ثم أرشد - سبحانه - عباده المؤمنين إلى ما يعينهم إلى ما يعينهم على الاستقامة وعلى عدم الركون إلى الظالمين ، فقال : { وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار وَزُلَفاً مِّنَ الليل إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات ذلك ذكرى لِلذَّاكِرِينَ } .
والمراد بإقامتها الإِتيان بها فى أوقاتها كاملة الأركان والخشوع والإِخلاص لله رب العالمين .
والمراد بالصلاة هنا : الصلاة المفروضة .
قال القرطبى : لم يختلف أحد من أهل التأويل فى أن الصلاة فى هذه الآية ، المراد بها الصلوات المفروضة . وخصها بالذكر لأنها ثانية أركان الإِسلام ، وإليها يفزع فى النوائب ، وكان النبى - صلى الله عليه وسلم - " إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة " .
وطرفى النهار : أى أول النهار وآخره ، لأن طرف الشئ منتهاه من أوله أو من آخره .
والنهار : يتناول ما بين مطلع الفجر إلى غروب الشمس . سمى بذلك لأن الضياء ينهر فيه أى يبرز كما يبرز النهر .
والصلاة التى تكون فى هذين الوقتين ، تشمل صلاة الغداة وهى صلاة الصبح ، وصلاة العشى وهى صلاة الظهر والعصر ، لأن لفظ العشى يكون من الزوال إلى الغروب .
وقيل الصلاة التى تكون فى هذين الوقتين هى صلاة الصبح والمغرب .
وقوله { وَزُلَفاً مِّنَ الليل } معطوف على طرفى النهار .
والزلف جمع زلفه كغرف وغرفة - والمراد بها الساعات القريبة من آخر النهار ، إذا الإِزلاف معناه القرب ومنه قوله - تعالى - { وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ . . . } أى : قربت منهم . وتقول أزلفنى فلان منه : أى قربنى .
فمعنى { وَزُلَفاً مِّنَ الليل } يعنى صلاة المغرب والعشاء . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " هما زلفتا الليل : المغرب والعشاء " .
ويحتمل أن تكون هذه الآية نزلت قبل فرض الصلوات الخمس ليلة الإِسراء ، فإنه إنما كان يجب من الصلاة صلاتان : صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها ، وفى أثناء الليل قيام عليه وعلى الأمة ، ثم نسخ فى حق الأمة ، وثبت وجوبه عليه ، ثم نسخ عنه أيضا فى قول .
وجملة { إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات } مسوقة مساق التعليل للأمر بإقامة الصلاة ، وأكدت بحرف { إن } للاهتمام وتحقيق الخبر ، والحسنات صفة لموصوف محذوف ، وكذلك السيئات .
والمعنى : إن الأعمال الحسنة - كالصلاة والزكاة والصيام والحج ، والاستغفار . . يذهبن الأعمال السيئات ، أى يذهبن المؤاخذة عليها ، ويذهبن الاتجاه إليها ببركة المواظبة على الأعمال الحسنة .
والمراد بالسيئات هنا صغار الذنوب ، لقوله - تعالى - { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً } ولقوله - تعالى - { الذين يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثم والفواحش إِلاَّ اللمم إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المغفرة . . . } ولأن كبائر الذنوب لا تكفرها إلا التوبة الصادقة .
وقوله { ذلك ذكرى لِلذَّاكِرِينَ } أى : ذلك الذى أمرناك به من وجوب إقامة الصلاة ، ومن الاستقامة على أمر الله . . فيه التذكرة النافعة ، لمن كان شأنه التذكر والاعتبار ، لا الإِعراض والعناد .
وهذه الآية الكريمة من الآيات التى قال عنها بعض المفسرين بأنها مدنية ، وقد ذكرنا فى التمهيد بين بدى السورة ، أن سورة هود ترجح أنها كلها مكية ، وليس فيها آيات مدنية .
ومما يؤيد أن هذه الآية مكية أنها مسوقة مع ما سبقها من آيات لتسلية النبى - صلى الله عليه وسلم - ولإِرشاده وأتباعه إلى ما يعينهم على الاستقامة ، وعدم الركون إلى الظالمين .
ولأن بعض الروايات التى وردت فى شأنها لم تذكر أنها نزلت فى المدينة ، بل ذكرت أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - تلاها على السائل ، ومن هذه الروايات ما رواه الإِمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذى والنسائى وابن جرير - وهذا لفظه - عن ابن مسعود قال : " جاء رجل إلى البنى - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله إنى وجدت أمرة فى بستان ، ففعلت بها كل شئ غير أنى لم أجامعها ، فافعل بى ما شئت ، فلم يقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا ، فذهب الرجل ، فقال عمر : لقد ستر الله عليه لو ستر على نفسه ، فأتبعه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بصره ثم قال : ردوه على فرده عليه فقرأ عليه : { وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار وَزُلَفاً مِّنَ الليل . . } الآية ، فقال معاذ - وفى رواية عمر - يا رسول الله ، أله وحده أم للناس كافة ؟ فقال : بل للناس كافة " والروايات التى ورد فيها فأنزل عليه هذه الآية ، فى الإِمكان أن تؤول أن المراد أنزل عليه شمول عموم الحسنات والسيئات لقضية السائل ، لجميع ما يماثلها من إصابة الذنوب سوى الكبائر .
والله - سبحانه - يرشد رسوله [ ص ] ومن معه من القلة المؤمنة إلى زاد الطريق :
( وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل ) . .
ولقد علم الله أن هذا هو الزاد الذي يبقى حين يفنى كل زاد ، والذي يقيم البنية الروحية ، ويمسك القلوب على الحق الشاق التكاليف . ذلك أنه يصل هذه القلوب بربها الرحيم الودود ، القريب المجيب ، وينسم عليها نسمة الأنس في وحشتها وعزلتها في تلك الجاهلية النكدة الكنود !
والآية هنا تذكر طرفي النهار - وهما أوله وآخره ، وزلفا من الليل أي قريبا من الليل . وهذه تشمل أوقات الصلاة المفروضة دون تحديد عددها . والعدد محدد بالسنة ومواقيته كذلك .
والنص يعقب على الأمر بإقامة الصلاة - أي أدائها كاملة مستوفاة - بأن الحسنات يذهبن السيئات . وهو نص عام يشمل كل حسنة ، والصلاة من أعظم الحسنات ، فهي داخلة فيه بالأولوية . لا أن الصلاة هي الحسنة التي تذهب السيئة بهذا التحديد - كما ذهب بعض المفسرين - :
وقوله تعالى : { أقم الصلاة } الآية ، لم يختلف أحد في أن { الصلاة } في هذه الآية يراد بها الصلوات المفروضة ، واختلف في { طرفي النهار } وزلف الليل فقيل : الطرف الأول الصبح ، والثاني الظهر والعصر ، والزلف : المغرب والعشاء ، قاله مجاهد ومحمد بن كعب القرظي وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المغرب والعشاء :«هما زلفتا الليل »{[6528]} وقيل : الطرف الأول : الصبح ، والثاني : العصر ، قاله الحسن وقتادة والضحاك ، والزلف : المغرب والعشاء ، وليست الظهر في هذه الآية على هذا القول - بل هي في غيرها ، وقيل الطرفان : الصبح والمغرب - قاله ابن عباس والحسن - أيضاً - والزلف : العشاء ، وليست في الآية الظهر والعصر . وقيل : الطرفان : الظهر والعصر ، والزلف : المغرب والعشاء والصبح .
قال القاضي أبو محمد : كأن هذا القائل راعى جهر القراءة ، والأول أحسن هذه الأقوال عندي ورجح الطبري أن الطرفين : الصبح والمغرب ، وأنه الظاهر ، إلا أن عموم الصلوات الخمس بالآية أولى .
وقرأ الجمهور «زلَفاً » بفتح اللام ، وقرأ طلحة بن مصرف وابن محيصن وعيسى وابن إسحاق وأبو جعفر «زلُفاً » بضم اللام كأنه اسم مفرد . وقرأ «زلْفاً » بسكون اللام مجاهد ، وقرأ أيضاً : «زلفى » على وزن - فعلى - وهي قراءة ابن محيصن . والزلف : الساعات القريب بعضها من بعض . ومنه قول العجاج : [ الرجز ]
سماوة الهلال حتى احقوقفا{[6529]}***
وقوله { إن الحسنات يذهبن السيئات } ، ذهب جمهور المتأولين من صحابة وتابعين إلى أن { الحسنات } يراد بها الصلوات الخمس - وإلى هذه الآية ذهب عثمان - رضي الله عنه - عند وضوئه على المقاعد{[6530]} وهو تأويل مالك ، وقال مجاهد : { الحسنات } : قول الرجل : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كله إنما هو على جهة المثال في الحسنات ، ومن أجل أن الصلوات الخمس هي أعظم الأعمال ، والذي يظهر أن لفظ الآية لفظ عام في الحسنات خاص في السيئات بقوله عليه السلام : «ما اجتنبت الكبائر » .
وروي أن هذه الآية نزلت في رجل من الأنصار ، قيل : هو أبو اليسر بن عمرو ، وقيل : اسمه عباد ، خلا بامرأة فقبلها وتلذّذ بها فيما دون الجماع ، ثم جاء إلى عمر فشكا إليه ، فقال : قد ستر الله عليك فاستر على نفسك ، فقلق الرجل فجاء أبا بكر فشكا إليه ، فقال له مثل مقالة عمر ، فقلق الرجل فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فصلى معه ، ثم أخبره وقال : اقض فيَّ ما شئت ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لعلها زوجة غاز في سبيل الله ، قال : نعم ، فوبخه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : ما أدري ، فنزلت هذه الآية ، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتلاها عليه : فقال معاذ بن جبل : يا رسول الله خاصة ؟ قال : بل للناس عامة{[6531]} . وروي أن الآية كانت نزلت قبل ذلك واستعملها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الرجل وروي أن عمر قال ما حكي عن معاذ .
قال القاضي أبو محمد : وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «الجمعة إلى الجمعة ، والصلوات الخمس ، ورمضان إلى رمضان - كفارة لما بينها إن اجتنبت الكبائر »{[6532]} فاختلف أهل السنة في تأويل هذا الشرط في قوله : «إن اجتنبت الكبائر » ، فقال جمهورهم : هو شرط في معنى الوعد كله ، أي إن اجتنبت الكبائر كانت العبادات المذكورة كفارة للذنوب ، فإن لم تجتنب لم تكفر العبادات شيئاً من الصغائر . وقالت فرقة : معنى قوله إن اجتنبت : أي هي التي لا تحطها العبادات ، فإنما شرط ذلك ليصح بشرطه عموم قوله : ما بينهما ، وإن لم تحطها العبادات وحطت الصغائر .
قال القاضي أبو محمد : وبهذا أقول وهو الذي يقتضيه حديث خروج الخطايا مع قطر الماء وغيره{[6533]} ؛ وذلك كله بشرط التوبة من تلك الصغائر وعدم الإصرار عليها ، وهذا نص الحذاق الأصوليين . وعلى التأويل الأول تجيء هذه مخصوصة في مجتنبي الكبائر فقط .
وقوله ذلك إشارة إلى الصلوات ، ووصفها ب { ذكرى } ، أي هي سبب ذكر وموضع ذكرى ، ويحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى الإخبار ب { إن الحسنات يذهبن السيئات } ، فتكون هذه الذكرى تحض على الحسنات ، ويحتمل أن تكن الإشارة إلى جميع ما تقدم من الأوامر والنواهي في هذه السورة ، وهو تفسير الطبري .