التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{قُلۡ بِفَضۡلِ ٱللَّهِ وَبِرَحۡمَتِهِۦ فَبِذَٰلِكَ فَلۡيَفۡرَحُواْ هُوَ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ} (58)

وقوله : { قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } حض للناس على اغتنام ما في تعاليم الإِسلام من خيرات ، وإيثارها على ما في الدنيا من شهوات .

أى : قل يا محمد لمن يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة : اجعلوا فرحكم الأكبر ، وسروركم الأعظم ، بفضل الله الذي شرع لكم هذا الدين على لسان رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وبرحمته التي وسعت كل شيء وهي بالمؤمنين أوسع ، لا بما تجمعون في هذه الدنيا من أموال زائلة ومتع فانية .

وقد فسر بعضهم فضل الله ورحمته بالقرآن ، ومنهم من فسر فضل الله بالقرآن ، ورحمته بالإِسلام . ومنهم من فسرهما بالجنة والنجاة من النار .

ولعل تفسير هما بما يشمل كل ذلك أولى : لأنه لم يرد نص صحيح عن الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - يحدد المراد منهما ، وما دام الأمر كذلك فحملهما على ما يشمل الإِسلام والقرآن والجنة أولى .

قال ابن كثير : قوله - تعالى - { قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ } أى : بهذا الذي جاءهم من الله من الهدى ودين الحق فليفرحوا فإنه أولى مما يفرحون به من حطام الدنيا وما فيها من الزهرة الفانية والذاهبة لا محالة .

فعن أيفع بن عبد الكلاعي قال : لما قدم خراج العراق إلى عمر - رضي الله عنه - خرج عمر ومولى له ، فجعل يعد الإِبل ، فإذا هي أكثر من ذلك ، فجعل عمر يقول : الحمد لله - تعالى - ويقول مولاه : هذا والله من فضل الله ورحمته . فقال عمر : كذبت ليس هذا هو الذي يقول الله - تعالى - { قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } .

أى : ليس هذا المال هو المعنى بهذه الآية ، وإنما فضل الله ورحمته يتمثل فيما جاءهم من الله - تعالى - من دين قويم ، ورسول كريم ، وقرآن مبين .

ودخلت الباء على كل من الفضل والرحمة ، للإِشعار باستقلال كل منهما بالفرح به .

والجار والمجرور في كل منهما متعلق بمحذوف ، وأصل الكلام : قل لهم يا محمد ليفرحوا بفضل الله وبرحمته ، ثم قدم الجار والمجرور على الفعل لإِفادة الاختصاص ، وأدخلت الفاء لإِفادة السببية ، فكأنه قيل : إن فرحوا بشيء فليكن بسبب ما أعطاهم الله - تعالى - من فضل ورحمته ، لا بسبب ما يجمعون من زينة الحياة الدنيا .

قال القرطبى : " والفرح لذة في القلب بإدراك المحبوب . وقد ذم الله الفرح في مواضع ، كقوله - سبحانه - { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الفرحين } وكقوله { إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ } ولكنه مطلق . فإذا قيد الفرح لم يكن ذما ، لقوله - تعالى { فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ } وكقوله - سبحانه - هنا { فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ } أى بالقرآن والإِسلام فليفرحوا . . . " .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{قُلۡ بِفَضۡلِ ٱللَّهِ وَبِرَحۡمَتِهِۦ فَبِذَٰلِكَ فَلۡيَفۡرَحُواْ هُوَ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ} (58)

26

( قل بفضل اللّه وبرحمته فبذلك فليفرحوا ، هو خير مما يجمعون ) . . .

فبهذا الفضل الذي آتاه اللّه عباده ، وبهذه الرحمة التي أفاضها عليهم من الإيمان . . فبذلك وحده فليفرحوا . فهذا هو الذي يستحق الفرح . لا المال ولا أعراض هذه الحياة . إن ذلك هو الفرح العلوي الذي يطلق النفس من عقال المطامع الأرضية والأعراض الزائلة ، فيجعل هذه الأعراض خادمة للحياة لا مخدومة ؛ ويجعل الإنسان فوقها وهو يستمتع بها لا عبداً خاضعاً لها . والإسلام لا يحقر أعراض الحياة الدنيا ليهجرها الناس ويزهدوا فيها . إنما هو يزنها بوزنها ليستمتع بها الناس وهم أحرار الإرادة طلقاء اليد ، مطمحهم أعلى من هذه الأعراض ، وآفاقهم أسمى من دنيا الأرض . الإيمان عندهم هو النعمة ، وتأدية مقتضيات الإيمان هي الهدف . والدنيا بعد ذلك مملوكة لهم لا سلطان لها عليهم .

عن عقبة بن الوليد عن صفوان بن عمرو : سمعت أيفع بن عبد اللّه الكلاعي يقول : لما قدم خراج العراق إلى عمر - رضي اللّه عنه - خرج عمر ومولى له ، فجعل عمر يعد الإبل فإذا هي أكثر من ذلك ، فجعل يقول : الحمد للّه تعالى . ويقول مولاه : هذا واللّه من فضل اللّه ورحمته ، فقال عمر : كذبت ليس هذا هو الذي يقول اللّه تعالى : ( قل : بفضل اللّه وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ) .

هكذا كان الرعيل الأولون ينظرون إلى قيم الحياة . كانوا يعدون الفضل الأول والرحمة الأولى هي ما جاءهم من اللّه من موعظة وهدى . فأما المال ، وأما الثراء ، وأما النصر ذاته فهو تابع . لذلك كان النصر يأتيهم ، وكان المال ينثال عليهم ، وكان الثراء يطلبهم . . إن طريق هذه الأمة واضح . إنه في هذا الذي يسنه لها قرآنها ، وفي سيرة الصدر الأول الذين فهموه من رجالها . . هذا هو الطريق .

إن الأرزاق المادية ، والقيم المادية ، ليست هي التي تحدد مكان الناس في هذه الأرض . . في الحياة الدنيا فضلاً عن مكانهم في الحياة الأخرى . . إن الأرزاق المادية ، والتيسيرات المادية ، والقيم المادية ، يمكن أن تصبح من أسباب شقوة البشرية - لا في الآخرة المؤجلة ولكن في هذه الحياة الواقعة - كما نشهد اليوم في حضارة المادة الكالحة !

إنه لا بد من قيم أخرى تحكم الحياة الإنسانية ؛ وهذه القيم الأخرى هي التي يمكن أن تعطي للأرزاق المادية والتيسيرات المادية قيمتها في حياة الناس ؛ وهي التي يمكن أن تجعل منها مادة سعادة وراحة لبني الإنسان .

إن المنهج الذي يحكم حياة مجموعة من البشر هو الذي يحدد قيمة الأرزاق المادية في حياتهم . هو الذي يجعلها عنصر سعادة أو عنصر شقاء . كما يجعلها سبباً للرقي الإنساني أو مزلقاً للارتكاس !

ومن هنا كان التركيز على قيمة هذا الدين في حياة أهله :

( يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم ، وشفاء لما في الصدور ، وهدى ورحمة للمؤمنين . قل : بفضل اللّه وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ) . .

ومن هنا كان الذين تلقوا هذا القرآن أول مرة يدركون هذه القيمة العليا ، فيقول عمر - رضي اللّه عنه - عن المال والأنعام : " ليس هذا هو الذي يقول اللّه تعالى : ( قل : بفضل اللّه وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون )

لقد كان عمر - رضي اللّه عنه - يفقه دينه . كان يعرف أن فضل اللّه ورحمته يتمثلان بالدرجة الأولى في هذا الذي أنزله اللّه لهم : موعظة من ربهم ، وشفاء لما في الصدور ، وهدى ورحمة للمؤمنين . لا فيما يجمعون من المال والإبل والأرزاق !

لقد كانوا يدركون قيمة النقلة البعيدة التي نقلها لهم هذا الدين ، من وهدة الجاهلية التي كانوا فيها وإنها لنقلة بعيدة بالقياس إلى الجاهلية في كل زمان ومكان . . بما فيها جاهلية القرن العشرين .

إن النقلة الأساسية التي تتمثل في هذا الدين هي إعتاق رقاب العباد من العبودية للعباد ؛ وتحريرهم من هذه العبودية ، وتعبيدهم للّه وحده ، وإقامة حياتهم كلها على أساس هذا الانطلاق الذي يرفع تصوراتهم ، ويرفع قيمهم ، ويرفع أخلاقهم . ويرفع حياتهم كلها من العبودية إلى الحرية . .

ثم تجيء الأرزاق المادية والتيسيرات المادية ، والتمكين المادي ، تبعاً لهذا التحرر وهذا الانطلاق . كما حدث في تاريخ العصبة المسلمة ، وهي تكتسح الجاهليات حولها ، وتهيمن على مقاليد السلطان في الأرض ، وتقود البشرية إلى اللّه ، لتستمتع معها بفضل اللّه . .

والذين يركزون على القيم المادية ، وعلى الإنتاج المادي ، ويغفلون تلك القيمة الكبرى الأساسية ، هم أعداء البشرية الذين لا يريدون لها أن ترتفع على مستوى الحيوان وعلى مطالب الحيوان .

وهم لا يطلقونها دعوة بريئة ؛ ولكنهم يهدفون من ورائها إلى القضاء على القيم الإيمانية ، وعلى العقيدة التي تعلق قلوب الناس بما هو أرفع من مطالب الحيوان - دون أن تغفل ضروراتهم الأساسية - وتجعل لهم مطالبأساسية أخرى إلى جوار الطعام والمسكن والجنس التي يعيش في حدودها الحيوان !

وهذا الصياح المستمر بتضخيم القيم المادية ، والإنتاج المادي ، بحيث يطغى الانشغال به على حياة الناس وتفكيرهم وتصوراتهم كلها . . وبحيث يتحول الناس إلى آلات تلهث وراء هذه القيمة ، وتعدها قيمة الحياة الكبرى ؛ وتنسى في عاصفة الصياح المستمر . . الإنتاج . . الإنتاج . . كل القيم الروحية والأخلاقية ؛ وتدوس هذه القيم كلها في سبيل الإنتاج المادي . . هذا الصياح ليس بريئاً ؛ إنما هو خطة مدبرة لإقامة أصنام تعبد بدل أصنام الجاهلية الأولى ؛ وتكون لها السيادة العليا على القيم جميعاً !

وعندما يصبح الإنتاج المادي صنماً يكدح الناس حوله ويطوفون به في قداسة الأصنام ؛ فإن كل القيم والاعتبارات الأخرى تداس في سبيله وتنتهك . . الأخلاق . الأسرة . الأعراض . الحريات . الضمانات . . . كلها . . كلها إذا تعارضت مع توفير الإنتاج يجب أن تداس ! فماذا تكون الأرباب والأصنام إن لم تكن هي هذه ? إنه ليس من الحتم أن يكون الصنم حجراً أو خشباً . فقد يكون قيمة واعتباراً ولافتة ولقباً !

إن القيمة العليا يجب أن تبقى لفضل اللّه ورحمته المتمثلين في هداه الذي يشفي الصدور ، ويحرر الرقاب ، ويعلي من القيم الإنسانية في الإنسان . وفي ظل هذه القيمة العليا يمكن الانتفاع برزق اللّه الذي أعطاه للناس في الأرض ؛ وبالتصنيع الذي يوفر الإنتاج المادي ؛ وبالتيسيرات المادية التي تقلل من شدة الكدح ؛ وبسائر هذه القيم التي تدق الجاهلية حولها الطبول في الأرض

وبدون وجود تلك القيمة العليا وسيادتها تصبح الأرزاق والتيسيرات والإنتاج لعنة يشقى بها الناس ؛ لأنها يومئذ تستخدم في إعلاء القيم الحيوانية والآلية ، على حساب القيم الإنسانية العلوية

وصدق اللّه العظيم :

( يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم ، وشفاء لما في الصدور ، وهدى ورحمة للمؤمنين . قل : بفضل اللّه وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ) . .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{قُلۡ بِفَضۡلِ ٱللَّهِ وَبِرَحۡمَتِهِۦ فَبِذَٰلِكَ فَلۡيَفۡرَحُواْ هُوَ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ} (58)

{ قل بفضل الله وبرحمته } بإنزال القرآن ، والباء متعلقة بفعل يفسره قوله : { فبذلك فليفرحوا } فإن اسم الإشارة بمنزلة الضمير تقديره بفضل الله وبرحمته فليعتنوا أو فليفرحوا فبذلك فليفرحوا ، وفائدة ذلك التكرير التأكيد والبيان بعد الإجمال وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح أو بفعل دل عليه { قد جاءتكم } ، وذلك إشارة إلى مصدره أي فبمجيئها فليفرحوا والفاء بمعنى الشرط كأنه قيل : إن فرحوا بشيء فيهما فليفرحوا أو للربط بما قبلها ، والدلالة على أن مجيء الكتاب الجامع بين هذه الصفات موجب للفرح وتكريرها للتأكيد كقوله :

وإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي *** . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وعن يعقوب " فلتفرحوا " بالتاء على الأصل المرفوض ، وقد روي مرفوعا ويؤيده أنه قرئ " فافرحوا " . { هو خير مما يجمعون } من حطام الدنيا فإنها إلى الزوال قريب وهو ضمير ذلك . وقرأ ابن عامر تجمعون بالتاء على معنى فبذلك فليفرح المؤمنون فهو خير مما تجمعونه أيها المخاطبون .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{قُلۡ بِفَضۡلِ ٱللَّهِ وَبِرَحۡمَتِهِۦ فَبِذَٰلِكَ فَلۡيَفۡرَحُواْ هُوَ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ} (58)

وقوله سبحانه { قل بفضل الله وبرحمته } ، الباء متعلقة بمحذوف استغني عن ذكره يدل عليه قوله : { وهدى ورحمة } قال بعض المتأولين وهو هلال بن يساف{[6139]} وقتادة والحسن وابن عباس «الفضل » : الإسلام ، و «الرحمة » : القرآن ، وقال أبو سعيد الخدري : «الفضل » : القرآن ، و «الرحمة » أن جعلهم من أهله ، وقال زيد بن أسلم والضحاك «الفضل » : القرآن ، و «الرحمة » : الإسلام ، وقالت فرقة : «الفضل » : محمد صلى الله عليه وسلم ، و «الرحمة » : القرآن .

قال القاضي أبو محمد : ولا وجه عندي لشيء من هذا التخصيص إلا أن يستند منه شيء إلى النبي صلى الله عليه سلم ، وإنما الذي يقتضيه اللفظ ويلزم منه ، أن «الفضل » هو هداية الله تعالى إلى دينه والتوفيق إلى إتباع الشرع ، و «الرحمة » : هي عفوه وسكنى جنته التي جعلها جزاء على التشرع بالإسلام والإيمان به ، ومعنى الآية : قل يا محمد لجميع الناس : { بفضل الله وبرحمته } فليقع الفرح منكم ، لا بأمور الدنيا وما جمع من حطامها ، فالمؤمنون يقال لهم فلتفرحوا ، وهم متلبسون بعلة الفرح وسببه ، ومحصلون لفضل الله منتظرون الرحمة ، والكافرون يقال لهم : { بفضل الله وبرحمته } فلتفرحوا ، على معنى أن لو اتفق لكم أو لو سعدتم بالهداية إلى تحصيل ذلك ، وقرأ أبي بن كعب وابن القعقاع وابن عامر والحسن على ما زعم هارون ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم «فلتفرحوا » ، و «تجمعون » بالتاء فيهما على المخاطبة ، وهي قراءة جماعة من السلف كبيرة ، وعن أكثرهم خلاف ، وقرأ السبعة سوى ابن عامر{[6140]} وأهل المدينة والأعرج ومجاهد وابن أبي إسحاق وقتادة وطلحة والأعمش : بالياء فيهما على ذكر الغائب ، ورويت عن الحسن بالتاء من فوق فيهما ، وقرأ أبو التياح وأبو جعفر وقتادة : بخلاف عنهم وابن عامر بالياء في الأولى وبالتاء في الآخرة ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وجماعة من السلف ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم بالياء في الأولى وفي الآخرة ، ورويت عن أبي التياح ، وإذا تأملت وجوه ذلك بانت على مهيع الفصيح من كلام العرب ولذلك كثر الخلاف من كل قارىء ، وفي مصحف أبي بن كعب ، «فبذلك فافرحوا » وأما من قرأ «فلتفرحوا » فأدخل اللام في أمر المخاطب فذلك على لغة قليلة ، حكى ذلك أبو علي في الحجة ، وقال أبو حاتم وغيره : الأصل في كل أمر إدخال اللام إذا كان النهي بحرف فكذلك الأمر ، وإذا كان أمراً لغائب بلام{[6141]} ، قال أبو الفتح : إلا أن العرب رفضت إدخال اللام في أمر المخاطب لكثرة ترداده{[6142]} ، وقرأ أبو الفتوح والحسن : بكسر اللام من «فلِتفرحوا » ، فإن قيل : كيف أمر الله بالفرح في هذه الآية ؟ وقد ورد ذمه في قوله { لفرح فخور }{[6143]} ، وفي قوله { لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين }{[6144]} قيل إن الفرح إذا ورد مقيداً في خير فليس بمذموم وكذلك هو في هذه الآية ، وإذا ورد مقيداً في شر أو مطلقاً لحقه ذم إذ ليس من أفعال الآخرة بل ينبغي أن يغلب على الإنسان حزنه على ذنبه وخوفه لربه ، وقوله : { مما يجمعون } يريد من مال الدنيا وحطامها الفاني المؤذي في الآخرة .


[6139]:- ضبطه محقق "المحتسب" لابن جني بالفتح، وذكر في الهامش نقلا عن القاموس أنه بالكسر وقد يفتح.
[6140]:- ذكر ابن عطية أن ابن عامر في الجماعة الأولى التي قرأت بالتاء، وأكّد ذلك بقوله: "وقرأ السبعة سوى ابن عامر بالياء"، ثم عاد فنقل أن ابن عامر قرأ في الأولى وهي [فلتفرحوا] بالياء، وفي الثانية وهي [تجمعون] بالتاء، ولو تأملت الأسماء في كل جماعة لوجدت تكرارا أو ما يشبه التناقض، لكن يتضح لك الموقف حين تقرأ قوله: "وإذا تأملت وجوه ذلك بانت- أي ظهرت كلها- على مهيع الفصيح من كلام العرب، ولذلك كثر الخلاف من كل قارئ". ولهذا فلا داعي لتعليق أبي حيان على ما نسبه ابن عطية لابن عامر من القراءة بالتاء وتأكيده أنه قرأ الياء، فقد عاد ابن عطية وذكر ذلك.
[6141]:- معنى هذا أن أصل الأمر أن يكون بحرف الأمر وهو اللام، فأصل اضرب: لتضرب، وأصل قم: لتقم، ولكن لما كثر أمر الحاضر حذفوا حرف المضارعة تخفيفا ودل المقام عليه، فلما حذف حرف المضارعة بقي ما بعده في الأغلب ساكنا فاحتيج إلى همزة الوصل ليقع الابتداء به فقيل: اضرب، اكتب، اذهب...الخ. ذكر ذلك أبو الفتح في المحتسب (2/313).
[6142]:- كان أمر الحاضر أكثر لأن الغائب بعيد عنك، فإذا أردت أن تأمره احتجت إلى أن تأمر المخاطب ليؤدي كلامك إلى الغائب، فتقول: يا محمد قل لعلي اقرأ، أما الحاضر فلا يحتاج إلى ذلك لأن خطابك إياه مباشرة أغنى عن تكليف غيره أن يحمل إليه كلامك. (عن أبي الفتح في المحتسب، (2/313)
[6143]:- من الآية (10) من سورة (هود).
[6144]:- من الآية (76) من سورة (القصص).