التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يَوۡمَ يُكۡشَفُ عَن سَاقٖ وَيُدۡعَوۡنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ فَلَا يَسۡتَطِيعُونَ} (42)

ثم بين - سبحانه - جابنا من أهوال يوم القيامة ، ومن حال الكافرين فيه ، فقال : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السجود فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ .

خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى السجود وَهُمْ سَالِمُونَ } .

والظرف " يوم " يجوز أن يكون متعلقا بقوله - تعالى - قبل ذلك { فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ . . . } ويصح أن يكون متعلقا بمحذوف تقديره ، اذكر ، والمراد باليوم ، يوم القيامة .

والكشف عن الساق معناه التشمير عنها وإظهارها ، وهو مثل لشدة الحال ، وصعوبة الخطب والهول ، وأصله أن الإنسان إذا اشتد خوفه ، أسرع فى المشى ، وشمر عن ثيابه ، فينكشف ساقه .

قال صاحب الكشاف : الكشف عن الساق ، والإبداء عن الخدام - أى : الخلخال الذى تلبسه المرأة فى رجلها - وهو جمع خَدَمة كرقاب جمع رقبة - مثل فى شدة الأمر ، وصعوبة الخطب ، وأصله فى الروع والهزيمة وتشمير المخدرات عن سوقهن فى الهرب ، وإبداء خِدَامهن عند ذلك . .

كما قال الشاعر :

أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها . . . وإن شمرت عن سوقها الحرب شمرا

فمعنى يوم يكشف عن ساق : يوم يشتد الأمر يتفاقم ، ولا كشف ولا ساق ، كما تقول للأقطع الشحيح : يده مغلولة ، ولا يد ثَمَّ ولا غل ، وإنما هو مثل فى البخل . .

فإن قلت : فلم جاءت منكرة فى التمثيل ؟ قلت : للدلالة على أنه أمر مبهم فى الشدة فظيع خارج عن المألوف . .

والمعنى : اذكر لهم - أيها الرسول الكريم - لكى يعتبروا ويتعظوا أهوال يوم القيامة ، يوم يشتد الأمر ، ويعظم الهول .

{ وَيُدْعَوْنَ } هؤلاء الذين فسقوا عن أمر ربهم فى هذا اليوم { إِلَى السجود } لله - تعالى - على سبيل التوبيخ لهم ، لأنهم كانوا ممتنعين عنه فى الدنيا . .

{ فَلاَ يَسْتَطِيعُون } أى : فلا يستطيعون ذلك ، لأنه الله - تعالى - سلب منهم القدرة على السجود له فى هذا اليوم العظيم ، لأنه يوم جزاء وليس يوم تكليف والذين يدعونهم إلى السجود ، هم الملائكة بأمره - تعالى - .

وقوله : { خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ . . . } حال من فاعل { يدعون } وخشوع الأبصار : كناية عن الذلة والخوف الشديد ، ونسب الخشوع إلى الأبصار ، لظهور أثره فيها .

أى : هم يدعون إلى السجود فلا يستطيعون ذلك . لأنه - تعالى - سلب منهم القدرة عليه ، ثم يساقون إلى النار ، حالة كونهم ذليلة أبصارهم ، منخفضة رءوسهم . .

{ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } أى : تغشاهم وتعلوهم ذلة وانكسار . .

{ وَقَدْ كَانُواْ } فى الدنيا { يُدْعَوْنَ إِلَى السجود } لله - تعالى - { وَهُمْ سَالِمُونَ } أى : قادرون على السجود له - تعالى - ، ومتمكنون من ذلك أقوى تمكن . . ، ولكنهم كانوا يعرضون عمن يدعوهم إلى إخلاص العبادة لله - تعالى - ، ويستهزئون به . .

قال الإِمام انب كثير ما ملخصه : قوله : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ . . . } يعنى يوم القيامة وما يكون فيه من الأهوال ، والزلازل ، والبلايا ، والامتحان ، والأمور العظام . .

روى البخارى عن أبى سعيد الخدرى قال : سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول : يكشف ربنا عن ساقه ، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة ، ويبقى من كان يسجد فى الدنيا رياء وسمعة ، فيذهب ليسجد فيعود ظهره ، طبقا واحدا - أى : يصير ظهره كالشئ الصلب فلا يقدر على السجود- .

وعن ابن عباس قال : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ } : وهو يوم كرب وشدة . .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَوۡمَ يُكۡشَفُ عَن سَاقٖ وَيُدۡعَوۡنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ فَلَا يَسۡتَطِيعُونَ} (42)

35

( يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون . خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة . وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون ) . .

فيقفهم وجها لوجه أمام هذا المشهد كأنه حاضر اللحظة ، وكأنه يتحداهم فيه أن يأتوا بشركائهم المزعومين . وهذا اليوم حقيقة حاضرة في علم الله لا تتقيد في علمه بزمن . واستحضارها للمخاطبين على هذا النحو يجعل وقعها عميقا حيا حاضرا في النفوس على طريقة القرآن الكريم .

والكشف عن الساق كناية - في تعبيرات اللغة العربية المأثورة - عن الشدة والكرب . فهو يوم القيامة الذي يشمر فيه عن الساعد ويكشف فيه عن الساق ، ويشتد الكرب والضيق . . ويدعى هؤلاء المتكبرون إلى السجود فلا يملكون السجود ، إما لأن وقته قد فات ، وإما لأنهم كما وصفهم في موضع آخر يكونون : ( مهطعين مقنعي رؤوسهم )وكأن أجسامهم وأعصابهم مشدودة من الهول على غير إرادة منهم ! وعلى أية حال فهو تعبير يشي بالكرب والعجز والتحدي المخيف . .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَوۡمَ يُكۡشَفُ عَن سَاقٖ وَيُدۡعَوۡنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ فَلَا يَسۡتَطِيعُونَ} (42)

وقوله تعالى : { يوم يكشف عن ساق } ، قال مجاهد : هي أول ساعة من يوم القيامة ، وهي أفظعها ، وتظاهر حديث من النبي صلى الله عليه وسلم : «أنه ينادي مناد يوم القيامة ليتبع كل أحد ما كان يعبد » ، قال : «فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس ، ويتبع من كان يعبد القمر القمر ، وكذلك كل عابد لكل معبود ثم تبقى هذه الأمة وغبرات أهل الكتاب{[11257]} ، معهم منافقوهم وكثير من الكفرة ، فيقال لهم : ما شأنكم لم تقفون ، وقد ذهب الناس فيقولون ننتظر ربنا فيجيئهم الله تعالى في غير الصورة التي عرفوه بها ، فيقول : أنا ربكم ، فيقولون : نعوذ بالله منك ، قال فيقول : أتعرفونه بعلامة ترونها فيقولون : نعم ، فيكشف لهم عن ساق ، فيقولون : نعم أنت ربنا ، ويخرون للسجود فيسجد كل مؤمن وتصير أصلاب المنافقين والكفار كصياصي البقر عظماً واحداً ، فلا يستطيعون سجوداً »{[11258]} .

قال القاضي أبو محمد : هكذا هو الحديث وإن اختلفت منه ألفاظ بزيادة ونقصان ، وعلى كل وجه فما ذكر فيه من كشف الساق وما في الآية من ذلك ، فإنما هو عبارة عن شدة الهول وعظم القدرة التي يرى الله تعالى ذلك اليوم حتى يقع العلم أن تلك القدرة إنما هي لله تعالى وحده ، ومن هذا المعنى قول الشاعر في صفة الحرب [ جد طرفة ] : [ مجزوء الكامل ]

كشفت لهم عن ساقها . . . وبدا عن الشر البراح{[11259]}

ومنه قول الراجز : [ الرجز ]

وشمرت عن ساقها فشدوا . . . {[11260]}

وقول الآخر : [ الرجز ]

في سنة قد كشفت عن ساقها . . . حمراء تبري اللحم عن عراقها{[11261]}

وأصل ذلك أنه من أراد الجد في أمر يحاوله فإنه يكشف عن ساقه تشميراً وجداً ، وقد مدح الشعراء بهذا المعنى فمنه قول دريد : [ الطويل ]

كميش الإزار خارج نصف ساقه . . . صبور على الضراء طلاع أنجدِ{[11262]}

وعلى هذا من إرادة الجد والتشمير في طاعة الله تعالى ، قال صلى الله عليه وسلم : «أزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه »{[11263]} . وقرأ جمهور الناس : «يُكشَف عن ساق » بضم الياء على بناء الفعل للمفعول ، وقرأ ابن مسعود : «يَكشِف » بفتح الياء وكسر الشين على معنى يكشف الله ، وقرأ ابن عباس : «تُكشف » بضم التاء على معنى تكشف القيامة والشدة والحال الحاضرة ، وقرأ ابن عباس أيضاً : «تَكشف » بفتح التاء على أن القيامة هي الكاشفة ، وحكى الأخفش عنه أنه قرأ : «نَكشِف » بالنون مفتوحة وكسر الشين ، ورويت عن ابن مسعود . وقوله تعالى : { ويدعون } ظاهره أن ثم دعاء إلى السجود ، وهذا يرده ما قد تقرر في الشرع من أن الآخرة ليست بدار عمل وأنها لا تكليف فيها ، فإذا كان هذا فإنما الداعي ما يرونه من سجود المؤمنين فيريدون هم أن يسجدوا عند ذلك فلا يستطيعونه . وقد ذهب بعض العلماء إلى أنهم يدعون إلى السجود على جهة التوبيخ ، وخرج بعض الناس من قوله : { فلا يستطيعون } أنهم كانوا يستطيعونه قبل ذلك ، وذلك غير لازم . وعقيدة الأشعري : أن الاستطاعة إنما تكون مع التلبس بالفعل لما قبله ، وهذا القدر كاف من هذه المسألة هاهنا .


[11257]:غبر كل شيء: بقيته وآخره، والجمع غبرات.
[11258]:أخرجه البخاري في التوحيد، وفي تفسير سورة ن، ومسلم في الإيمان، وأبو داود في الرقاق، وابن جرير في تفسيره، وأحمد في مسنده (3/17)، وزاد السيوطي في "الدر المنثور" نسبته إلى ابن المنذر وابن مردويه، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، وهو حديث طويل ذكره المؤلف مختصرا- والصياصي: جمع صيصة وهي قرن البقر ونحوه.
[11259]:البيت لجد طرفة، وهو في اللسان، ومعاني القرآن، والقرطبي، والبحر المحيط، وديوان الحماسة، والخصائص، والمحتسب، وجد طرفة هذا اسمه سعد بن مالك، ورواية الفراء في معاني القرآن كما هنا: (البراح)، ولكن في اللسان والقرطبي: (وبدا من الشر الصراح). قال في اللسان: "الساق في اللغة: الأمر الشديد، وكشفه مثل في شدة الأمر، كما يقال للشحيح: "يده مغلولة"، ولا يد ثم ولا غل، وإنما هو مثل في شدة البخل، وكذلك هذا، لا ساق هنا ولا كشف، وأصله أن الإنسان إذا وقع في أمر شديد يقال: شمر عن ساعده وكشف عن ساقه، للاهتمام بذلك الأمر العظيم" ، ثم نقل عن ابن سيدة أن هذا لا يدفع أن الساق إذا أريدت بها الشدة فإنما هي مشبهة بالساق هذه التي تعلو القدم، وأنه إنما قيل ذلك لأن الساق هي الحاملة للجملة، المنهضة لها، فذكرت هنا تشبيها وتشنيعا. هذا والبراح: البين الواضح، والصراح: الخالص الواضح.
[11260]:هذا بيت من الرجز وبعده يقول الراجز: ....................... وجدت الحرب بكم فجدوا وتشمير الإزار والثوب: رفعه، وشمر عن ساقه: خف وجد في الأمر أو أراده وتهيأ له، والشدة: الصلابة، وهي ضد اللين، والمراد هنا: كونوا أقوياء، ومن ذلك قوله تعالى: (اشدد به أزري)، وقوله: (فشدوا الوثاق) والجد: الاجتهاد، وجد به الأمر: اشتد ، فالمعنى: اشتدت الحرب فاجتهدوا فيها.
[11261]:هذا الرجز في اللسان، وأساس البلاغة، والقرطبي، والبحر المحيط، ولم ينسبه أحد منهم، وقبله يقول الشاعر: عجبت من نفسي ومن إشفاقها ومن طرادي الطير عن أرزاقها والشاهد في قوله: "قد كشفت عن ساقها"، والعراق- بضم العين- : العظم بغير لحم، فإن كان عليه لحم فهو عرق بالفتح، فالمعنى: تبري اللحم عن العظم.
[11262]:هذا البيت لدريد بن الصمة، وهو في اللسان/ والشعر والشعراء، والكامل ، والأصمعيات (الأصمعية 28)، وقد قال دريد هذه القصيدة في رثاء أخيه عبد الله، والخبر في العقد الفريد، وفي ديوان المعاني، وكميش الإزار: فعيل بمعنى مفعول، وهو من قولهم: كمش ذيله بمعنى : قلصه، وفي اللسان: "رجل كميش الإزار: مشمره"، ويؤيد هذا المعنى وصفه بعد ذلك بخروج نصف ساقه من الثياب، و "صبور على الأعداء" معناها أنه صبور في الحرب لا يسلم بسهولة ولا يفر، بل يبقى في المعركة مهما طال وقتها حتى ينتصر، ويروى بدلا من "الأعداء": "العزاء" وهي الشدة و "طلاع أنجد": ركاب لصعاب الأمور، أو المتطلع للأمور السامية، والأنجد: جمع نجد، وهو ما ارتفع وغلظ من الأرض، أو هو الطريق في الجبل.
[11263]:أخرجه أبو داود، ومالك في "اللباس" وأحمد في مسنده (3/5، 6/31) ولفظه كما في مسند أحمد: عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، أنه سمع أبا سعيد سئل عن الإزار فقال: على الخبير سقطت، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إزرة المؤمن إلى أنصاف الساقين ، لا جناح أو لا حرج عليه فيما بينه وبين الكعبين، ما كان أسفل من ذلك فهو في النار، لا ينظر الله إلى من جر إزاره بطرا). والإزرة بالكسر: الحالة وهيئة الائتزار، وهذا مثل الركبة والجلسة.