التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَٱلۡخَيۡلَ وَٱلۡبِغَالَ وَٱلۡحَمِيرَ لِتَرۡكَبُوهَا وَزِينَةٗۚ وَيَخۡلُقُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} (8)

ثم ذكر - سبحانه - أنواعا أخرى من الحيوان المنتفع به ، فقال - تعالى - : { والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ، وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } .

قال الجمل : " الخيل اسم جنس لا واحد له من لفظه ، بل من معناه وهو فرس ، وسميت خيلا لاختيالها فى مشيها .

والبغال جمع بغل : وهو المتولد بين الخيل والحمير . . " .

واللام فى قوله { لتركبوها } للتعليل .

ولفظ { وزينة } مفعول لأجله ، معطوف على محل { لتركبوها } .

والزينة : اسم لما يتزين به الإِنسان .

قال القرطبى : " هذا الجمال والتزيين وإن كان من متاع الدنيا ، إلا أن الله تعالى - أذن به لعباده ، ففى الحديث الشريف : " الإِبل عز لأهلها ، والغنم بركة ، والخيل فى نواصيها الخير " خرجه البرقانى وابن ماجة فى السنن ، . . " .

والمعنى : ومن مظاهر فضله عليكم ، ورحمته بكم ، أنه خلق لمنفعتكم - أيضا - الخيل والبغال والحمير ، لتركبوها فى غزوكم وتنقلاتكم ، ولتكون زينة لكم فى أفراحكم ومسراتكم .

وأتى - سبحانه - باللام فى { لتركبوها } دون ما بعدها ، للإِشارة إلى أن الركوب هو المقصود الأصلى بالنسبة لهذه الدواب ، أما التزيين بها فهو أمر تابع للركوب ومتفرع منه .

قال صاحب الظلال : وفى الخيل والبغال والحمير ، تلبية للضرورة فى الركوب ، وتلبية لحاسة الجمال فى الزينة .

وهذه اللفتة لها قيمتها فى بيان نظرة القرآن ونظرة الإِسلام للحياة ، فالجمال - المتمثل فى الزينة - عنصر له قيمة فى هذه النظرة ، وليست النعمة هى مجرد تلبية الضرورات من طعام وشراب وركوب ، بل تلبية الأشواق الزائدة عن الضرورات . تلبية حاسة الجمال ووجدان الفرح والشعور الإنسانى المرتفع على ميل الحيوان ، وحاجة الحيوان .

وقال بعض العلماء : وقد استدل بهذه الآية ، القائلون بتحريم لحوم الخيل قائلين بأن التعليل بالركوب والزينة يدل على أنها مخلوقة لهذه المصلحة دون غيرها .

وأجاب المجوزن لأكلها ، بأن ذكر ما هو الأغلب من منافعها - وهو الركوب والزينة - لا ينافى غيره .

وقد ورد فى حل أكل لحوم الخيل أحاديث منها ما فى الصحيحين وغيرهما ، من حديث أسماء قالت نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا فأكلناه .

وثبت - أيضا - فى الصحيحين من حديث جابر قال : " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية ، وأذن فى الخيل " .

وقد بسط الإِمام القرطبى القول فى هذه المسألة ، ورجح حل أكل لحوم الخيل ، وساق الأدلة والأحاديث فى ذلك ثم قال : " وكل تأويل من غير ترجيح فى مقابلة النص ، فإنما هو دعوى ، لا يلتفت إليه ، ولا يعرج عليه " .

ويعجبنى فى هذا المقام قول الإِمام البغوى : ليس المراد من الآية بيان التحليل والتحريم ، بل المراد منها تعريف الله عباده نعمه ، وتنبيههم على كمال قدرته وحكمته ، والدليل الصحيح المعتمد عليه فى إباحة لحوم الخيل أن السنة مبينة للكتاب .

ولما كان نص الآية يقتضى أن الخيل والبغال والحمير مخلوقة للركوب والزينة ، وكان الأكل مسكوتا عنه ، ودار الأمر فيه على الإِباحة والتحريم ، وردت السنة النبوية بإباحة لحوم الخيل ، وبتحريم لحوم البغال والحمير فوجب الأخذ بما جاء فى السنة التى هى بيان للكتاب .

هذا وقد ختم - سبحانه - الآية الكريمة بما يدل على عظيم قدرته ، وسعة علمه ، فقال : { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } .

أى : ويخلق - سبحانه - فى الحال والاستقبال ، مالا تعلمونه - أيها الناس - من أنواع المخلوقات المختلفة سوى هذه الدواب ، كالسفن التى تمخر عباب الماء ، والطائرات التى تشق أجواز الفضاء ، والسيارات التى تنهب الأرض نهبا لسرعتها ، وغير ذلك من أنواع المخلوقات التى لا يعلمها سواه - سبحانه - والتى أوجدها لمنفعتكم ومصلحتكم .

وهذه الجملة الكريمة تدل على أن القرآن من عند الله - تعالى - فقد أوجد - سبحانه - العقول البشرية ، التى ألهمها صنع الكثير من المخترعات النافعة فى البر وفى البحر وفى الجو ، والتى لم يكن للناس معرفة بها عند نزول القرآن الكريم .

وتشير - أيضا - إلى مزيد فضل الله - تعالى - على الناس ، حيث أخبرهم بأنه سيخلق لهم فى مستقبل الأيام من وسائل الركوب وغيرها ، ما فيه منفعة لهم ، سوى هذه الدواب التى ذكرها .

فعليهم أن يستعملوا هذه الوسائل فى طاعة الله - تعالى - لا فى معصيته وعليهم أن يتقبلوا هذه الوسائل ، وأن يفتحوا عقولهم لكل ما هو نافع .

ورحم الله صاحب الظلال ، فقد قال عند تفسيره الآية ما ملخصه : يعقب الله - تعالى - على خلق الأنعام والخيل والبغال والحمير بقوله { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } ليظل المجال مفتوحا فى التصور البشرى ، لتقبل أنماط جديدة من أدوات الحمل والركوب والزينة .

وحتى لا يقول بعض الناس : إنما استخدم آباؤنا الأنعام والخيل والبغال والحمير ، فلا نستخدم سواها ، وإنما نص القرآن على هذه الأصناف فلا نستخدم ماعداها .

ولقد جدت وسائل للحمل والنقل والركوب والزينة ، لم يكن يعلمها أهل ذلك الزمان ، وستجد وسائل أخرى لا يعلمها أهل هذا الزمان : والقرآن يهيئ لها القلوب والأذهان ، بلا جمود ولا تحجر ، { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } .

وبعد أن بين - سبحانه - دلائل وحدانيته وقدرته ، عن طريق خلق السموات والأرض والإِنسان والدواب . .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَٱلۡخَيۡلَ وَٱلۡبِغَالَ وَٱلۡحَمِيرَ لِتَرۡكَبُوهَا وَزِينَةٗۚ وَيَخۡلُقُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} (8)

( وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ )

( ويخلق ما لا تعلمون ) . . يعقب بها على خلق الأنعام للأكل والحمل والجمال ، وخلق الخيل والبغال والحمير للركوب والزينة . . ليظل المجال مفتوحا في التصور البشري لتقبل أنماط جديدة من أدوات الحمل والنقل والركوب والزينة ، فلا يغلق تصورهم خارج حدود البيئة ، وخارج حدود الزمان الذي يظلهم . فوراء الموجود في كل مكان وزمان صور أخرى ، يريد الله للناس أن يتوقعوها فيتسع تصورهم وإدراكهم ، ويريد لهم أن يأنسوا بها حين توجد أو حين تكشف فلا يعادوها ولا يجمدوا دون استخدامها والانتفاع بها . ولا يقولوا : إنما استخدم آباؤنا الأنعام والخيل والبغال والحمير فلا نستخدم سواها . وإنما نص القرآن على هذه الأصناف فلا نستخدم ما عداها ! .

إن الإسلام عقيدة مفتوحة مرنة قابلة لاستقبال طاقات الحياة كلها ، ومقدرات الحياة كلها ومن ثم يهيء القرآن الأذهان والقلوب لاستقبال كل ما تتمخض عنه القدرة ، ويتمخض عنه العلم ، ويتمخض عنه المستقبل . استقباله بالوجدان الديني المتفتح المستعد لتلقي كل جديد في عجائب الخلق والعلم والحياة .

ولقد وجدت وسائل للحمل والنقل والركوب والزينة لم يكن يعلمها أهل ذلك الزمان . وستجد وسائل أخرى لا يعلمها أهل هذا الزمان . والقرآن يهييء لها القلوب والأذهان ، بلا جمود ولا تحجر ( ويخلق ما لا تعلمون ) . .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَٱلۡخَيۡلَ وَٱلۡبِغَالَ وَٱلۡحَمِيرَ لِتَرۡكَبُوهَا وَزِينَةٗۚ وَيَخۡلُقُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} (8)

وقوله تعالى : { والخيل } عطف أي وخلق الخيل ، وقرأ ابن أبي عبلة ، «والخيلُ والبغالُ والحميرُ » بالرفع في كلها ، وسميت الخيل خيلاً لاختيالها في المشية ، أفهمه أعرابي لأبي عمرو بن العلاء ، وقوله { وزينة } نصب بإضمار فعل ، قيل تقديره وجعلنا زينة ، وقرأ ابن عياض «لتركبوها زينة » دون واو ، والنصب حينئذ على الحال من الهاء في { تركبوها }{[7255]} وقوله { ويخلق ما لا تعلمون } عبرة منصوبة على العموم ، أي أن مخلوقات الله من الحيوان وغيره لا يحيط بعلمها بشر ، بل ما يخفى عنه أثر مما يعلمه ، وقد روي أن الله تعالى خلق ألف نوع من الحيوان منها في البر أربعمائة ، وبثها بأعيانها في البحر ، وزاد في مائتين ليست في البر .

قال القاضي أبو محمد :وكل من خصص في تفسير هذه الآية شيئاً ، كقول من قال : سوس الثياب وغير ذلك فإنما هو على جهة المثال ، لا أن ما ذكره هو المقصود في نفسه . قال الطبري { ما لا تعلمون } هو ما أعد الله في الجنة لأهلها ، وفي النار لأهلها مما لم تره عين ولا سمعته أذن ولا خطر على قلب بشر ، واحتج بهذه الآية مالك رحمه الله ومن ذهب مذهبه في كراهة لحوم الخيل والبغال والحمير أو تحريمها بحسب الاختلاف في ذلك ، وذكر الطبري عن ابن عباس ، قال ابن جبير : سئل ابن عباس عن لحوم الخيل والبغال والحمير ، فكرهها فاحتج بهذه الآية ، وقال : جعل الله الأنعام للأكل ، وهذه للركوب ، وكان الحكم بن عتبة يقول : الخيل والبغال والحمير حرام في كتاب الله ويحتج بهذه الآية .

قال القاضي أبو محمد : وهذه الحجة غير لازمة عند جماعة من العلماء ، قالوا إنما ذكر الله عز وجل عظم منافع الأنعام ، وذكر عظم منافع هذه وأهم ما فيها ، وليس يقضي ذلك بأن ما ذكر لهذه لا تدخل هذه فيها ، قال الطبري وفي إجماعهم على جواز ركوب ما ذكر للأكل ، دليل على جواز أكل ما ذكر للركوب .

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا نظر ، ولحوم الخيل عند كثير من العلماء حلال ، وفي جواز أكلها حديث أسماء بنت أبي بكر ، وحديث جابر بن عبد الله : كنا نأكل الخيل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم{[7256]} .

قال القاضي أبو محمد : والبغال والحمير مكروهة عند الجمهور ، وهو تحقيق مذهب مالك ، ومن حجة من ألحق الخيل بالبغال والحمير في الكراهية القياس ، إذ قد تشابهت وفارقت الأنعام في أنها لا تجتر ، وأنها ذوات حوافر ، وأنها لا أكراش لها ، وأنها متداخلة في النسل ، إذ البغال بين الحمير والخيل فهذا من جهة النظر ، وأما من جهة الشرع بأن قرنت في هذه الآية وأسقطت فيها الزكاة .


[7255]:وقال الزمخشري: "التقدير: خلقها زينة لتركبوها".
[7256]:هذا هو لفظ حديث جابر، أما حديث أسماء فلم يذكره، ولفظه: (نحرنا فرسا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بالمدينة فأكلناه)، رواه مسلم، ورواه الدارقطني بزيادة تبين سبب الذبح، (قالت أسماء : كان لنا فرس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أرادت أن تموت فذبحناها فأكلناها)، فذبحها إنما كان لخوف الموت لا لغير ذلك من الأحوال.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَٱلۡخَيۡلَ وَٱلۡبِغَالَ وَٱلۡحَمِيرَ لِتَرۡكَبُوهَا وَزِينَةٗۚ وَيَخۡلُقُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} (8)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم ذكرهم النعم: {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة}، يقول: لكم في ركوبها جمال وزينة، يعني: الشارة الحسنة.

{ويخلق ما لا تعلمون} من الخلق...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: وخلق الخيل والبغال والحمير لكم أيضا "لتَرْكَبُوهَا وزِينَةً "يقول: وجعلها لكم زينةً تتزينون بها مع المنافع التي فيها لكم، للركوب وغير ذلك...

وكان بعض أهل العلم يرى أن في هذه الآية دلالة على تحريم أكل لحوم الخيل... وكان جماعة غيرهم من أهل العلم يخالفونهم في هذا التأويل، ويرون أن ذلك غير دالّ على تحريم شيء، وأن الله جلّ ثناؤه إنما عرّف عباده بهذه الآية وسائر ما في أوائل هذه السورة نعمة عليهم ونبههم به على حججه عليهم وأدلته على وحدانيته وخطأ فعل من يشرك به من أهل الشرك...

والصواب من القول في ذلك عندنا ما قاله أهل القول الثاني، وذلك أنه لو كان في قوله تعالى ذكره: "لِتَرْكَبُوها" دلالة على أنها لا تصلح إذ كانت للركوب للأكل لكان في قوله: "فِيها دِفْءٌ ومنَافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ" دلالة على أنها لا تصلح إذ كانت للأكل والدفء للركوب. وفي إجماع الجميع على أن ركوب ما قال تعالى ذكره وَمِنْها تَأْكُلُونَ جائز حلال غير حرام، دليل واضح على أن أكل ما قال: "لِتَرْكَبُوها" جائز حلال غير حرام، إلا بما نصّ على تحريمه أو وضع على تحريمه دلالة من كتاب أو وحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما بهذه الآية فلا يحرم أكل شيء...

وقوله: "وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ" يقول تعالى ذكره: ويخلق ربكم مع خلقه هذه الأشياء التي ذكرها لكم ما لا تعلمون...

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

" ويخلق ما لا تعلمون "من أنواع الحيوان والجماد والنبات لمنافعكم...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} يجوز أن يريد به: ما يخلق فينا ولنا مما لا نعلم كنهه وتفاصيله ويمنّ علينا بذكره كما منّ بالأشياء المعلومة مع الدلالة على قدرته. ويجوز أن يخبرنا بأن له من الخلائق ما لا علم لنا به، ليزيدنا دلالة على اقتداره بالإخبار بذلك، وإن طوى عنا علمه لحكمة له في طيه...

زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :

{وَيَخْلُقُ مَا لاً تَعْلَمُونَ} ذكر قوم من المفسرين: أن المراد به عجائب المخلوقات في السموات والأرض...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما كانت الأنعام أكثر أموالهم، مع أن منافعها أكثر، بدأ بها ثم ثنى بما هو دونها، مرتباً له على الأشرف فالأشرف، فقال تعالى: {والخيل} أي الصاهلة {والبغال} أي المتولدة بينها وبين الحمر {والحمير} أي الناهقة.

ولما كان الركوب فعل المخاطبين، وهو المقصود بالمنفعة، ذكره باللام التي هي الأصل في التعليل فقال: {لتركبوها} ولما كانت الزينة تابعة للمنفعة، وكانت فعلاً لفاعل الفعل المعلل، نصبت عطفاً على محل ما قبلها فقال: {وزينة}.

ولما دل على قدرته بما ذكر في سياق الامتنان، دل على أنها لا تتناهى في ذلك السياق، فنبه على أنه خلق لهم أموراً لو عدها لهم لم يفهموا المراد منها لجهلهم بها، ولعلها أجل منافع مما ذكر فقال: (ويخلق) أي على سبيل التجديد والاستمرار في الدنيا والآخرة {ما لا تعلمون} فلا تعلمون له موجداً غيره ولا مدبراً سواه.

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :

{وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}...ما لا تعلمون كنهَه وكيفيةَ خلقِه، فالعدولُ إلى صيغة الاستقبال للدِلالة على الاستمرار والتجددِ أو لاستحضار الصورة..ويجوز أن يكون هذا إخباراً بأنه سبحانه يخلق من الخلائق ما لا علمَ لنا به دَلالةً على قدرته الباهرة الموجبةِ للتوحيد كنعمته الباطنة والظاهرة.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

(وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ) (ويخلق ما لا تعلمون).. يعقب بها على خلق الأنعام للأكل والحمل والجمال، وخلق الخيل والبغال والحمير للركوب والزينة.. ليظل المجال مفتوحا في التصور البشري لتقبل أنماط جديدة من أدوات الحمل والنقل والركوب والزينة، فلا يغلق تصورهم خارج حدود البيئة، وخارج حدود الزمان الذي يظلهم. فوراء الموجود في كل مكان وزمان صور أخرى، يريد الله للناس أن يتوقعوها فيتسع تصورهم وإدراكهم، ويريد لهم أن يأنسوا بها حين توجد أو حين تكشف فلا يعادوها ولا يجمدوا دون استخدامها والانتفاع بها. ولا يقولوا: إنما استخدم آباؤنا الأنعام والخيل والبغال والحمير فلا نستخدم سواها. وإنما نص القرآن على هذه الأصناف فلا نستخدم ما عداها!. إن الإسلام عقيدة مفتوحة مرنة قابلة لاستقبال طاقات الحياة كلها، ومقدرات الحياة كلها ومن ثم يهئ القرآن الأذهان والقلوب لاستقبال كل ما تتمخض عنه القدرة، ويتمخض عنه العلم، ويتمخض عنه المستقبل. استقباله بالوجدان الديني المتفتح المستعد لتلقي كل جديد في عجائب الخلق والعلم والحياة. ولقد وجدت وسائل للحمل والنقل والركوب والزينة لم يكن يعلمها أهل ذلك الزمان. وستجد وسائل أخرى لا يعلمها أهل هذا الزمان. والقرآن يهيئ لها القلوب والأذهان، بلا جمود ولا تحجر (ويخلق ما لا تعلمون)..

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

...لا يتعلق الامتنان بنعمة غير مستعملة عند المنعم عليهم، وإن كان الشيء المنعم به قد تكون له منافع لا يقصدها المخاطبون مثل الحَرث بالإبل والخيل والبغال والحمير، وهو مما يفعله المسلمون ولا يعرف منكر عليهم. أو منافع لم يتفطن لها المخاطبون مثل ما ظهر من منافع الأدوية في الحيوان مما لم يكن معروفاً للناس من قبلُ، فيدخل كل ذلك في عموم قوله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} في سورة البقرة (29)، فإنه عموم في الذوات يستلزم عموم الأحوال عدا ما خصّصه الدليل مما في آية الأنعام (145) {قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً على طاعم يطعمه} الآية.