ثم مدح - سبحانه - المؤمنين الصادقين الذين لم تمنعهم جراحهم وآلامهم عن الاستجابة لأمر رسولهم - صلى الله عليه وسلم - فقال - تعالى - : { الذين استجابوا للَّهِ والرسول مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ القرح لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ واتقوا أَجْرٌ عَظِيمٌ } .
قال الفخر الرازى ما ملخصه : اعلم أن الله - تعالى - مدح المؤمنين على غزوتين تعرف إحداهما : بغزوة حمراء الأسد ، والثانية : بغزوة بدر الصغرى . وكلاهما متصلة بغزوة أحد .
أما غزوة حمراء الأسد فهى المرادة من هذه الآية ، فإن الأصح فى سبب نزولها أن أبا سفيان وأصحابه بعد أن انصرفوا من أحد وبلغوا الروحاء ، ندموا وقالوا : إنا قتلنا أكثرهم ولم يبق منهم إلا القليل فَلِم تركناهم ؟ بل الواجب أن نرجع ونستأصلهم ، فهموا بالرجوع .
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأراد أن يرهب الكفار ويريهم من نفسه ومن أصحابه قوة . فندب أصحابه إلى الخروج فى طلب أبى سفيان وقال : لا اريد أن يخرج الآن معى إلا من كان معى فى القتال - فى أحد - .
فخرج الرسول صلى الله عليه وسلم مع قوم من أصحابه حتى بلغوا حمراء الأسد .
وهى مكان على بعد ثمانية أميال من المدينة .
فألقى الله الرعب فى قلوب المشركين فانهزموا .
وروى أنه كان فيهم من يحمل صاحبه على عنقه ساعة ، ثم كان المحمول يحمل الحامل ساعة أخرى . وكان كل ذلك لإثخان الجراح فيهم ، وكان فيهم من يتوكأ على صاحبه ساعة ويتوكأ عليه صاحبه ساعة .
وقوله { استجابوا } بمعنى أجابوا . وقيل : استجابوا ، أصلها طلبوا الإجابة لأن الأصل فى الاستفعال طلب الفعل . والقرح : الجراح الشديدة .
والمعنى : أن الله - تعالى - لا يضيع أجر هؤلاء المؤمنين الصادقين ، الذين أجابوا داعى الله وأطاعوا رسوله ، بأن خرجوا للجهاد فى سبيل عقيدتهم بدون وهن أو ضعف أو استكانة مع ما بهم من جراح شديدة ، وآلام مبرحة .
ثم بين - سبحانه - جزاءهم فقال : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ واتقوا أَجْرٌ عَظِيمٌ } أى للذين أحسنوا منهم بأن أدوا جميع المأمورات ، واتقوا الله فى كل أحوالهم بأن صانوا أنفسهم عن جميع المنهيات ، لهؤلاء أجر عظيم لا يعلم كنهه إلا الله - تعالى - .
وقوله { الذين استجابوا } فى موضع رفع على الابتداء وخبره قوله { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ } ويجوز أن يكون فى موضع جر على أنه صفة للمؤمنين فى قوله : { وَأَنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المؤمنين } .
قال صاحب الكشاف : و " من " فى قوله { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ } للتبيين مثلها فى قوله - تعالى - { وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } لأن الذين استجابوا لله والرسول قد أحسنوا كلهم واتقوا لا بعضهم .
وبعد تقرير هذه الحقيقة الكبيرة يتحدث عن " المؤمنين " الذين يستبشر الشهداء في الموقعة بما هو مدخر لهم عند ربهم ، فيعين من هم ؛ ويحدد خصائصهم وصفاتهم وقصتهم مع ربهم :
( الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم . الذين قال لهم الناس : إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ، فزادهم إيمانا . وقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل . فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء ، واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم ) . .
إنهم أولئك الذين دعاهم الرسول [ ص ] إلى الخروج معه كرة أخرى غداة المعركة المريرة . وهم مثخنون بالجراح . وهم ناجون بشق الأنفس من الموت أمس في المعركة . وهم لم ينسوا بعد هول الدعكة ، ومرارة الهزيمة ، وشدة الكرب . وقد فقدوا من أعزائهم من فقدوا ، فقل عددهم ، فوق ما هم مثخنون بالجراح !
ولكن رسول الله [ ص ] دعاهم . ودعاهم وحدهم . ولم يأذن لأحد تخلف عن الغزوة أن يخرج معهم - ليقويهم ويكثر عددهم كما كان يمكن أن يقال ! - فاستجابوا . . استجابوا لدعوة الرسول [ ص ] وهي دعوة الله - كما يقرر السياق وكما هي في حقيقتها وفي مفهومهم كذلك - فاستجابوا بهذا لله والرسول ( من بعد ما أصابهم القرح ) ، ونزل بهم الضر ، وأثخنتهم الجراح .
لقد دعاهم رسول الله [ ص ] ودعاهم وحدهم . وكانت هذه الدعوة وما تلاها من استجابة تحمل إيحاءات شتى ، وتومى ء إلى حقائق كبرى ، نشير إلى شيء منها :
فلعل رسول الله [ ص ] شاء ألا يكون آخر ما تنضم عليه جوانح المسلمين ومشاعرهم ، هو شعور الهزيمة ، وآلام البرح والقرح ؛ فاستنهضهم لمتابعة قريش ، وتعقبها ، كي يقر في أخلادهم إنها تجربة وابتلاء ، وليست نهاية المطاف . وأنهم بعد ذلك أقوياء ، وأن خصومهم المنتصرين ضعفاء ، إنما هي واحدة وتمضي ، ولهم الكرة عليهم ، متى نفضوا عنهم الضعف والفشل ، واستجابوا لدعوة الله والرسول .
ولعل رسول الله [ ص ] شاء في الجانب الآخر ألا تمضي قريش ، وفي جوانحها ومشاعرها أخيلة النصر ومذاقاته . فمضى خلف قريش بالبقية ممن حضروا المعركة أمس ؛ يشعر قريشا أنها لم تنل من المسلمين منالا . وأنه بقي لها منهم من يتعقبها ويكر عليها . .
وقد تحققت هذه وتلك كما ذكرت روايات السيرة .
ولعل رسول الله [ ص ] شاء أن يشعر المسلمين ، وأن يشعر الدنيا كلها من ورائهم ، بقيام هذه الحقيقة الجديدة التي وجدت في هذه الأرض . . حقيقة أن هناك عقيدة هي كل شيء في نفوس أصحابها . ليس لهم من أرب في الدنيا غيرها ، وليس لهم من غاية في حياتهم سواها . عقيدة يعيشون لها وحدها ، فلا يبقى لهم في أنفسهم شيء بعدها ، ولا يستبقون هم لأنفسهم بقية في أنفسهم لا يبذلونها لها ، ولا يقدمونها فداها . .
لقد كان هذا أمرا جديدا في هذه الأرض في ذلك الحين . ولم يكن بد أن تشعر الأرض كلها - بعد أن يشعر المؤمنين - بقيام هذا الأمر الجديد ، وبوجود هذه الحقيقة الكبيرة .
وقوله تعالى : { الذين استجابوا } يحتمل أن تكون { الذين } صفة للمؤمنين على قراءة من كسر الألف من » إن « ، والأظهر أن { الذين } ابتداء وخبره في قوله تعالى : { للذين أحسنوا } الآية ، فهذه الجملة هي خبر الابتداء الأول ، والمستجيبون لله والرسول هم الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد{[3715]} في طلب قريش والتظاهر لهم وذلك أنه لما كان في يوم الأحد وهو الثاني من يوم أحد نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس باتباع المشركين ، وقال : لا يخرجن معنا إلا من شاهدنا بالأمس{[3716]} ، وكانت بالناس جراحة وقرح عظيم ، ولكن تجلدوا ونهض معه مائتا رجل من المؤمنين حتى بلغ حمراء الأسد ، وهي على ثمانية أميال من المدينة ، وأقام بها ثلاثة أيام ، وجرت قصة معبد بن أبي معبد التي ذكرناها ، ومرت قريش وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، فأنزل الله تعالى في شأن أولئك المستجيبين هذه الآية ، ومدحهم لصبرهم ، وروي أنه خرج في الناس أخوان{[3717]} وبهما جراحة شديدة وكان أحدهما قد ضعف ، فكان أخوه يحمله عقبة ويمشي هو عقبة ، ورغب جابر بن عبد الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الخروج معه فأذن له ، وأخبرهم تعالى أن الأجر العظيم قد تحصل لهم بهذه الفعلة ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنها غزوة{[3718]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.