ثم بين - سبحانه - أنهم لا يكتفون بمحاربة الدعوة الإسلامية ، بل هم لفجورهم - يحرضون غيرهم على محاربتها معهم فقال - تعالى - :
{ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } .
النهى : الزجر ، والنأى : البعد ، والضمير " هم " يعود على المشركين .
والمعنى : إن هؤلاء المشركين لا يكتفون بمحاربة الحق ، بل يزجرون الناس عن اتباعه ، ويبعدونهم عن الاستماع إليه . فهم قد جمعوا بين فعلين قبيحين : محاربتهم للحق وحمل غيرهم معهم على محاربته والبعد عنه .
وهم بهذا العمل الباطل القبيح ما يهلكون إلا أنفسهم ولكنهم لا يشعرون بذلك لانطماس بصيرتهم ، وقسوة قلوبهم .
وعملهم هذا يدل على أنهم كانوا معترفين فى قرارة أنفسهم بأن القرآن حق ، لأنهم لو كانوا يعتقدون أنه أساطير الأولين - كما زعموا - لتركوا الناس يسمعونها ليتأكدوا من أنها خرافات وأوهام ، ولكنهم لما كانوا مؤمنين ببلاغة القرآن وصدقه ، فإنهم نهوا غيرهم عن سماعه حتى لا يؤمن به وابتعدوا هم عنه حتى لا يتأثروا به فيدخلوا فى دين الإسلام ، ولقد حكى الله عنهم هذا المعنى فى قوله - تعالى -
{ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } والضمير فى قوله - تعالى - { عَنْهُ } يرجع إلى النبى صلى الله عليه وسلم وما جاء به من آيات .
ويرى بعض المفسرين أن الضمير " هم " يرجع إلى عشيرة النبى صلى الله عليه وسلم فيكون المعنى : وهم - أى أعمام النبى صلى الله عليه وسلم وعشيرته ينهون الناس عن إيذائه والتعرض له بسوء ، ولكنهم فى الوقت نفسه ينأون عنه أى يبتعدون عن دعوته فلا يؤمنون بها ، ولعل أوضح مثل لذلك أبو طالب ، فقد كان يدافع عن النبى صلى الله عليه وسلم إلا أنه لم يدخل فى الإسلام مع تصريحه بأنه هو الدين الحق .
ومما روى عنه فى هذا المعنى قوله :
والله لن يصلوا إليك بجمعهم . . . حتى أوسد فى التراب دفيناً
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضه . . . وابشر بذاك وقر منك عيوناً
ودعوتنى وزعمت أنك ناصحى . . . فلقد صدقت وكنت قبل أميناً
وعرضت ديناً قد عرفت بأنه . . . من خير أديان البرية ديناً
لولا الملامة أو حذار مسبة . . . لوجدتنى سمحاً بذاك يقيناً
والذى تطمئن إليه النفس أن الرأى الأول هو الأرجح . لأن الكلام مسوق فى بيان موقف المشركين من النبى صلى الله عليه وسلم ، وأنهم قد بلغ بهم السفه والعناد أنهم لا يكتفون بالإعراض عن الحق الذى جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بل تعدى شرهم إلى غيرهم ، وأنهم كانوا يحرضون الناس على إيذائه وعلى الابتعاد عنه .
ولقد كانوا كذلك ينهون الناس عن الاستماع إليه - وهم كبراؤهم - وينأون هم عن الاستماع خشية التأثر والاستجابة :
( وهم ينهون عنه ، وينأون عنه ، وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون ) . .
لقد كانوا على يقين من أنه ليس أساطير الأولين . وأن مواجهته بأساطير الأولين لا تجدي لو ترك الناس يسمعون ! وكان كبراء قريش يخافون على أنفسهم من تأثير هذا القرآن فيها كما يخافون على أتباعهم . فلم يكن يكفي إذن في المعركة بين الحق النفاذ بسلطانه القوي ، والباطل الواهن المتداعي ، أن يجلس النضر بن الحارث يروي للناس أساطير الأولين ! ومن ثم كانوا ينهون أتباعهم أن يستمعوا لهذا القرآن ؛ كما كانوا هم أنفسهم ينأون بأنفسهم - خوفا عليها أن تتأثر وتستجيب - وحكاية الأخنس بن شريق ، وأبي سفيان بن حرب ، وعمرو بن هشام وهم يقاومون جاذبية القرآن التي تشدهم شدا إلى التسمع في خفية لهذا القرآن حكاية مشهورة في السيرة .
وهذا الجهد كله الذي كانوا يبذلونه ليمنعوا أنفسهم ويمنعوا غيرهم من الاستماع لهذا القرآن ؛ ومن التأثر به والاستجابة له . . هذا الجهد كله إنما كانوا يبذلونه في الحقيقة لإهلاك أنفسهم - كما يقرر الله - سبحانه - : ( وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون )
وهل يهلك إلا نفسه من يجاهد نفسه ويجاهد غيره دون الهدى والصلاح والنجاة ، في الدنيا والآخرة ؟
إنهم مساكين أولئك الذين يجعلون همهم كله في الحيلولة بين أنفسهم والناس معهم وبين هدى الله ! مساكين ! ولو تبدوا في ثياب الجبابرة وزي الطواغيت ! مساكين فهم لا يهلكون إلا أنفسهم في الدنيا والآخرة . وإن بدا لهم حينا من الدهر وبدا للمخدوعين بالزبد أنهم رابحون مفلحون .
الضمير في قوله : { وهم } عائد على المذكورين قبل ، والضمير في { عنه } قال قتادة ومجاهد يعود على القرآن المتقدم ذكره في قوله أن يفهموه وقال ابن عباس وابن الحنفية والضحاك : هو عائد على محمد عليه السلام والمعنى أنهم ينهون غيرهم ويبعدون هم بأنفسهم و «النأي » البعد{[4876]} ، { وإن يهلكون } معناه ما يهلكون إلا أنفسهم بالكفر الذي يدخلهم جهنم ، وقال ابن عباس أيضاً والقاسم وحبيب بن أبي ثابت وعطاء بن دينار المراد بقوله { وهم ينهون عنه } أبو طالب ومن كان معه على حماية رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الدوام في الكفر{[4877]} ، والمعنى وهم ينهون عنه من يريد إذايته { وينأون عنه } بإيمانهم واتباعهم فهم يفعلون الشيء وخلافه ، ويقلق على هذا القول رد قوله { وهم } على جماعة الكفار المتقدم ذكرها ، لأن جميعهم لم يكن ينهى عن إذاية النبي صلى الله عليه وسلم .
قال القاضي أبو محمد : ويتخرج ذلك ويحسن على أن تقدر القصد ذكر ما ينعى على فريق فريق من الجماعة التي هي كلها مجمعة على الكفر ، فخرجت العبارة عن فريق من الجماعة بلفظ يعم الجماعة ، لأن التوبيخ على هذه الصورة أغلظ عليهم ، كما تقول إذا شنعت على جماعة فيها زناة وسرقة وشربة خمر هؤلاء يزنون ويسرقون ويشربون الخمر وحقيقة كلامك أن بعضهم يفعل هذا وبعضهم يفعل هذا ، فكأنه قال : من هؤلاء الكفرة من يستمع وهم ينهون عن إذايته ولا يؤمنون به ، أي : منهم من يفعل ذلك { وما يشعرون } معناه : ما يعلمون علم حسّ ، وهو مأخوذ من الشعار الذي يلي بدن الإنسان ، والشعار مأخوذ من الشعر ، ونفي الشعور مذمة بالغة إذ البهائم تشعر وتحس ، فإذا قلت لا يشعر فقد نفيت عنه العلم النفي العام الذي يقتضي أنه لا يعلم ولا المحسوسات .
قال القاضي أبو محمد : وقرأ الحسن «وينون عنه » ألقيت حركة الهمزة على النون على التسهيل القياسي .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.