ثم انتقلت السورة الكريمة بعد ذلك ، لتقص علينا مرحلة أخرى من مراحل حياة يوسف - عليه السلام - حيث حدثتنا عن انتشاله من الجب ، وعن بيعه بثمن بخس وعن وصية الذي اشتراه لامرأته ، وعن مظاهر رعاية الله - تعالى - له فقال - سبحانه -
{ وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فأدلى دَلْوَهُ . . . }
قوله - سبحانه - : { وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فأدلى دَلْوَهُ . . . } شروع في الحديث عما جرى ليوسف من أحداث بعد أن ألقى به إخوته في الجب .
والسيارة : جماعة المسافرين ، وكانوا - كما قيل - متجهين من بلاد الشام إلى مصر .
والوارد : هو الذي يرد الماء ليستقى للناس الذين معه . ويقع هذا اللفظ على الفرد والجماعة ، فيقال لكل من يرد الماء وارد ، كما يقال للماء مورود .
وقوله { فأدلى } من الإِدلاء بمعنى إرسال الدول في البئر لأخذ الماء .
والدلو : إناء معروف يوضع فيه الماء .
وفى الآية الكريمة كلام محذوف دل عليه المقام ، والتقدير :
وبعد أن ألقى إخوة يوسف به في الجب وتركوه وانصرفوا لشأنهم ، جاءت إلى ذلك المكان قافلة من المسافرين ، فأرسلوا واردهم ليبحث لهم عن ماء ليستقوا ، فوجد جبا ، فأدلى دلوه فيه ، فتعلق به يوسف ، فلما خرج ورآه فرح به وقال : يا بشرى هذا غلام .
وأوقع النداء على البشرى ، للتعبير عن انتهاجه وسروره ، حتى لكأنها شخص عاقل يستحق النداء ، أى : يا بشارتى أقبلى فهذا أوان إقبالك .
وقيل المنادى محذوف والتقدير : يا رفاقى في السفر أبشروا فهذا غلام ، وقد خرج من الجب .
وقرأ أهل المدينة ومكة : يا بشراى هذا غلام . بإضافة البشرى إلى ياء المتكلم . والضمير المنصوب وهو الهاء في قوله : { وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً } يعود إلى يوسف .
أما الضمير المرفوع فيعود إلى السيارة ، وأسر من الإِسرار الذي هو ضد الإِعلان .
والبضاعة : عرضو التجاة ومتاعها . وهذا اللفظ مأخذو من البضع بمعنى القطع ، وأصله جملة من اللحم تبضع أى : تقطع . وهو حال من الضمير المنصوب في { وأسروه } .
والمعنى : وأخفى جماعة المسافرين خبر التقاط يوسف من الجب مخافة أن يطلبه أحد من السكان المجاورين للجب ، واعتبره بضاعة سرية لهم ، وعزموا على بيعه على أنه من العبيد الأرقاء .
ولعل يوسف - عليه السلام - قد أخبرهم بقصته بعد إخراجه من الجب .
ولكنهم لم يلتفتوا إلى ما أخبرهم به طمعا في بيعه والانتفاع بثمنه .
ومن المفسرين من يرى أن الضمير المرفوع في قوله { وأسروه } يعود على الوارد ورفاقه ، فيكون المعنى :
وأسر الوارد ومن معه أمر يوسف عن بقية أفراد القافلة ، مخافة أن يشاركهوهم في ثمنه إذا علموا خبره ، وزعموا أن أهل هذا المكان الذي به الجب دفعوه إليهم ليبيعوه لهم في مصر على أنه بضاعة لهم .
ومنهم من يرى أن الضمير السابق يعود إلى إخوة يوسف .
قال الشوكانى ما ملخصه : وذلك أن يهوذا كان يأتى إلى يوسف كل يوم بالطعام ، فأتاه يوم خروجه من الجب فلم يجده ، فأخبر إخوته بذلك ، فأتوا إلى السيارة وقالوا لهم : " إن الغلام الذي معكم عبد لنا قد أبق ، فاشتروه منهم بثمن بخس ، وسكت يوسف مخافة أن يأخذه إخوته فيقتلوه " .
وعلى هذا الرأى يكون معنى { وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً } : أخفى إخوة يوسف كونه أخا لهم ، واعتبروه عرضا من عروض التجارة القابلة للبيع والشراء .
ويكون المراد بقوله - تعالى - بعد ذلك { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ } الشراء الحقيقى ، بمعنى أن السيارة اشتروا يوسف من إخوته بثمن بخس .
والحق أن الرأى الأول هو الذي تطمئن إليه النفس ، لأنه هو الظاهر من معنى الآية ، ولأنهبعيد عن التكلف الذي يرى واضحا في القولين الثانى والثالث .
وقوله : { والله عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } أى : لا يخفى عليه شئ من إسرارهم . ومن عملهم السئ في حق يوسف . حيث إنهم استرقوه وباعوه بثمن بخس ، وهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ، كما جاء في الحديث الشريف .
ثم لنعد سريعا إلى يوسف في الجب ، لنرى المشهد الأخير في هذه الحلقة الأولى من حلقات القصة :
( وجاءت سيارة ، فأرسلوا واردهم ، فأدلى دلوه قال : يا بشرى . هذا غلام . وأسروه بضاعة ، والله عليم بما يعملون . وشروه بثمن بخس دراهم معدودة ، وكانوا فيه من الزاهدين )
لقد كان الجب على طريق القوافل ، التي تبحث عن الماء في مظانه ، في الآبار وفي مثل هذا الجب الذي ينزل فيه ماء المطر ويبقى فترة ، ويكون في بعض الأحيان جافا كذلك :
أي قافلة سميت سيارة من السير الطويل كالكشافة والجوالة والقناصة . . .
أي من يرد لهم الماء ويكون خبيرا بمواقعه . .
لينظر الماء أو ليملأ الدلو - ويحذف السياق حركة يوسف في التعلق بالدلو احتفاظا بالمفاجأة القصصية للقاريء والسامع - :
( قال : يا بشرى ! هذا غلام ! ) . .
ومرة أخرى يحذف السياق كل ما حدث بعد هذا وما قيل ، وحال يوسف ، وكيف ابتهج للنجاة ، ليتحدث عن مصيره مع القافلة :
أي اعتبروه بضاعة سرية وعزموا على بيعه رقيقا . ولما لم يكن رقيقا فقد أسروه ليخفوه عن الأنظار .
{ وجاءت سيّارةٌ رفقة يسيرون من مدين إلى مصر فنزلوا قريبا من الجب وكان ذلك بعد ثلاث من إلقائه فيه . { فأرسلوا واردهم } الذي يرد الماء ويستقي لهم وكان مالك بن ذعر الخزاعي . { فأدلى دلوهُ } فأرسلها في الجب ليملأها فتدلى بها يوسف فلما رآه . { قال يا بشرى هذا غلام } نادى البشرى بشارة لنفسه أو لقومه كأنه قال تعال فهذا أوانك . وقيل هو اسم لصاحب له ناداه ليعينه على إخراجه . وقرأ غير الكوفيين " يا بشراي " بالإضافة ، وأمال فتحة الراء حمزة والكسائي . وقرأ ورش بين اللفظين وقرئ { يا بشرى } بالإدغام وهو لغة و " بشراي " بالسكون على قصد الوقف . { وأسرّوه } أي الوارد وأصحابه من سائر الرفقة . وقيل أخفوا أمره وقالوا لهم دفعه إلينا أهل الماء لنبيعه لهم بمصر . وقيل الضمير لإخوة يوسف وذلك أن يهوذا كان يأتيه كل يوم بالطعام فأتاه يومئذ فلم يجده فيها فأخبر إخوته فأتوا الرفقة وقالوا : هذا غلامنا أبق منا فاشتروه ، فسكت يوسف مخافة أن يقتلوه . { بضاعةً } نصب على الحال أي أخفوه متاعا للتجارة ، واشتقاقه من البضع فإنه ما بضع من المال للتجارة . { والله عليم بما يعملون } لم يخف عليه أسرارهم أو صنيع إخوة يوسف بأبيهم وأخيهم .
قيل إن «السيارة » جاءت في اليوم الثاني من طرحه في الجب ، { سيارة } : جمع سيار ، كما قالوا بغال وبغالة ، وهذا بعكس تمرة وتمر ، و { سيارة } : بناء مبالغة للذين يرددون السير في الطرق . وروي أن هذه «السيارة » كانوا قوماً من أهل مدين ، وقيل : قوم أعراب . و «الوارد » هو الذي يأتي الماء ليسقي منه لجماعة ، ويروى أن مدلي الدلو كان يسمى مالك بن ذعر ، ويروى أن هذا الجب كان بالأردن على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب ، ويقال : «أدلى الدلو » : إذا ألقاه في البئر ليستقي الماء . ودلاه يدلوه : إذا استقاه من البئر . وفي الكلام هنا حذف تقديره : فتعلق يوسف بالحبل فلما بصر به المدلي قال : يا بشرأي ، وروي أن يوسف كان يومئذ ابن سبع سنين ، ويرجح هذا لفظة { غلام } ، فإنه ما بين الحولين إلى البلوغ ، فإن قيلت فيما فوق ذلك فعلى استصحاب حال وتجوز ؛ وقيل : كان ابن سبع عشرة سنة - وهذا بعيد - .
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «يا بشرأيَ » بإضافة البشرى إلى المتكلم وبفتح الياء على ندائها كأنه يقول : احضري ، فهذا وقتك ، وهذا نحو قوله : { يا حسرة على العباد }{[6604]} وروى ورش عن نافع «يا بشرأيْ » بسكون الياء ، قال أبو علي : وفيها جمع بين ساكنين على حد دابة وشابة{[6605]} ، ووجه ذلك أنه يجوز أن تختص بها{[6606]} الألف لزيادة المد الذي فيها على المد الذي في أختيها{[6607]} ، كما اختصت في القوافي بالتأسيس ، واختصت في تخفيف الهمزة نحو هبأة{[6608]} وليس شيء من ذلك في الياء والواو .
وقرأ أبو الطفيل والجحدري وابن أبي إسحاق والحسن «يا بشريَّ » تقلب الألف ياء ثم تدغم في ياء الإضافة ، وهي لغة فاشية ، ومن ذلك قول أبي ذؤيب : [ الكامل ]
سبقوا هويّ وأعنقوا لهواهمُ*** فتخرموا ولكل جنب مصرع{[6609]}
وأنشد أبو الفتح وغيره في ذلك :
يطوّف بيَّ كعب في معد*** ويطعن بالصملة في قفيا
فإن لم تثأروا لي في معد*** فما أرويتما أبداً صديا{[6610]} أراد : هواي ، وقفاي ، وصداي{[6611]} .
وقرأ حمزة والكسائي «يا بشرِي » ويميلان ولا يضيفان . وقرأ عاصم كذلك إلا أنه يفتح الراء ولا يميل ، واختلف في تأويل هذه القراءة فقال السدي : كان في أصحاب هذا «الوارد » رجل اسمه بشرى ، فناداه وأعلمه بالغلام{[6612]} ، وقيل : هو على نداء البشرى - كما قدمنا - والضمير في قوله : { وأسروه } ظاهر الآيات أنه ل «وارد » الماء ، - قاله مجاهد ، وقال : إنهم خشوا من تجار الرفقة إن قالوا : وجدناه أن يشاركوهم في الغلام الموجود .
قال القاضي أبو محمد : هذا إن كانوا فسقة أو يمنعوهم من تملكه إن كانوا خياراً ، فأسروا بينهم أن يقولوا : أبضعه معنا بعض أهل المصر .
و { بضاعة } حال ، و «البضاعة » : القطعة من المال يتجر فيها بغير نصيب من الربح ، مأخوذة من قولهم : بضعت أي قطعت . وقيل : إنهم أسروا في أنفسهم يتخذونه بضاعة لأنفسهم أي متجراً ، ولم يخافوا من أهل الرفقة شيئاً ، ثم يكون الضمير في قوله : { وشروه } لهم أيضاً ، أي باعوه بثمن قليل ، إذ لم يعرفوا حقه ولا قدره ، بل كانوا زاهدين فيه ، وروي - على هذا - أنهم باعوه من تاجر . وقال مجاهد : الضمير في { أسروه } لأصحاب «الدلو » ، وفي { شروه } لإخوة يوسف الأحد عشر ، وقال ابن عباس : بل الضمير في { أسروه } و { شروه } لإخوة يوسف .
قال القاضي أبو محمد : وذلك أنه روي أن إخوته لما رجعوا إلى أبيهم وأعلموه رجع بعضهم إلى الجب ليتحققوا أمر يوسف ، ويقفوا على الحقيقة من فقده فلما علموا أن الوراد قد أخذوه جاؤوهم فقالوا : هذا عبد أبق لأمنا ووهبته لنا ونحن نبيعه منكم ، فقارهم{[6613]} يوسف على هذه المقالة خوفاً منهم ، ولينفذ الله أمره ؛ فحينئذ أسره إخوته إذ جحدوا إخوته فأسروها ، واتخذوه { بضاعة } أي متجراً لهم ومكسباً { وشروه } أيضاً { بثمن بخس } ، أي باعوه .
وقوله { والله عليم بما يعملون } إن كانت الضمائر لإخوة يوسف ففي ذلك توعد ، وإن كانت الضمائر للواردين ففي ذلك تنبيه على إرادة الله تعالى ليوسف ، وسوق الأقدار بناء حاله ، فهو - حينئذ - بمعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : «يدبر ابن آدم والقضاء يضحك » .
وفي الآية - أيضاً - تسلية للنبي عليه السلام عما يجري عليه من جهة قريش ، أي العاقبة التي للمتقين هي المراعاة والمنتظرة .