ثم حكى القرآن بعد ذلك بعض المعاذير الكاذبة التي كان اليهود يعتذرون بها عندما يدعون إلى الدخول في الإسلام ، فقد كانوا يقولون إننا مكلفون ألا نؤمن إلا بكتابنا التوراة ، فنحن نكتفي بالإِيمان به دون غيره ، استمع إلى القرآن - وهو يعرض دعاواهم الكاذبة ثم يقذفها بالحق فيدمغها - حيث يقول : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُواْ . . . }
معنى الآيات الكريمة . أن اليهود المعاصرين للعهد النبوي كانوا إذا عرض عليهم الإِيمان بما أنزل الله من القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم أجابوا بقولهم : نؤمن بما أنزل علينا وهو التوراة التي أنزلها الله - تعالى - على موسى ، ويجحدون غيرها وهو القرآن الكريم المصدق لها في الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم ثم أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يكذبهم في دعواهم الإِيمان بما أنزل عليهم فقال : { قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ الله مِن قَبْلُ إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } بالتوراة فإنها تنهاكم عن قتلهم
ثم كذبهم القرآن الكريم مرة أخرى فقال : { وَلَقَدْ جَآءَكُمْ موسى بالبينات } أي : بالآيات الواضحات الدالة على صدقه ، ولكنكم { اتخذتم العجل مِن بَعْدِهِ } أي : من بعد ذهابه لميقات ربه { وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ } لعبادتكم غير الله تعالى .
ثم كذبهم القرآن الكريم - في دعواهم الإِيمان بما أنزل عليهم - بصورة أخرى سوى ما سبقها فقال تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور } وقلنا لكم : { خُذُواْ مَآ ءاتيناكم - من التوراة - بِقُوَّةٍ } أي بجد حزم { واسمعوا } ما أمرتم به فيها سماع تدبر وطاعة . ولكن أسلافكم الذين أنتم على شاكلتهم قالوا لنبيهم : { سَمِعْنَا } قولك { وَعَصَيْنَا } أمرك . وخالط حب العجل قلوبهم كما يخالط الماء أعماق البدن ، وكل هذه الأفاعيل منكم لا تناسب دعواكم الإِيمان بما أنزل إليكم ، وإذا فبئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين بالتوراة كما تزعمون ، فالواقع أن التوراة بريئة من أعمالكم ، وأنتم بعيدون عن الإِيمان بها .
وقوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا } تصوير لنوع آخر من قبائح اليهود ، وإخبار عن إعراضهم عن الحق بدعوى أنهنم مكلفون بعدم الإِيمان إلا بما أنزل الله على موسى وهو التوراة .
والمقصود { بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } القرآن الكريم . ولم يذكر المنزل عليه وهو محمد صلى الله عليه وسلم للعلم به أو للتنبيه على أن وجوب الإِيمان بالكتاب ، يكفى فيه العلم بأنه منزل من عند الله - تعالى - ومتى استقر في النفس أن القرآن الكريم من عند الله ، استتبع ذلك استحضاراً أنه أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم .
وقولهم : { بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا } معناه : نؤمن بالتوراة التي أنزلها الله على نبينا موسى دون غيرها مما أنزله الله عليك - يا محمد- ، وجوابهم هذا يدل على غبائهم وعنادهم . لأن الداعي لهم إلى الإِيمان ، يطلب منهم أن يؤمنوا بكل ما أنزل الله من الكتب السماوية ، ولكنهم قيدوا أنفسهم بالإِيمان ببعض ما أنزل الله وهو ما أنزل عليهم ، فلم يكن إيمانهم مطابقاً لما أمر الله به وهو التصديق بجميع الكتب السماوية ، ولا شك أن من آمن ببعض الكتب السماوية وكفر ببعضها يكون كافراً بجميعها .
وقوله تعالى : { وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ } قصد به بيان التصريح بكفرهم بالقرآن الكريم بعد أن لمحوا بذلك في قولهم : { نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا } والضمير في { وَرَآءَهُ } يعود على { بمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا } المكنى به عن التوراة ، أي : قالوا نؤمن بما أنزل علينا والحال أنهم يكفرون بما سوى التوراة أو بما بعدها وهو القرآن الكريم .
قال ابن جرير - رحمه الله - : " وتأويل وراء في هذا الموضع : سوى ، كما يقال للرجل المتلكم باحسن ما وراء هذا الكلام الحسن شيء . يراد به : ليس من عند المتكلم به شيء سوى ذلك الكلام ، فكذلك معنى قوله تعالى : { وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ } أي بما سوى التوراة ، وبما بعده من كتب الله التي أنزلها على رسله " .
والضمير " هو " في قوله تعالى : { وَهُوَ الحق مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ } يعود إلى القرآن الكريم المكني عنه بقوله " بما وراءه " والحق : الحكم المطابق للواقع . ووصف به القرآن الكريم لاشتماله على الأحكام المطابقة للواقع .
ومعنى كون القرآن مصدقاً لما مع اليهود وهو التوراة ، أنه يدل على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم . وبهذا كان مؤيداً للتوراة التي بشرت بالنبي صلى الله عليه وسلم وذكرت له نعوتاً لا تنطبق إلا عليه ، وبذلك يكون اليهود الذين يدعون الإِيمان بما أنزل عليهم كاذبين في دعواهم ، لأنهم لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي بِشرت به توراتهم وأمرتهم بالإيمان به وأيدها القرآن الكريم في ذلك .
قال صاحب الكشاف : وفي قوله تعالى : { وَهُوَ الحق مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ } رد لمقالتهم { نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا } لأنهم إذ كفروا بما يوافق التوراة فقد كفروا بها " .
ثم أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يوبخهم ويبطل دعواهم الإِيمان بما أنزل عليهم بدليل إلزامي فقال تعالى : { فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ الله مِن قَبْلُ إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } .
والمعنى : قل يا محمد لهؤلاء اليهود الذين إذا دعوتهم إلى الإيمان بك قالوا . { نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا } قل لهم : إن كنتم حقاً مؤمنين بما أنزل عليكم وهو التوراة ، فلأي شيء تقتلون أنبياء الله مع أن التوراة تحرم عليكم قتلهم ، بل هي تأمركم باتباعهم وتصديقهم وطاعتهم لأنه أرسلهم لهدايتكم وسعادتكم .
إن قتلكم لهم أكبر دليل على أنكم لم تؤمنوا لا بما أنزل عليكم ، ولا بغيره وأنكم كاذبون في مدعاكم لأن جميع ما أنزل الله من وحي يحرم قتل الأنبياء ، ويأمر الناس باتباعهم وطاعتهم .
ويرجع معنى الآية إلى نفي فعل الشرط وهو كونهم مؤمنين ، إذ لا وجه لقتلهم الأنبياء إلا عدم إيمانهم بالتوراة ، وهذا كما تريد أن تنفي عن جرل العقل لفعله ما ليس من شأنه أن يصدر من عاقل ، فتقول له : إن كنت عاقلا فلم فعلت كذا ؟ أي أنت لست بعاقل .
والفاء في قوله تعالى : { فَلِمَ تَقْتُلُونَ } واقعة في جواب محذوف دل عليه ما بعده ، والتقديرر إن كنتم مؤمنين بما أنزل عليكم فلم تقتلون أنبياء الله - تعالى - .
والإِتيان بالمضارع في قوله - تعالى - : { تَقْتُلُونَ } مع أن القتل للأنبياء وعق من أسلافهم بقرينة قوله تعالى : { مِن قَبْلُ } لقصد استحضار تلك الجناية الشنيعة ، وللتنبيه على أن ارتكابهم لتلك الجريمة البشعة يتجدد ويقع منهم المرة تلو الأخرى ، وللإِشعار بأن الخلف يمشون على عماية السلف ، في التعدي والعصيان ، فلقد حاول اليهود المعاصرون للعهد النبوي قتل الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن الله - تعالى - عصمه منهم ، ونجاه من مكرهم .
وأضاف سبحانه - الأنبياء إليه فقال : { أَنْبِيَآءَ الله } للتنبيه على شرفهم العظيم ، وللدلالة على فظاعة عصيان اليهود واجتراحهم المنكر ، إذ قابلوا بالقتل من يجب عليهم أن يقابلوهم بالتصديق والتوقير والطاعة .
( وإذا قيل لهم : آمنوا بما أنزل الله قالوا : نؤمن بما أنزل علينا ، ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم ) . .
وكان هذا هو الذي يقولونه إذا دعوا إلى الإيمان بالقرآن وبالإسلام . كانوا يقولون ( نؤمن بما أنزل علينا ) .
ففيه الكفاية ، وهو وحده الحق ، ثم يكفرون بما وراءه . سواء ما جاءهم به عيسى عليه السلام ، وما جاءهم به محمد خاتم النبيين .
والقرآن يعجب من موقفهم هذا ، ومن كفرهم بما وراء الذي معهم ( وهو الحق مصدقا لما معهم ) . .
وما لهم وللحق ؟ وما لهم أن يكون مصدقا لما معهم ! ما داموا لم يستأثروا هم به ؟ إنهم يعبدون أنفسهم ، ويتعبدون لعصبيتهم . لا بل إنهم ليعبدون هواهم ، فلقد كفروا من قبل بما جاءهم أنبياؤهم به . . ويلقن الله نبيه [ ص ] أن يجبههم بهذه الحقيقة ، كشفا لموقفهم وفضحا لدعواهم :
( قل : فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين ؟ ) . .
لم تقتلون أنبياء الله من قبل ، إن كنتم حقا تؤمنون بما أنزل إليكم ؟ وهؤلاء الأنبياء هم الذي جاؤوكم بما تدعون أنكم تؤمنون به ؟
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }( 91 )
وقوله تعالى : { وإذا قيل لهم } يعني : اليهود أنهم إذ قيل لهم : آمنوا بالقرآن الذي أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم { قالوا نؤمن بما أنزل علينا } يعنون التوراة وما وراءه . قال قتادة : أي ما بعده ، وقال الفراء ، أي ما سواه ويعني به القرآن( {[945]} ) ، وإذا تكلم رجل أو فعل فعلاً فأجاد يقال له ما وراء ما أتيت به شيء ، أي ليس يأتي بعده( {[946]} ) . ووصف الله تعالى القرآن بأنه الحق ، و { مصدقاً } حال مؤكدة عند سيبويه( {[947]} ) ، وهي غير منتقلة ، وقد تقدم معناها في الكلام ولم يبق لها هي إلا معنى التأكيد ، وأنشد سيبويه على الحال المؤكدة .
أنا ابن دارة معروفاً بها حسبي . . . وهل لدارة يا للنّاس من عار( {[948]} )
و { لما معهم } يريد به التوراة .
وقوله تعالى : { قل فلم تقتلون } الآية رد من الله تعالى عليهم في أنهم آمنوا بما أنزل عليهم ، وتكذيب منه لهم في ذلك ، واحتجاج عليهم . ولا يجوز الوقف على { فلم } لنقصان الحرف الواحد إلا أن البزي( {[949]} ) وقف عليه بالهاء ، وسائر القراء بسكون الميم( {[950]} ) . وخاطب الله من حضر محمداً صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل بأنهم قتلوا الأنبياء لما كان ذلك من فعل أسلافهم . وجاء { تقتلون } بلفظ الاستقبال وهو بمعنى المضي لما ارتفع الإشكال بقوله { من قبل } وإذا لم يشكل فجائز سوق الماضي بمعنى المستقبل وسوق المستقبل بمعنى الماضي . قال الحطيئة
شهد الحطيئة يوم يلقى ربه . . . أن الوليد أحق بالعذر( {[951]} )
وفائدة سوق الماضي في موضع المستقبل ، الإشارة إلى أنه في الثبوت كالماضي الذي قد وقع( {[952]} ) . وفائدة سوق المستقبل في معنى الماضي الإعلام بأن الأمر مستمر( {[953]} ) . ألا ترى أن حاضري محمد صلى الله عليه وسلم لما كانوا راضين بفعل أسلافهم بقي لهم من قتل الأنبياء جزء ، و { إن كنتم } شرط والجواب متقدم ، وقالت فرقة : { إن } نافية بمعنى ما .
معطوف على قوله : { ولما جاءهم كتاب من عند الله } [ البقرة : 89 ] المعطوف على قوله : { وقالوا قلوبنا غلف } [ البقرة : 88 ] وبهذا الاعتبار يصح اعتباره معطوفاً على { وقالوا قلوبنا غلف } على المعروف في اعتبار العطف على ما هو معطوف وهذا كله من عطف حكايات أحوالهم في معاذيرهم عن الإعراض عن الدعوة الإسلامية فإذا دعوا قالوا : قلوبنا غلف وإذا سمعوا الكتاب أعرضوا عنه بعد أن كانوا منتظريه حسداً أن نزل على رجل من غيرهم ، وإذا وعظوا وأنذروا ودعوا إلى الإيمان بالقرآن وبأنه أنزله الله وأن ينظروا في دلائل كونه منزلاً من عند الله أعرضوا وقالوا : نؤمن بما أنزل علينا أي بما أنزله الله على رسولنا موسى ، وهذا هو مجمع ضلالاتهم ومنبع عنادهم فلذلك تصدى القرآن لتطويل المحاجة فيه بما هنا وما بعده تمهيداً لقوله الآتي : { ما ننسخ من آية } [ البقرة : 106 ] الآيات .
وقولهم : { نؤمن بما أنزل علينا } أرادوا به الاعتذار وتعلة أنفسهم لأنهم لما قيل لهم { آمنوا بما أنزل الله } علموا أنهم إن امتنعوا امتناعاً مجرداً عدت عليهم شناعة الامتناع من الإيمان بما يدعى أنه أنزله الله فقالوا في معذرتهم ولإرضاء أنفسهم { نؤمن بما أنزل علينا } أي أن فضيلة الانتساب للإيمان بما أنزل الله قد حصلت لهم أي فنحن نكتفي بما أنزل علينا وزادوا إذ تمسكوا بذلك ولم يرفضوه . وهذا وجه التعبير في الحكاية عنهم بلفظ المضارع { نؤمن } أي ندوم على الإيمان بما أنزل علينا وقد عرضوا بأنهم لا يؤمنون بغيره لأن التعبير بنؤمن بما أنزل علينا في جواب من قال لهم { آمنوا بما أنزل الله } وقد علم أن مراد القائل الإيمان بالقرآن مشعر بأنهم يؤمنون بما أنزل عليهم فقط لأنهم يرون الإيمان بغيره مقتضياً الكفر به فههنا مستفاد من مجموع جملتي { آمنوا بما أنزل الله } وجوابها بقولهم { نؤمن بما أنزل علينا } .
وقوله تعالى : { ويكفرون بما وراءه } جيء بالمضارع محاكاة لقولهم { نؤمن بما أنزل علينا } وتصريح بما لوحوا إليه ورد عليهم أي يدومون على الإيمان بما أنزل عليهم ويكفرون كذلك بما وراءه فهم يرون أن الإيمان به مقتض للكفر بغيره على أن للمضارع تأثيراً في معنى التعجب والغرابة . وفي قرنه بواو الحال إشعار بالرد عليهم وزاد ذلك بقوله { وهو الحق مصدقاً لما معهم } .
والوراء في الأصل اسم مكان للجهة التي خلف الشيء وهو عريق في الظرفية وليس أصله مصدراً . جعل الوراء مجازاً أو كناية عن الغائب لأنه لا يبصره الشخص واستعمل أيضاً مجازاً عن المجاوز لأن الشيء إذا كان أمام السائر فهو صائر إليه فإذا صاروا وراءه فقد تجاوزه وتباعد عنه قال النابغة : * وليس وراء الله للمرء مطلب * واستعمل أيضاً بمعنى الطلب والتعقب تقول ورائي فلان بمعنى يتعقبني ويطلبني ومنه قول الله تعالى : { وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً } [ الكهف : 79 ] وقول لبيد :
أليس ورائي أن تراخت منيتي *** لزوم العصا تحني عليها الأصابع
فمن ثم زعم بعضهم أن الوراء يطلق على الخلف والأمام إطلاق اسم الضدين واحتج ببيت لبيد وبقرآن وكان أمامهم ملك وقد علمت أنه لا حجة فيه ولذلك أنكر الآمدي في « الموازنة » كونه ضداً .
فالمراد بما وراءه في الآية بما عداه وتجاوزه أي بغيره والمقصود بهذا الغير هنا خصوص القرآن بقرينة السياق لتقدم قوله : { وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله } ولتعقيبه بقوله : { وهو الحق مصدقاً } .
وجملة { وهو الحق } حالية واللام في { الحق } للجنس والمقصود اشتهار المسند إليه بهذا الجنس أي وهو المشتهر بالحقية المسلم ذلك له على حد قول حسان :
وإن سنام المجد من آل هشام *** بنو بنت مخزوم ووالدك العبد
لم يرد حسان انحصار العبودية في الوالد وإنما أراد أنه المعروف بذلك المشتهر به فليست اللام هنا مفيدة للحصر لأن تعريف المسند باللام لا تطرد إفادته الحصر على ما في « دلائل الإعجاز » . وقيل يفيد الحصر باعتبار القيد أعني قوله { مصدقاً } أي هو المنحصر في كونه حقاً مع كونه مصدقاً فإن غيره من الكتب السماوية حق لكنه ليس مصدقاً لما معهم ولعل صاحب هذا التفسير يعتبر الإنجيل غير متعرض لتصديق التوراة بل مقتصراً على تحليل بعض المحرمات وذلك يشبه عدم التصديق . ففي الآية صد لبني إسرائيل عن مقابلة القرآن بمثل ما قابلوا به الإنجيل وزيادة في توبيخهم .
وقوله : { مصدقاً } حال مؤكدة لقوله : { وهو الحق } وهذه الآية علم في التمثيل للحال المؤكدة وعندي أنها حال مؤسسة لأن قوله { مصدقاً لما معهم } مشعر بوصف زائد على مضمون { وهو الحق } إذ قد يكون الكتاب حقاً ولا يصدق كتاباً آخر ولا يكذبه وفي مجيء الحال من الحال زيادة في استحضار شؤونهم وهيئاتهم .
وقوله : { قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين } فصله عما قبله لأنه اعتراض في أثناء ذكر أحوالهم قصد به الرد عليهم في معذرتهم هذه لإظهار أن معاداة الأنبئاء دأب لهم وأن قولهم : { نؤمن بما أنزل علينا } كذب إذ لو كان حقاً لما قتل أسلافهم الأنبئاء الذين هم من قومهم ودعوهم إلى تأييد التوراة والأمر بالعمل بها ولكنهم يعرضون عن كل ما لا يوافق أهواءهم . وهذا إلزام للحاضرين بما فعله أسلافهم لأنهم يرونهم على حق فيما فعلوا من قتل الأنبئاء .
والإتيان بالمضارع في قوله : { تقتلون } مع أن القتل قد مضى لقصد استحضار الحالة الفظيعة وقرينة ذلك قوله : { من قبل } فذلك كما جاء الحطيئة بالماضي مراداً به الاستقبال في قوله :
شهد الحطيئة يوم يلقى ربه *** أن الوليد أحق بالعذر
والمراد بأنبئاء الله الذين ذكرناهم عند قوله تعالى : { ويقتلون النبيئين بغير الحق } [ البقرة : 61 ] .