركات يخيل إلى الناظر أحيانا أنها حركات استعراضية لجمال التحليق والانقضاض والارتفاع !
تأمل هذا المشهد ، ومتابعة كل نوع من الطير في حركاته الخاصة بنوعه ، لا يمله النظر ، ولا يمله القلب . وهو متعة فوق ما هو مثار تفكير وتدبر في صنع الله البديع ، الذي يتعانق فيه الكمال والجمال !
والقرآن يشير بالنظر إلى هذا المشهد المثير :
( أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ? ) . .
ثم يوحي بما وراءه من التدبير والتقدير :
والرحمن يمسكهن بنواميس الوجود المتناسقة ذلك التناسق العجيب ، الملحوظ فيه كل صغيرة وكبيرة ، المحسوب فيه حساب الخلية والذرة . . النواميس التي تكفل توافر آلاف الموافقات في الأرض والجو وخلقة الطير ، لتتم هذه الخارقة وتتكرر ، وتظل تتكرر بانتظام .
والرحمن يمسكهن بقدرته القادرة التي لا تكل ، وعنايته الحاضرة التي لا تغيب . وهي التي تحفظ هذه النواميس أبدا في عمل وفي تناسق وفي انتظام . فلا تفتر ولا تختل ولا تضطرب غمضة عين إلى ما شاء الله : ( ما يمسكهن إلا الرحمن ) . . بهذا التعبير المباشر الذي يشي بيد الرحمن تمسك بكل طائر وبكل جناح ، والطائر صاف جناحيه وحين يقبض ، وهو معلق في الفضاء !
يبصره ويراه . ويبصر أمره ويخبره . ومن ثم يهيئ وينسق ، ويعطي القدرة ، ويرعى كل شيء في كل لحظة رعاية الخبير البصير .
وإمساك الطير في الجو كإمساك الدواب على الأرض الطائرة بما عليها في الفضاء . كإمساك سائر الأجرام التي لا يمسكها في مكانها إلا الله . ولكن القرآن يأخذ بأبصار القوم وقلوبهم إلى كل مشهد يملكون رؤيته وإدراكه ؛ ويلمس قلوبهم بإيحاءاته وإيقاعاته . وإلا فصنعة الله كلها إعجاز وكلها إبداع ، وكلها إيحاء وكلها إيقاع . وكل قلب وكل جيل يدرك منها ما يطيقه ، ويلحظ منها ما يراه . حسب توفيق الله .
عطف على جملة : { هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً } [ الملك : 15 ] استرسالاً في الدلائل على انفراد الله تعالى بالتصرف في الموجودات ، وقد انتقل من دلالة أحوال البشر وعالمهم ، إلى دلالة أعجب أحوال العجماوات وهي أحوال الطيرِ في نظام حركاتها في حال طيرانها إذ لا تمشي على الأرض كما هو في حركات غيرها على الأرض ، فحالها أقوى دلالة على عجيب صنع الله المنفردِ به .
واشتمل التذكير بعجيب خلقة الطير في طيرانها على ضرب من الإِطناب لأن الأوصاف الثلاثة المستفادة من قوله : { فوقهم صافات ويقبضن } تُصَوِّر صورة حركات الطيران للسامعين فتنبههم لدقائق ربما أغفلهم عن تدقيق النظر فيها نشأتُهم بينها من وقت ذهول الإدراك في زمن الصِّبا ، فإن المرء التونسي أو المغربي مثلاً إذا سافر إلى بلاد الهند أو إلى بلاد السودان فرأى الفِيلَة وهو مكتمل العقل دَقيق التمييز أدرك من دقائق خلقة الفيل ما لا يدركه الرجل من أهل الهند الناشىء بين الفِيلة ، وكم غفل الناس عن دقائق في المخلوقات من الحيوان والجماد ما لو تتبعوه لتجلى لهم منها مَا يَمْلأ وصفُه الصحف قال تعالى : { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيفَ رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت } [ الغاشية : 1720 ] ، وقال : { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } [ الذاريات : 21 ] .
وقد رأيت بعض من شاهد البحر وهو كبير ، ولم يكن شاهده من قبل ، كيفَ امتلكه من العجب ما ليس لأحدٍ ممن ألفوه معشاره .
وهذا الإطناب في هذه السورة مخالف لما في نظير هذه الآية من سورة النحل ( 79 ) في قوله : { ألم يَروا إلى الطير مسخرات في جَوّ السماء ما يمسكهن إلاّ الله } وذلك بحسب ما اقتضاه اختلاف المقامين فسورة النحل رابعة قبل سورة الملك ، فلما أوقظت عقولهم فيها للنظر إلى ما في خلقة الطير من الدلائل فلم يتفطنوا وسُلك في هذه السورة مسلك الإِطناب بزيادة ذكر أوصاف ثلاثة :
فالوصف الأول : ما أفاده قوله : { فوقهم } فإن جميع الدواب تمشي على الأرض والطير كذلك فإذا طار الطائر انتقل إلى حالة عجيبة مخالفة لبقية المخلوقات وهي السير في الجوّ بواسطة تحريك جناحيه وذلك سرّ قوله تعالى : { يطير بجناحيه } [ الأنعام : 38 ] بعد قوله : { ولا طائر } في [ سورة الأنعام : 38 ] لقصد تصوير تلك الحالة .
الوصف الثاني : { صافات } وهو وصف بوزن اسم الفاعل مشتق من الصَّف ، وهو كون أشياء متعددة متقاربة الأمكنة وباستواء ، وهو قاصر ومتعد ، يقال : صَفّوا ، بمعنى اصطفوا كما حكى الله عن الملائكة : { وإنا لنحن الصَّافُّون } [ الصافات : 165 ] وقال تعالى في البُدْن { فاذكروا اسم الله عليها صَوافَّ } [ الحج : 36 ] . ويقال : صفهم إذا جعلهم مستوين في الموقف ، وفي حديث ابن عباس في الجنائز « مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبر منبوذ » إلى قوله : « فصفَّنا خلفه وكبَّر » .
والمراد هنا أن الطير صافّة أجنحتها فحذف المفعول لعلمه من الوصف الجاري على الطير إذ لا تجعل الطير أشياء مصفوفة إلاّ ريش أجنحتها عند الطيران فالطائر إذا طار بسط جناحيه ، أي مدها فصفّ ريش الجناح فإذا تمدد الجناحُ ظهر ريشه مصطّفاً فكان ذلك الاصطفاف من أثر فعل الطير فوصفت به ، وتقدم عند قوله تعالى : { والطير صافات } في سورة النور ( 41 ) . وبسط الجناحين يُمكّن الطائرَ من الطيران فهو كمدّ اليدين للسابح في الماء .
الوصف الثالث : { ويقبضن } وهو عطف على { صافات } من عطف الفعل على الاسم الشبيه بالفعل في الاشتقاق وإفادةِ الاتصاف بحدوث المصدر في فاعله ، فلم يفت بعطفه تماثل المعطوفين في الاسمية والفعلية الذي هو من محسنات الوصل .
والقَبض : ضد البسط . والمراد به هنا ضد الصّف المذكور قبله ، إذ كان ذلك الصف صادقاً على معنى البسط ومفعوله المحذوف هنا هو عين المحذوف في المعطوف عليه ، أي قابضات أجنحتهن حين يدنينها من جُنوبهن للازدياد من تحريك الهواء للاستمرار في الطيران .
وأوثر الفعل المضارع في { يَقْبضن } لاستحضار تلك الحالة العجيبة وهي حالة عكس بسط الجناحين إذ بذلك العكس يزداد الطيران قوة امتداد زمان .
وجيء في وصف الطير ب { صافات } بصيغة الاسم لأن الصف هو أكثر أحوالها عند الطيران فناسبه الاسم الدال على الثبات ، وجيء في وصفهن بالقبض بصيغة المضارع لدلالة الفعل على التجدد ، أي ويجددن قبض أجنحتهن في خلال الطيران للاستعانة بقبض الأجنحة على زيادة التحرك عندما يَحسسن بتغلب جاذبية الأرض على حركات الطيران ، ونظيره قوله تعالى في الجِبال والطيرِ { يسبحن بالعشيّ والإِشراق والطيرَ محشورة } [ ص : 18 19 ] لأن التسبيح في وقتين والطير محشورة دَوْماً .
وانتصَب { فوقهم } على الحال من { الطير } وكذلك انتصب { صافات } .
وجملة { ويقبضن } في موضع نصب على الحال لعطفها على الوصف الذي هو حال فالرؤية بصرية مضمنة معنى النظر ، ولذلك عُديت إلى المرئي ب ( إلى ) . والاستفهام في { أو لم يَروا } إنكاري ، ونزلوا منزلة من لم يرَ هاته الأحوال في الطير لأنهم لم يعتبروا بها ولم يهتدوا إلى دلالتها على انفراد خالقها بالإِلهية .
وجملة { ما يمسكهن إلاّ الرحمان } مبينة لجملة { أو لم يروا إلى الطير } وما فيها من استفهام إنكار ، أي كان حقهم أن يعلموا أنهن ما يُمسكُهن إلاّ الرحمان إذ لا ممسك لها ترونه كقوله تعالى : { ويمسك السماء أن تقع على الأرض } [ الحج : 65 ] .
وفي هذا إيماء إلى أن الذي أمسك الطير عن الهُوِيّ المفضي إلى الهلاك هو الذي أهلك الأمم الذين من قبللِ هؤلاء فلو لم يشركوا به ولو استعصموا بطاعته لأنجاهم من الهلاك كما أنجى الطيْر من الهُوِيّ .
ومعنى إمساك الله إياها : حفظها من السقوط على الأرض بما أودع في خلقتها من الخصائص في خفة عظامها وقوة حركة الجوانح وما جعل لهن من القوادم ، وهي ريشات عشر هي مقاديم ريش الجناح ، ومن الخوافي وهي ما دونها من الجناح إلى منتهى ريشه ، وما خلقه من شكل أجسادها المعين على نفوذها في الهواء فإن ذلك كله بخلق الله إياها مانعاً لها من السقوط وليس ذلك بمعاليق يعلقها بها أحد كما يعلق المشعوذ بعض الصور بخيوط دقيقة لا تبدو للناظرين .
وإيثار اسم { الرحمان } هنا دون الاسم العلَم بخلاف ما في سورة النحل ( 79 ) { ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلاّ الله } لعله للوجه الذي ذكرناه آنفاً في خطابهم بطريقة الإِطناب من قوله : أو لم يروا إلى الطير فوقهم صافات } الآية .
فمن جملة عنادهم إنكارهم اسم { الرحمان } فلما لم يرعووا عما هم عليه ذكر وصف { الرحمان } في هذه السورة أربع مرات .
وجملة { إنه بكل شيء بصير } تعليل لمضمون { ما يمسكهُنّ إلاّ الرحمان } أي أمسكهن الرحمان لعموم علمه وحكمته ولا يمسكهن غيره لقصور علمهم أو انتفائه .
والبصير : العليم ، مشتق من البصيرة ، فهو هنا غير الوصف الذي هو من الأسماء الحسنى في نحو : السميع البصير ، وإنما هو هنا من باب قولهم : فلان بصير بالأمور . وقوله تعالى : { إن الله بصير بالعباد } [ غافر : 44 ] ، فهو خبر لا وصف ولا منزل منزلة الاسم . وتقديم { بكل شيء } على متعلقه لإفادة القصر الإِضافي وهو قصر قلب ردّاً على من يزعمون أنه لا يعلم كل شيء كالذين قيل لهم { وأسروا قولكم أو اجهروا به } [ الملك : 13 ] .