وبعد أن بين - سبحانه - مزايا هذا القرآن أتبع ذلك ببيان عاقبة الذين يفترون الكذب على الله - تعالى - ، وصور أحوالهم عند النزع الأخير وعندما يقفون أمام ربهم للحساب بصورة ترتجف لها الأفئدة فقال - تعالى - :
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ } .
والمعنى لا أحد أشد ظلما ممن اختلق الكذب على الله فجعل له شركاء من خلقه ، وأنكر ما جاء به النبى صلى الله عليه وسلم من هدايات ، وحلل وحرم بهواه ما لم يأذن به الله .
والاستفهام إنكارى فهو فى معنى النفى . و { مَنْ } اسم موصول والمراد به الجنس . أى : كل من افترى على الله كذبا ، وليس المراد فردا معينا .
{ أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ } أى : قال بأن الله أوحى إلى بالرسالة أو النبوة مع أنه كاذب فى دعواه ، فإن الله ما أوحى إليه شيئا ، وهذا يصدق على ما ادعاه مسيلمة الكذاب والأسود العنسى من أنهما نبيان يوحى إليهما .
ويصدق - أيضاً - على كل مدع للوحى والنبوة فى كل زمان ومكان .
وهذه الجملة الكريمة معطوفة على صلة { مَنْ } من عطف الخاص على العام ، لأن هذا القول هو نوع من أنواع افتراء الكذب .
{ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ الله } أى : ولا أحد أظلم - أيضاً - ممن قال بأنى قادر على أن أنزل قرآنا مثل الذى أنزله الله كالذين حكى القرآن عنهم قوله : { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين } وبذلك نرى أن الآية الكريمة قد توعدت بأشد ألوان الوعيد كل مفتر على الله الكذب ، وكل مدع أنه يوحى إليه شىء وكل من زعم أنه فى قدرته أن يأتى بقرآن مثل هذا القرآن كما حدث من النضر بن الحارث وعبد الله بن سعد بن أبى سرح .
ثم بين - سبحانه - مصير كل ظالم أثيم فقال : { وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون فِي غَمَرَاتِ الموت } أى : ولو ترى أيها الرسول الكريم أو أيها العاقل حالة أولئك الظالمين وهم فى غمران الموت أى : فى شدائده وكرباته وسكراته لرأيت شيئا فظيعا هائلا ترتعد منه الأبدان ، فجواب الشرط محذوف .
والغمرات : جمع غمرة وهى الشدة . وأصلها الشىء الذى يغمر الأشياء فيغطيها ، يقال غمره الماء إذا علاه وستره ثم استعمل فى الشدائد والمكاره .
وتفييد الرؤية بهذا الوقت لإفادة أنه ليس المراد مجرد الرؤية ، بل المراد رؤيتهم على حال فظيعة عند كل ناظر .
وقوله { والملائكة باسطوا أَيْدِيهِمْ أخرجوا أَنْفُسَكُمُ } أى والملائكة الموكلون بقبض أرواحهم باسطوا أيديهم إليهم بالإماتة والعذاب قائلين لهم على سبيل التوبيخ والزجر : أخرجوا إلينا أرواحكم من أجسادكم .
والأمر هنا للتعجيز أى : أخرجوا أنفسكم من هذا العذاب إن استطعتم إلى ذلك سبيلا .
قال الآلوسى : وذهب بعضهم إلى أن هذا تمثيل لفعل الملائكة فى قبض أرواح الظلمة بفعل الغريم الملح يبسط يده إلى من عليه الحق ويعنف عليه فى المطالبة ولا يمهله ويقول له : أخرج مالى عليك الساعة ولا أبرح مكانى حتى انتزعه منك . وفى الكشاف : أنه كناية عن العنف فى السياق والإلحاح والتشديد فى الإزهاق من غير تنفيس وإمهال ولا بسط ولا قول حقيقة هناك واستظهر ابن المنير أنهم يفعلون معهم هذه الأمور حقيقة على الصور المحكية وإذا أمكن البقاء على الحقيقة فلا معدل عنها " .
ولعل مما يؤيد قول ابن المنير فى تعليقه على ما قال صاحب الكشاف ما جاء فى آية أخرى وهى قوله - تعالى - { وَلَوْ ترى إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملائكة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } وقوله : { اليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى الله غَيْرَ الحق وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ } هذا القول من تتمة ما تقوله الملائكة لأولئك الظالمين .
أى : تقول لهم أخرجوا أنفسكم ، اليوم تلقون عذاب الذل والهوان لا بظلم من الرحمن ، وإنما بسبب أنكم كنتم فى ديناكم تفترون على الله الكذب ، وبسبب أنكم كنتم معرضين عن آياته ، مستكبرين عنها ولا تتأملون فيها ، ولا تعتبرون بها .
والمراد باليوم مطلق الزمن لا اليوم المتعرف عليه ، وهو إما حين الموت أو ما يشمله وما بعده .
والهون معناه : الهوان والذل ، وفسره صاحب الكشاف ، بالهوان الشديد وقال : " وإضافة العذاب إليه كقولك ، رجل سوء يريد العراقة فى الهوان والتمكن فيه " .
ويختم هذه الجولة المتلاحقة الأشواط بمشهد حي شاخص متحرك مكروب رعيب . . مشهد الظالمين . . [ رأي المشركين ] الذين يفترون على الله الكذب ، أو يدعون أنهم أوحي إليهم ادعاء لا حقيقة له . أو يزعمون أنهم مستطيعون أن يأتوا بمثل هذا القرآن . . مشهد هؤلاء الظالمين - الذين لا يقاس إلى ظلمهم هذا ظلم - وهم في غمرات الموت ، والملائكة باسطو أيديهم إليهم بالعذاب ، ويطلبون أرواحهم . والتأنيب يجبه وجوههم ، وقد تركوا كل شيء وراءهم وضل عنهم شركاؤهم .
( ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا ، أو قال : أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ، ومن قال : سأنزل مثل ما أنزل الله ؟ ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت ، والملائكة باسطو أيديهم : أخرجوا أنفسكم . اليوم تجزون عذاب الهون ، بما كنتم تقولون على الله غير الحق ، وكنتم عن آياته تستكبرون . ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة ، وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء ! لقد تقطع بينكم ، وضل عنكم ما كنتم تزعمون ) . .
وقد ورد عن قتادة وابن عباس - رضي الله عنهم - أن الآية نزلت في مسيلمة الكذاب وسجاح بنت الحارث زوجته والأسود العنسي ؛ وهم الذين تنبأوا في حياة الرسول [ ص ] وادعوا أن الله أوحى إليهم . أما الذين قال سأنزل مثلما أنزل الله - أو قال أوحي إلي كذلك - ففي رواية عن ابن عباس أنه عبدالله بن سعد بن أبي سرح ، وكان أسلم وكتب الوحي لرسول الله [ ص ] وأنه لما نزلت الآية التي في " المؤمنون " : ( ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ) دعاه النبي [ ص ] فأملاها عليه فلما انتهى إلى قوله : ( ثم أنشأناه خلقا آخر ) عجب عبدالله في تفصيل خلق الإنسان فقال : ( تبارك الله أحسن الخالقين ) . فقال : رسول الله [ ص ] : " هكذا أنزلت علي " . . فشك عبدالله حينئذ وقال : لئن كان محمد صادقا لقد أوحى إلي كما أوحى إليه ، ولئن كان كاذبا لقد قلت كما قال ! فارتد عن الإسلام ، ولحق بالمشركين . فذلك قوله : ( ومن قال : سأنزل مثل ما أنزل الله ) [ رواه الكلبي عن ابن عباس ] . .
والمشهد الذي يرسمه السياق في جزاء هؤلاء الظالمين [ أي المشركين ] مشهد مفزع مرعب مكروب مرهوب . الظالمون في غمرات الموت وسكراته - ولفظ غمرات يلقي ظله المكروب - والملائكة يبسطون إليهم أيديهم بالعذاب ، وهم يطلبون أرواحهم للخروج ! وهم يتابعونهم بالتأنيب :
( ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم : أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق ، وكنتم عن آياته تستكبرون . . )
وجزاء الاستكبار العذاب المهين ، وجزاء الكذب على الله هذا التأنيب الفاضح . . وكله مما يضفي على المشهد ظلالا مكروبة ، تأخذ بالخناق من الهول والكآبة والضيق !
هذه الفاظ عامة فكل من واقع شيئاً مما يدخل تحت هذه الألفاظ فهو داخل في الظلم الذي قد عظمه الله تعالى بقوله : { ومن أظلم } أي لا أحد أظلم وقال قتادة وغيره : المراد بهذه الآيات مسيلمة والأسود العنسي ، وذكروا برؤية النبي عليه السلام للسوارين{[5011]} وقال السدي : المراد بها عبد الله بن سعد بن أبي سرح الغامدي وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم الوحي وكان أخا عثمان بن عفان من الرضاعة فلما نزلت { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر }{[5012]} فقال عبد الله بن سعد من تلقاء نفسه { فتبارك الله أحسن الخالقين } [ المؤمنون : 23 ] فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اكتبها فهكذا أنزلت » ، فتوهم عبد الله ولحق بمكة مرتداً وقال أنا أنزل مثل ما أنزل الله ، وروي عنه أيضاً أن النبي عليه السلام ربما أملى عليه «والله غفور رحيم » فبدلها هو «والله سميع عليم » فقال النبي عليه السلام : «ذلك سواء ونحو هذا »{[5013]} ، وقال عكرمة : أولها في مسيلمة والآخر في عبد الله بن سعد بن أبي سرح{[5014]} ، وذكر الزهراوي والمهدوي أن الآية نزلت في النضر بن الحارث لأنه عارض القرآن بقوله والزارعات زرعاً والخابزات خبزاً{[5015]} إلى غير ذلك من السخافات .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : فخصص المتأولون في هذه الآيات ذكر قومٍ قد يمكن أن كانوا أسباب نزولها ثم هي إلى يوم القيامة تتناول من تعرض شيئاً من معانيها كطليحة الأسدي والمختار بن أبي عبيد وسواهما وقرأ الجمهور «سأنزل مثل ما أنزل » بتخفيف وقرأ أبو حيوة «سأنَزّل » بفتح النون وتشديد الزاي .
قوله عز وجل : { ولو ترى إذ الظالمون } الآية ، جواب { لو } محذوف تقديره لرأيت عجباً أو هولاً ونحو هذا ، وحذف هذا الجواب أبلغ من نصه لأن السامع إذا لم ينص له الجواب يترك مع غاية تخيله و { الظالمون } لفظ عام لمن واقع ما تقدم ذكره وغير ذلك من أنواع الظلم الذي هو كفر و «الغمرات » جمع غمرة وهي المصيبة المبهمة المذهلة ، وهي مشبهة بغمرة الماء ، ومنه قول الشاعر [ بشر بن أبي خازم ] : [ الوافر ]
وَلاَ يُنْجِي مِنَ الغَمَرَاتِ إلاّ . . . بَراكاءُ القِتَالِ أوِ الْفرَارُ{[5016]}
{ والملائكة } ملائكة قبض الروح ، و { باسطو أيديهم } كناية عن مدها بالمكروه كما قال تعالى حكاية عن ابني آدم : { لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني }{[5017]} .
وهذا المكروه هو لا محالة أوائل عذاب وأماراته ، قال ابن عباس : يضربون وجوههم وأدبارهم ، وأما البسط لمجرد قبض النفس فإنه يشترك فيه الصالحون والكفرة ، وقيل إن المراد بسط الأيدي في جهنم ، والغمرات كذلك لكنهم لا يقضى عليهم فيموتوا ، وقوله { أخرجوا أنفسكم } حكاية لما تقوله الملائكة ، والتقدير يقولون أخرجوا أنفسكم ، ويحتمل قول الملائكة ذلك أن يريدوا : فأخرجوا أنفسكم من هذه المصائب والمحن وخلصوها إن كان ما زعمتموه حقاً في الدنيا ، وفي ذلك توبيخ وتوقيف على سالف فعلهم القبيح ، قال الحسن : هذا التوبيخ على هذا الوجه هو في جهنم ، ويحتمل أن يكون ذلك على معنى الزجر والإهانة كما يقول الرجل لمن يقهره بنفسه على أمر ما أفعل كذا ، لذلك الأمر الذي هو يتناوله بنفسه منه على جهة الإهانة وإدخال الرعب عليه .
وقوله تعالى : { اليوم تجزون عذاب الهون } الآية ، هذه حكاية عن قول الملائكة للكفرة عند قبض أرواحهم ، و { الهون } الهوان ومنه قول ذي الصبع : [ البسيط ]
إلَيْكَ عني فما أمى براعية . . . تَرْعَى المخَاضَ ولا أغضى على الهُونِ{[5018]}
وقرأ عبد الله بن مسعود وعكرمة «عذاب الهوان » بالألف .
وقوله تعالى { تقولون على الله غير الحق } لفظ جامع لكل نوع من الكفر ولكنه يظهر منه ومن قوله { وكنتم عن آياته تستكبرون } الإنحاء على من قرب ذكره من هؤلاء الذين ادعوا الوحي وأن ينزلوا مثل ما أنزل الله ، فإنها أفعال بين فيها «قول غير الحق على الله » وبين فيها الاستكبار .