التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{قُلۡ بِفَضۡلِ ٱللَّهِ وَبِرَحۡمَتِهِۦ فَبِذَٰلِكَ فَلۡيَفۡرَحُواْ هُوَ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ} (58)

وقوله : { قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } حض للناس على اغتنام ما في تعاليم الإِسلام من خيرات ، وإيثارها على ما في الدنيا من شهوات .

أى : قل يا محمد لمن يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة : اجعلوا فرحكم الأكبر ، وسروركم الأعظم ، بفضل الله الذي شرع لكم هذا الدين على لسان رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وبرحمته التي وسعت كل شيء وهي بالمؤمنين أوسع ، لا بما تجمعون في هذه الدنيا من أموال زائلة ومتع فانية .

وقد فسر بعضهم فضل الله ورحمته بالقرآن ، ومنهم من فسر فضل الله بالقرآن ، ورحمته بالإِسلام . ومنهم من فسرهما بالجنة والنجاة من النار .

ولعل تفسير هما بما يشمل كل ذلك أولى : لأنه لم يرد نص صحيح عن الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - يحدد المراد منهما ، وما دام الأمر كذلك فحملهما على ما يشمل الإِسلام والقرآن والجنة أولى .

قال ابن كثير : قوله - تعالى - { قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ } أى : بهذا الذي جاءهم من الله من الهدى ودين الحق فليفرحوا فإنه أولى مما يفرحون به من حطام الدنيا وما فيها من الزهرة الفانية والذاهبة لا محالة .

فعن أيفع بن عبد الكلاعي قال : لما قدم خراج العراق إلى عمر - رضي الله عنه - خرج عمر ومولى له ، فجعل يعد الإِبل ، فإذا هي أكثر من ذلك ، فجعل عمر يقول : الحمد لله - تعالى - ويقول مولاه : هذا والله من فضل الله ورحمته . فقال عمر : كذبت ليس هذا هو الذي يقول الله - تعالى - { قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } .

أى : ليس هذا المال هو المعنى بهذه الآية ، وإنما فضل الله ورحمته يتمثل فيما جاءهم من الله - تعالى - من دين قويم ، ورسول كريم ، وقرآن مبين .

ودخلت الباء على كل من الفضل والرحمة ، للإِشعار باستقلال كل منهما بالفرح به .

والجار والمجرور في كل منهما متعلق بمحذوف ، وأصل الكلام : قل لهم يا محمد ليفرحوا بفضل الله وبرحمته ، ثم قدم الجار والمجرور على الفعل لإِفادة الاختصاص ، وأدخلت الفاء لإِفادة السببية ، فكأنه قيل : إن فرحوا بشيء فليكن بسبب ما أعطاهم الله - تعالى - من فضل ورحمته ، لا بسبب ما يجمعون من زينة الحياة الدنيا .

قال القرطبى : " والفرح لذة في القلب بإدراك المحبوب . وقد ذم الله الفرح في مواضع ، كقوله - سبحانه - { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الفرحين } وكقوله { إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ } ولكنه مطلق . فإذا قيد الفرح لم يكن ذما ، لقوله - تعالى { فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ } وكقوله - سبحانه - هنا { فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ } أى بالقرآن والإِسلام فليفرحوا . . . " .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{قُلۡ بِفَضۡلِ ٱللَّهِ وَبِرَحۡمَتِهِۦ فَبِذَٰلِكَ فَلۡيَفۡرَحُواْ هُوَ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ} (58)

26

( قل بفضل اللّه وبرحمته فبذلك فليفرحوا ، هو خير مما يجمعون ) . . .

فبهذا الفضل الذي آتاه اللّه عباده ، وبهذه الرحمة التي أفاضها عليهم من الإيمان . . فبذلك وحده فليفرحوا . فهذا هو الذي يستحق الفرح . لا المال ولا أعراض هذه الحياة . إن ذلك هو الفرح العلوي الذي يطلق النفس من عقال المطامع الأرضية والأعراض الزائلة ، فيجعل هذه الأعراض خادمة للحياة لا مخدومة ؛ ويجعل الإنسان فوقها وهو يستمتع بها لا عبداً خاضعاً لها . والإسلام لا يحقر أعراض الحياة الدنيا ليهجرها الناس ويزهدوا فيها . إنما هو يزنها بوزنها ليستمتع بها الناس وهم أحرار الإرادة طلقاء اليد ، مطمحهم أعلى من هذه الأعراض ، وآفاقهم أسمى من دنيا الأرض . الإيمان عندهم هو النعمة ، وتأدية مقتضيات الإيمان هي الهدف . والدنيا بعد ذلك مملوكة لهم لا سلطان لها عليهم .

عن عقبة بن الوليد عن صفوان بن عمرو : سمعت أيفع بن عبد اللّه الكلاعي يقول : لما قدم خراج العراق إلى عمر - رضي اللّه عنه - خرج عمر ومولى له ، فجعل عمر يعد الإبل فإذا هي أكثر من ذلك ، فجعل يقول : الحمد للّه تعالى . ويقول مولاه : هذا واللّه من فضل اللّه ورحمته ، فقال عمر : كذبت ليس هذا هو الذي يقول اللّه تعالى : ( قل : بفضل اللّه وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ) .

هكذا كان الرعيل الأولون ينظرون إلى قيم الحياة . كانوا يعدون الفضل الأول والرحمة الأولى هي ما جاءهم من اللّه من موعظة وهدى . فأما المال ، وأما الثراء ، وأما النصر ذاته فهو تابع . لذلك كان النصر يأتيهم ، وكان المال ينثال عليهم ، وكان الثراء يطلبهم . . إن طريق هذه الأمة واضح . إنه في هذا الذي يسنه لها قرآنها ، وفي سيرة الصدر الأول الذين فهموه من رجالها . . هذا هو الطريق .

إن الأرزاق المادية ، والقيم المادية ، ليست هي التي تحدد مكان الناس في هذه الأرض . . في الحياة الدنيا فضلاً عن مكانهم في الحياة الأخرى . . إن الأرزاق المادية ، والتيسيرات المادية ، والقيم المادية ، يمكن أن تصبح من أسباب شقوة البشرية - لا في الآخرة المؤجلة ولكن في هذه الحياة الواقعة - كما نشهد اليوم في حضارة المادة الكالحة !

إنه لا بد من قيم أخرى تحكم الحياة الإنسانية ؛ وهذه القيم الأخرى هي التي يمكن أن تعطي للأرزاق المادية والتيسيرات المادية قيمتها في حياة الناس ؛ وهي التي يمكن أن تجعل منها مادة سعادة وراحة لبني الإنسان .

إن المنهج الذي يحكم حياة مجموعة من البشر هو الذي يحدد قيمة الأرزاق المادية في حياتهم . هو الذي يجعلها عنصر سعادة أو عنصر شقاء . كما يجعلها سبباً للرقي الإنساني أو مزلقاً للارتكاس !

ومن هنا كان التركيز على قيمة هذا الدين في حياة أهله :

( يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم ، وشفاء لما في الصدور ، وهدى ورحمة للمؤمنين . قل : بفضل اللّه وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ) . .

ومن هنا كان الذين تلقوا هذا القرآن أول مرة يدركون هذه القيمة العليا ، فيقول عمر - رضي اللّه عنه - عن المال والأنعام : " ليس هذا هو الذي يقول اللّه تعالى : ( قل : بفضل اللّه وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون )

لقد كان عمر - رضي اللّه عنه - يفقه دينه . كان يعرف أن فضل اللّه ورحمته يتمثلان بالدرجة الأولى في هذا الذي أنزله اللّه لهم : موعظة من ربهم ، وشفاء لما في الصدور ، وهدى ورحمة للمؤمنين . لا فيما يجمعون من المال والإبل والأرزاق !

لقد كانوا يدركون قيمة النقلة البعيدة التي نقلها لهم هذا الدين ، من وهدة الجاهلية التي كانوا فيها وإنها لنقلة بعيدة بالقياس إلى الجاهلية في كل زمان ومكان . . بما فيها جاهلية القرن العشرين .

إن النقلة الأساسية التي تتمثل في هذا الدين هي إعتاق رقاب العباد من العبودية للعباد ؛ وتحريرهم من هذه العبودية ، وتعبيدهم للّه وحده ، وإقامة حياتهم كلها على أساس هذا الانطلاق الذي يرفع تصوراتهم ، ويرفع قيمهم ، ويرفع أخلاقهم . ويرفع حياتهم كلها من العبودية إلى الحرية . .

ثم تجيء الأرزاق المادية والتيسيرات المادية ، والتمكين المادي ، تبعاً لهذا التحرر وهذا الانطلاق . كما حدث في تاريخ العصبة المسلمة ، وهي تكتسح الجاهليات حولها ، وتهيمن على مقاليد السلطان في الأرض ، وتقود البشرية إلى اللّه ، لتستمتع معها بفضل اللّه . .

والذين يركزون على القيم المادية ، وعلى الإنتاج المادي ، ويغفلون تلك القيمة الكبرى الأساسية ، هم أعداء البشرية الذين لا يريدون لها أن ترتفع على مستوى الحيوان وعلى مطالب الحيوان .

وهم لا يطلقونها دعوة بريئة ؛ ولكنهم يهدفون من ورائها إلى القضاء على القيم الإيمانية ، وعلى العقيدة التي تعلق قلوب الناس بما هو أرفع من مطالب الحيوان - دون أن تغفل ضروراتهم الأساسية - وتجعل لهم مطالبأساسية أخرى إلى جوار الطعام والمسكن والجنس التي يعيش في حدودها الحيوان !

وهذا الصياح المستمر بتضخيم القيم المادية ، والإنتاج المادي ، بحيث يطغى الانشغال به على حياة الناس وتفكيرهم وتصوراتهم كلها . . وبحيث يتحول الناس إلى آلات تلهث وراء هذه القيمة ، وتعدها قيمة الحياة الكبرى ؛ وتنسى في عاصفة الصياح المستمر . . الإنتاج . . الإنتاج . . كل القيم الروحية والأخلاقية ؛ وتدوس هذه القيم كلها في سبيل الإنتاج المادي . . هذا الصياح ليس بريئاً ؛ إنما هو خطة مدبرة لإقامة أصنام تعبد بدل أصنام الجاهلية الأولى ؛ وتكون لها السيادة العليا على القيم جميعاً !

وعندما يصبح الإنتاج المادي صنماً يكدح الناس حوله ويطوفون به في قداسة الأصنام ؛ فإن كل القيم والاعتبارات الأخرى تداس في سبيله وتنتهك . . الأخلاق . الأسرة . الأعراض . الحريات . الضمانات . . . كلها . . كلها إذا تعارضت مع توفير الإنتاج يجب أن تداس ! فماذا تكون الأرباب والأصنام إن لم تكن هي هذه ? إنه ليس من الحتم أن يكون الصنم حجراً أو خشباً . فقد يكون قيمة واعتباراً ولافتة ولقباً !

إن القيمة العليا يجب أن تبقى لفضل اللّه ورحمته المتمثلين في هداه الذي يشفي الصدور ، ويحرر الرقاب ، ويعلي من القيم الإنسانية في الإنسان . وفي ظل هذه القيمة العليا يمكن الانتفاع برزق اللّه الذي أعطاه للناس في الأرض ؛ وبالتصنيع الذي يوفر الإنتاج المادي ؛ وبالتيسيرات المادية التي تقلل من شدة الكدح ؛ وبسائر هذه القيم التي تدق الجاهلية حولها الطبول في الأرض

وبدون وجود تلك القيمة العليا وسيادتها تصبح الأرزاق والتيسيرات والإنتاج لعنة يشقى بها الناس ؛ لأنها يومئذ تستخدم في إعلاء القيم الحيوانية والآلية ، على حساب القيم الإنسانية العلوية

وصدق اللّه العظيم :

( يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم ، وشفاء لما في الصدور ، وهدى ورحمة للمؤمنين . قل : بفضل اللّه وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ) . .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{قُلۡ بِفَضۡلِ ٱللَّهِ وَبِرَحۡمَتِهِۦ فَبِذَٰلِكَ فَلۡيَفۡرَحُواْ هُوَ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ} (58)

وقوله سبحانه { قل بفضل الله وبرحمته } ، الباء متعلقة بمحذوف استغني عن ذكره يدل عليه قوله : { وهدى ورحمة } قال بعض المتأولين وهو هلال بن يساف{[6139]} وقتادة والحسن وابن عباس «الفضل » : الإسلام ، و «الرحمة » : القرآن ، وقال أبو سعيد الخدري : «الفضل » : القرآن ، و «الرحمة » أن جعلهم من أهله ، وقال زيد بن أسلم والضحاك «الفضل » : القرآن ، و «الرحمة » : الإسلام ، وقالت فرقة : «الفضل » : محمد صلى الله عليه وسلم ، و «الرحمة » : القرآن .

قال القاضي أبو محمد : ولا وجه عندي لشيء من هذا التخصيص إلا أن يستند منه شيء إلى النبي صلى الله عليه سلم ، وإنما الذي يقتضيه اللفظ ويلزم منه ، أن «الفضل » هو هداية الله تعالى إلى دينه والتوفيق إلى إتباع الشرع ، و «الرحمة » : هي عفوه وسكنى جنته التي جعلها جزاء على التشرع بالإسلام والإيمان به ، ومعنى الآية : قل يا محمد لجميع الناس : { بفضل الله وبرحمته } فليقع الفرح منكم ، لا بأمور الدنيا وما جمع من حطامها ، فالمؤمنون يقال لهم فلتفرحوا ، وهم متلبسون بعلة الفرح وسببه ، ومحصلون لفضل الله منتظرون الرحمة ، والكافرون يقال لهم : { بفضل الله وبرحمته } فلتفرحوا ، على معنى أن لو اتفق لكم أو لو سعدتم بالهداية إلى تحصيل ذلك ، وقرأ أبي بن كعب وابن القعقاع وابن عامر والحسن على ما زعم هارون ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم «فلتفرحوا » ، و «تجمعون » بالتاء فيهما على المخاطبة ، وهي قراءة جماعة من السلف كبيرة ، وعن أكثرهم خلاف ، وقرأ السبعة سوى ابن عامر{[6140]} وأهل المدينة والأعرج ومجاهد وابن أبي إسحاق وقتادة وطلحة والأعمش : بالياء فيهما على ذكر الغائب ، ورويت عن الحسن بالتاء من فوق فيهما ، وقرأ أبو التياح وأبو جعفر وقتادة : بخلاف عنهم وابن عامر بالياء في الأولى وبالتاء في الآخرة ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وجماعة من السلف ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم بالياء في الأولى وفي الآخرة ، ورويت عن أبي التياح ، وإذا تأملت وجوه ذلك بانت على مهيع الفصيح من كلام العرب ولذلك كثر الخلاف من كل قارىء ، وفي مصحف أبي بن كعب ، «فبذلك فافرحوا » وأما من قرأ «فلتفرحوا » فأدخل اللام في أمر المخاطب فذلك على لغة قليلة ، حكى ذلك أبو علي في الحجة ، وقال أبو حاتم وغيره : الأصل في كل أمر إدخال اللام إذا كان النهي بحرف فكذلك الأمر ، وإذا كان أمراً لغائب بلام{[6141]} ، قال أبو الفتح : إلا أن العرب رفضت إدخال اللام في أمر المخاطب لكثرة ترداده{[6142]} ، وقرأ أبو الفتوح والحسن : بكسر اللام من «فلِتفرحوا » ، فإن قيل : كيف أمر الله بالفرح في هذه الآية ؟ وقد ورد ذمه في قوله { لفرح فخور }{[6143]} ، وفي قوله { لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين }{[6144]} قيل إن الفرح إذا ورد مقيداً في خير فليس بمذموم وكذلك هو في هذه الآية ، وإذا ورد مقيداً في شر أو مطلقاً لحقه ذم إذ ليس من أفعال الآخرة بل ينبغي أن يغلب على الإنسان حزنه على ذنبه وخوفه لربه ، وقوله : { مما يجمعون } يريد من مال الدنيا وحطامها الفاني المؤذي في الآخرة .


[6139]:- ضبطه محقق "المحتسب" لابن جني بالفتح، وذكر في الهامش نقلا عن القاموس أنه بالكسر وقد يفتح.
[6140]:- ذكر ابن عطية أن ابن عامر في الجماعة الأولى التي قرأت بالتاء، وأكّد ذلك بقوله: "وقرأ السبعة سوى ابن عامر بالياء"، ثم عاد فنقل أن ابن عامر قرأ في الأولى وهي [فلتفرحوا] بالياء، وفي الثانية وهي [تجمعون] بالتاء، ولو تأملت الأسماء في كل جماعة لوجدت تكرارا أو ما يشبه التناقض، لكن يتضح لك الموقف حين تقرأ قوله: "وإذا تأملت وجوه ذلك بانت- أي ظهرت كلها- على مهيع الفصيح من كلام العرب، ولذلك كثر الخلاف من كل قارئ". ولهذا فلا داعي لتعليق أبي حيان على ما نسبه ابن عطية لابن عامر من القراءة بالتاء وتأكيده أنه قرأ الياء، فقد عاد ابن عطية وذكر ذلك.
[6141]:- معنى هذا أن أصل الأمر أن يكون بحرف الأمر وهو اللام، فأصل اضرب: لتضرب، وأصل قم: لتقم، ولكن لما كثر أمر الحاضر حذفوا حرف المضارعة تخفيفا ودل المقام عليه، فلما حذف حرف المضارعة بقي ما بعده في الأغلب ساكنا فاحتيج إلى همزة الوصل ليقع الابتداء به فقيل: اضرب، اكتب، اذهب...الخ. ذكر ذلك أبو الفتح في المحتسب (2/313).
[6142]:- كان أمر الحاضر أكثر لأن الغائب بعيد عنك، فإذا أردت أن تأمره احتجت إلى أن تأمر المخاطب ليؤدي كلامك إلى الغائب، فتقول: يا محمد قل لعلي اقرأ، أما الحاضر فلا يحتاج إلى ذلك لأن خطابك إياه مباشرة أغنى عن تكليف غيره أن يحمل إليه كلامك. (عن أبي الفتح في المحتسب، (2/313)
[6143]:- من الآية (10) من سورة (هود).
[6144]:- من الآية (76) من سورة (القصص).
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{قُلۡ بِفَضۡلِ ٱللَّهِ وَبِرَحۡمَتِهِۦ فَبِذَٰلِكَ فَلۡيَفۡرَحُواْ هُوَ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ} (58)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{قل بفضل الله} يعني القرآن، {وبرحمته} الإسلام،

{فبذلك فليفرحوا} معشر المسلمين،

{هو خير مما يجمعون} من الأموال، فلما نزلت هذه الآية قرأها النبي صلى الله عليه وسلم مرات.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"قُلْ" يا محمد لهؤلاء المشركين بك وبما أنزل إليك من عند ربك: "بِفَضْلِ اللّهِ "أيها الناس الذي تفضل به عليكم، وهو الإسلام، فبينه لكم ودعاكم إليه، "وَبِرَحَمتِهِ" التي رحمكم بها، فأنزلها إليكم، فعلمكم ما لم تكونوا تعلمون من كتابه، وبَصّركم بها معالم دينكم وذلك القرآن، "فَبِذلكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ" يقول: فإن الإسلام الذي دعاهم إليه والقرآن الذي أنزله عليهم، خير مما يجمعون من حطام الدنيا وأموالها وكنوزها...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

وأصل الكلام: بفضل الله وبرحمته فليفرحوا، فبذلك فليفرحوا، والتكرير للتأكيد والتقرير وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا، فحذف أحد الفعلين لدلالة المذكور عليه، والفاء داخلة لمعنى الشرط؛ كأنه قيل: إن فرحوا بشيء فليخصوهما بالفرح، فإنه لا مفروح به أحق منهما. ويجوز أن يراد: بفضل الله وبرحمته فليعتنوا فبذلك فليفرحوا. ويجوز أن يراد: قد جاءتكم موعطة بفضل الله وبرحمته، فبذلك: فبمجيئها فليفرحوا...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

قوله سبحانه {قل بفضل الله وبرحمته}، الباء متعلقة بمحذوف استغني عن ذكره يدل عليه قوله: {وهدى ورحمة} قال بعض المتأولين وهو هلال بن يساف وقتادة والحسن وابن عباس «الفضل»: الإسلام، و «الرحمة»: القرآن، وقال أبو سعيد الخدري: «الفضل»: القرآن، و «الرحمة» أن جعلهم من أهله، وقال زيد بن أسلم والضحاك «الفضل»: القرآن، و «الرحمة»: الإسلام، وقالت فرقة: «الفضل»: محمد صلى الله عليه وسلم، و «الرحمة»: القرآن.

ولا وجه عندي لشيء من هذا التخصيص إلا أن يستند منه شيء إلى النبي صلى الله عليه سلم، وإنما الذي يقتضيه اللفظ ويلزم منه، أن «الفضل» هو هداية الله تعالى إلى دينه والتوفيق إلى إتباع الشرع، و «الرحمة»: هي عفوه وسكنى جنته التي جعلها جزاء على التشرع بالإسلام والإيمان به، ومعنى الآية: قل يا محمد لجميع الناس: {بفضل الله وبرحمته} فليقع الفرح منكم، لا بأمور الدنيا وما جمع من حطامها، فالمؤمنون يقال لهم فلتفرحوا، وهم متلبسون بعلة الفرح وسببه، ومحصلون لفضل الله منتظرون الرحمة، والكافرون يقال لهم: {بفضل الله وبرحمته} فلتفرحوا، على معنى أن لو اتفق لكم أو لو سعدتم بالهداية إلى تحصيل ذلك...

التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :

... فالفرح بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم وبالإيمان وبالسنة وبالعلم والقرآن من علامات العارفين. فالفرح بالعلم والإيمان والسنة دليل على تعظيمه عند صاحبه ومحبته له. وإيثاره له على غيره، فإن فرح العبد بالشيء عند حصوله له على قدر محبته له ورغبته فيه، فمن ليس له رغبة في الشيء لا يفرحه حصوله، له ولا يحزنه فواته، فالفرح تابع للمحبة والرغبة والفرح صفة كمال. ولهذا يوصف الرب تعالى بأعلى أنواعه وأكملها، كفرحه بتوبة التائب أعظم من فرحة الواحد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة بعد فقده لها واليأس من حصولها.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما ثبت ذلك، حثهم عليه لبعده عن السحر بثباته وعدم القدرة على زلزلته فضلاً عن إزالته وبأنه شفاء وموعظة وهدى ورحمة فهو جامع لمراتب القرب الإلهي كلها، وزهدهم فيما هم عليه مقبلون من الحطام لمشاركته للسحر في سرعة التحول والتبدل بالفناء والاضمحلال فهو أهل للزهد فيه والإعراض عنه فقال تعالى: {قل بفضل الله} الآية، وحسن كل الحسن تعقيب ذلك لقوله: {هو يحيي ويميت} لما ذكر من سرعة الرحيل عنه، ولأن القرآن محيي لميت الجهل، من أقبل عليه أفاده العلم والحكمة، فكان للقلب كالحياة للجسد، ومن أعرض عنه صار في ضلال وخبط فوصل إلى الهلاك الدائم، فكان إعراضه عنه مميتاً له، وجعل أبو حيان متعلق الباء في بفضل محذوفاً تقديره: {قل} ليفرحوا {بفضل الله} أي الملك الأعلى {وبرحمته} ثم عطف قصر الفرح على ذلك {فبذلك} أي الأمر العظيم جداً وحده إن فرحوا يوماً ما بشيء {فليفرحوا} فهما جملتان وقال: إن ذلك أظهر، والفائدة الثانية قصر الفرح على ذلك دون ما يسرون به من الحطام فإن السعادات الروحانية أفضل من السعادات الجسمانية. ثم صرح بسبب الفرح فقال: {هو} أي المحدث عنه من الفضل والرحمة {خير مما يجمعون} أي من حطام الدنيا وإن كان أشرف ما فيها من المتاع دائبين فيه على تعاقب الأوقات، والعاقل يختار لتعبه الأفضل؛ والفضل: الزيادة في النعمة؛ والفرح: لذة في القلب بنيل المشتهى.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} فضل الله على جميع عباده عظيم وهو على المؤمنين منهم أعظم، ورحمته العامة لهم وبهم واسعة، ورحمته الخاصة بالمؤمنين أوسع، وبكل من النوعين نطق القرآن، وقد منَّ تعالى عليهم بالجمع لهم بين الفضل والرحمة في آيات، وبكل منهما في آيات، وقال بعد الجمع بينهما في آيتين من سورة النور: {ولَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ورَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا ولَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء واللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 21]، وإن دخول الباء على كل من الفضل والرحمة هنا يدل على استقلال كل منهما بالفرح به، فهو يرد ما روي عن مجاهد من أن المراد بهما واحد وهو القرآن، ويرده أيضا ما روي عن المأثور في تفسير كل منهما بمعنى، ومنه ما رواه أبو الشيخ وابن مردويه من حديث أنس مرفوعا:"فضل الله القرآن ورحمته أن جعلكم من أهله"، وروي عن البراء وأبي سعيد الخدري موقوفا.

وعن ابن عباس روايتان: إحداهما: أن فضل الله القرآن ورحمته الإسلام. والثانية: أن الفضل العلم والرحمة محمد صلى الله عليه وسلم.

وعن الحسن والضحاك وقتادة ومجاهد في الرواية الثانية عنه، فضل الله الإيمان ورحمته القرآن.

وكل هذه المعاني صحيحة في نفسها لا في روايتها، وأظهرها في الآية' وهو المناسب لما قبلها، والجامع لمعاني الروايات كلها- أن فضل الله توفيقه إياهم لتزكية أنفسهم بالموعظة والشفاء والهدى التي امتاز بها القرآن، ورحمته ثمرتها التي فضلوا بها جميع الناس، فكانوا أرحمهم، بعد أن كانوا أعدلهم وأبرهم بهم، فقد أمرهم هذا القرآن بالبر والعدل وإقامة القسط في المؤمن والكافر، والبر والفاجر، وأمرهم بالرحمة حتى في المحاربين لهم بقدر ما يدفع شرهم، كما فصلناه في المقصد الثامن من مقاصد القرآن في مباحث الوحي، ولولا مراعاة هذا التناسب لقلت: إن المراد بفضله تعالى على هذه الأمة هو قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا} [البقرة: 143] وقوله: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} [آل عمران: 110] ولكن ما قلته يدخل في معناه ويوافقه، ولكل مقام مقال.

والفرح – كالسرور- انفعال نفسي بنعمة حسية أو معنوية يلذ القلب ويشرح الصدر، وضدهما الأسى والحزن، وهما من الوجدان الطبيعي، لا يمدحان ولا يذمان لذاتهما، بل حكمهما حكم سببهما أو أثرهما في النفس والعمل، خلافا لبعض الناس من الصوفية وغيرهم فيهما، فقد أمر الله تعالى هنا بالفرح بفضله ورحمته، ومدح المؤمنين بالفرح في قوله: {ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله} [الروم: 4]، وهذا فرح بأمر ديني دنيوي، ثم قال فيها {وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها} [الروم: 36]، وقال في أهل الكتاب الذين يؤمنون به صلى الله عليه وسلم ويهتدون بالقرآن {والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك} [الرعد: 36].

وذم سبحانه الفرح بالباطل وفرح البطر والغرور بالمال ومتاع الدنيا وشهواتها في عدة آيات معروفة، وجعل الاعتدال بين الفرح والأسى والحزن من صفات المؤمنين، فقال بعد ذكر تربيتهم بالمصائب المقدرة في كتاب الله {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ ولَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ واللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 23]، وتقدم تحقيق الكلام في الحزن في تفسير سورة براءة (ج 10 تفسير).

والتعبير في الآية في غاية البلاغة لما فيها من التأكيد والمبالغة في التقرير، فإن أصل المعنى بدونهما: قل ليفرحوا بفضل الله وبرحمته، فأخر الأمر وقدم عليه متعلقه لإفادة الاختصاص، كأنه: قال إن كان في الدنيا شيء يستحق أن يفرح به فهو فضل الله ورحمته، وأدخل عليه الفاء لإفادة معنى السببية، فصار فيهما فليفرحوا دون ما يجمعون من متاع الدنيا المبين في آخر الآية، ثم أدخل على الأمر (فبذلك) لزيادة التأكيد والتقرير، وتفصيل مباحثه في الإعراب أكثر مما قلنا، وبسطه يشغل عن المعنى والاعتبار به، وهو خروج عن منهجنا في هذا التفسير.

ثم قال: {هُو خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} أي أن الفرح بفضله وبرحمته أفضل وأنفع لهم مما يجمعونه من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث وسائر متاع الحياة الدنيا، مع فقدهما، ولأنه سبب سعادة الآخرة الباقية، المفضلة على الحياة الدنيا الفانية، كما اشتهر فيما خطته الأقلام ولاكته الألسنة، بل لأنه هو الذي يجمع بين سعادة الدارين كما حصل بالفعل، إذ كانت هداية الإسلام بفضل الله وبرحمته سببا لما ناله المسلمون في العصور الأولى من الملك الواسع، والمال الكثير، مع الصلاح والإصلاح، والعدل والإحسان، والعلم والعرفان، والعز الكبير، فلما صار جمع المال ومتاع الدنيا وفرح البطر به هو المقصود لهم بالذات، وتركوا هداية الدين في إنفاقه والشكر عليه، ذهبت دنياهم من أيديهم إلى أعدائهم كما شرحناه مرارا.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

وإنما أمر الله تعالى بالفرح بفضله ورحمته، لأن ذلك مما يوجب انبساط النفس ونشاطها، وشكرها لله تعالى، وقوتها، وشدة الرغبة في العلم والإيمان الداعي للازدياد منهما، وهذا فرح محمود، بخلاف الفرح بشهوات الدنيا ولذاتها، أو الفرح بالباطل، فإن هذا مذموم كما قال [تعالى عن] قوم قارون له: {لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ْ}. وكما قال تعالى في الذين فرحوا بما عندهم من الباطل المناقض لما جاءت به الرسل: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ْ}

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

فبهذا الفضل الذي آتاه اللّه عباده، وبهذه الرحمة التي أفاضها عليهم من الإيمان.. فبذلك وحده فليفرحوا. فهذا هو الذي يستحق الفرح. لا المال ولا أعراض هذه الحياة. إن ذلك هو الفرح العلوي الذي يطلق النفس من عقال المطامع الأرضية والأعراض الزائلة، فيجعل هذه الأعراض خادمة للحياة لا مخدومة؛ ويجعل الإنسان فوقها وهو يستمتع بها لا عبداً خاضعاً لها. والإسلام لا يحقر أعراض الحياة الدنيا ليهجرها الناس ويزهدوا فيها. إنما هو يزنها بوزنها ليستمتع بها الناس وهم أحرار الإرادة طلقاء اليد، مطمحهم أعلى من هذه الأعراض، وآفاقهم أسمى من دنيا الأرض. الإيمان عندهم هو النعمة، وتأدية مقتضيات الإيمان هي الهدف. والدنيا بعد ذلك مملوكة لهم لا سلطان لها عليهم...

إن الأرزاق المادية، والقيم المادية، ليست هي التي تحدد مكان الناس في هذه الأرض.. في الحياة الدنيا فضلاً عن مكانهم في الحياة الأخرى.. إن الأرزاق المادية، والتيسيرات المادية، والقيم المادية، يمكن أن تصبح من أسباب شقوة البشرية -لا في الآخرة المؤجلة ولكن في هذه الحياة الواقعة- كما نشهد اليوم في حضارة المادة الكالحة!...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

يتفرع على كون القرآن هدى ورحمة للمؤمنين تنبيههم إلى أن ذلك فضل من الله عليهم ورحمة بهم يحق لهم أن يفرحوا بهما، وأن يقدروا قدر نعمتهما، وأن يعلموا أنها نعمة تفوق نعمة المال التي حُرم منها أكثر المؤمنين ومُنحها أكثر المشركين، فكانت الجملة حقيقة بأن تفتتح بفاء التفريع.

وجيء بالأمر بالقول معترضاً بين الجملة المفرعة والجملة المفرع عليها تنويهاً بالجملة المفرعة، بحيث يؤمر الرسول أمراً خاصاً بأن يقولها وإن كان جميع ما ينزل عليه من القرآن مأموراً بأن يقوله.

وتقدير نظم الكلام: قل لهم فليفرحوا بفضل الله وبرحمته بِذلك ليفرحوا.

فالفاء في قوله: {فليفرحوا} فاء التفريع، و {بفضل الله وبرحمته} مجرور متعلق بفعل {فليفرحوا} قُدم على متعلَّقه للاهتمام به للمسلمين ولإفادة القصر، أي بفضل الله وبرحمته دون ما سواه مما دل عليه قوله: {هو خير مما يجمعون}، فهو قصر قلب تعريضي بالرد على المشركين الذين ابتهجوا بعَرض المال فقالوا: نحن أكثر أموالاً وأولاداً.

والإشارة في قوله: {فبذلك} للمذكور، وهو مجموع الفضل والرحمة، واختير للتعبير عنه اسم الإشارة لما فيه من الدلالة على التنويه والتعظيم مع زيادة التمييز والاختصار. ولما قصد توكيد الجملة كلها بما فيها من صيغة القصر قرن اسم الإشارة بالفاء تأكيداً لفاء التفريع التي في {فليفرحوا} لأنه لما قدم على متعلَّقه قرن بالفاء لإظهار التفريع في ابتداء الجملة، وقد حذف فعل (ليفرحوا) فصار مفيداً مفاد جملتين متماثلتين مع إيجاز بديع. وتقدير معنى الكلام: قل فليفرحوا بفضل الله وبرحمته لا سواهما فليفرحوا بذلك لا سواه.

والفرح: شدة السرور.

ولك أن تجعل الكلام استئنافاً ناشئاً مما تقدم من النعمة على المؤمنين بالقرآن. ولما قدم المجرور وهو {بفضل الله وبرحمته} حصل بتقديمه معنى الشرط فقرنت الجملة بعده بالفاء التي تربط الجواب لقصد إفادة معنى الشرط. وهذا كثير في الاستعمال كقوله تعالى: {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} [المطففين: 26]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم « ففيهما فجاهد»، وقوله: « كما تكونوا يوَلَّ عليكم» بجزم (تكونوا) وجزم (يول). فالفاء في قوله: {فبذلك} رابطة للجواب، والفاء في قوله: {فليفرحوا} مؤكدة للربط.

ولم يختلف المفسرون في أن القرآن مراد من فضل الله ورحمته. وقد روي حديث عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: فضل الله القرآن. ورحمته أن جعلكم من أهله (يعني أن هداكم إلى اتباعه). ومثله عن أبي سعيد الخدْري والبراءِ موقوفاً، وهو الذي يقتضيه اللفظ فإن الفضل هو هداية الله التي في القرآن، والرحمة هي التوفيق إلى اتباع الشريعة التي هي الرحمة في الدنيا والآخرة.

وجملة: {هو خير مما يجمعون} مبيّنة للمقصود من القصر المستفاد من تقديم المجرورين.

وأفرد الضمير بتأويل المذكور كما أفرد اسم الإشارة. والضمير عائد إلى اسم الإشارة، أي ذلك خير مما يجمعون.

و {ما يجمعون} مراد به الأموال والمكاسب لأن فعل الجمع غلب في جمع المال. قال تعالى: {الذي جمع مالاً وعدده} [الهمزة: 2]. ومن المعتاد أن جامع المال يفرح بجمعه.

وضمير {يجمعون} عائد إلى {الناس} في قوله: {يأيها الناس قد جاءتكم موعظة} [يونس: 57] بقرينة السياق وليس عائداً إلى ما عاد إليه ضمير {يفرحوا} فإن القرائن تصرف الضمائر المتشابهة إلى مصارفها...

وعلى هذا الوجه يظهر معنى القصر أتمّ الظهور، وهو أيضاً المناسب لحالة المسلمين وحالة المشركين يومئذٍ، فإن المسلمين كانوا في ضعف لأن أكثرهم من ضعاف القوم أو لأن أقاربهم من المشركين تسلطوا على أموالهم ومنعوهم حقوقهم إلجاء لهم إلى العود إلى الكفر. وقد وصف الله المشركين بالثروة في آيات كثيرة كقوله: {وذرني والمكذبين أولي النَّعْمة} [المزمل: 11] وقال: {أن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين} [القلم: 14، 15] وقال: {لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل} [آل عمران: 196، 197]، فلعل المشركين كانوا يحتقرون المسلمين كما حكي عن قوم نوح قولهم: {وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا} [هود: 27]. وقد قال الله للنبيء صلى الله عليه وسلم {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي} إلى قوله: {أليس الله بأعلم بالشاكرين} [الأنعام: 52، 53] حين قال له المشركون: لو طردت هؤلاء العبيد من مجلسك لجلسنا إليك، فكمدهم الله بأن المسلمين خيرٌ منهم لأنهم كملت عقولهم بالعقائد الصحيحة والآداب الجليلة. وهذا الوجه هو المناسب للإتيان بالمضارع في قوله: {يجمعون} المقتضي تجدد الجمع وتكرره، وذلك يقتضي عنايتهم بجمع الأموال ولم يكن المسلمون بتلك الحالة.

والمعنى أن ذلك خير مما يجمعه المشركون مع اتصافهم بالشرك لأنهم وإن حصلوا ما به بعض الراحة في الدنيا فهم شرار النفوس خساس المدارك.

وقرأ الجمهور {يجمعون} بياء الغيبة فالضمير عائد على معلوم من الكلام، أي مما يجمع المشركون من الأموال. وقرأه ابن عامر وأبو جعفر ورويس عن يعقوب {مما تجمعون} بتاء الخطاب فيكون خطاباً للمشركين الذين شملهم الخطاب في أول الآية بقوله: {يأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم} [يونس: 57]، فإنه بعد أن عمم الخطاب خص المؤمنين بالذكر وبالجدارة بالفرح، فبقي الخطاب لمن عدا المسلمين وهم المشركون إذ ليس ثم غير هذين الفريقين من الناس هنالك. ولا يناسب جعل الخطاب للمسلمين إذ ليس ذلك من شأنهم كما تقدم آنفاً، ولأنه لا يظهر منه معنى التفضيل إلا بالاعتبار لأن المسلمين قد نالوا الفضل والرحمة فإذا نالوا معهما المال لم ينقص ذلك من كمالهم بالفضل والرحمة.

وقد أجملت الآية وجه تفضيل هذا الفضل والرحمة على ما يجمعونه لقصد إعمال النظر في وجوه تفضيله، فإنها كثيرة، منها واضح وخفي. وينبئ بوجه تفضيله في الجملة إضافتُه الفضل والرحمة إلى الله وإسناد فعل {يجمعون} إلى ضمير {الناس} [يونس: 57]. وهذا الفضل أخروي ودنيوي. أما الأخروي فظاهر، وأما الدنيوي فلأن كمال النفس وصحة الاعتقاد وتطلع النفس إلى الكمالات وإقبالها على الأعمال الصالحة تكسب الراحة في الدنيا وعيشة هنيئة. قال تعالى: {يأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مَرضية} [الفجر: 27، 28] فجعل رضاها حالاً لها وقت رجوعها إلى ربها.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

لأن الفرح الحقيقي، هو الفرح الذي ينطلق من قاعدةٍ ممتدّةٍ في كيان الإنسان وحياته، من خلال امتدادها في قضية المصير، ولن يكون ذلك إلا بالالتقاء بالله في فضله، في ما يفيض على الناس من هدايته ورضوانه، وما يمطرهم به من شآبيب رحمته، لأن العيش مع الله يمثّل الخير الذي لا شرّ معه، والراحة التي لا تعب فيها، والسرور الذي لا حزن معه، والأفق الواسع الذي لا يضيق عن شيءٍ، ولا يتعثر في موقف. أمّا مال الدنيا وشهواتها وأطماعها وطموحاتها، فهي الأشياء التي يلتقي بها الإنسان في الطريق، فيمر بها مروراً عابراً، ثم يتركها لفقر طارئ أو مقيمٍ، أو لألمٍ شديد، أو حزنٍ خانقٍ، أو فشل ذريعٍ، أو خسارةِ فادحة، أو موتٍ يأكل ذلك كله، ليسلمه إلى المصير المحتوم حيث الهلاك والعقاب عند الله. ولكن فضل الله ورحمته يحفظان الإِنسان ويحوطانه ويُسلمانه إلى الخير والفلاح في الدنيا والآخرة، فيشعر الإنسان معهما بالأمن والطمأنينة، وفي ذلك الفرح كل الفرح، حتى في أشد ساعات الحزن، وفي أقسى حالات الشدّة، لأنه يشعر أنه يعاني ما يعانيه تحت عين الله ورعايته، فيهون عليه كل شيء لأنه بعين الله، وفي سبيله، بعيداً عن كل أثقال الهموم والغموم، لأن الحياة عنده رسالةٌ تحتوي كل انفعالات الذات ومشاعرها، وليست حركةً في صعيد الذات على حساب قضايا الرسالة وأهدافها.