وبعد أن بين - سبحانه - حقوق الزوجين في حالتي اجتماعهما وافتراقهما ، أردف ذلك ببيان حقوق الأطفال الذين يكونون ثمرة لهذا الزواج . فقال تعالى :
{ والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ . . . }
المراد بالوالدات الأمهات سواء أكن في عصمة أزواجهن أم مطلقات لأن اللفظ عام في الكل ولا يوجد ما يقتضي تخصيصه بنوع من الأمهات . ويرى بعض المفسرين أن المراد بالوالدات هنا خصوص المطلقات لأن سياق الآيات قبل ذلك في أحكام الطلاق ، ولأن المطلقة عرضة لإهمال العناية بالولد وترك إرضاعه .
وحولين أي عامين . وأصل الحول - كما يقول الرغاب - تغير الشيء وانفصاله عن غيره .
والحول : السنة اعتباراً بانقلابها ودروان الشمس في مطالقعها ومغاربها . قال - تعالى - : { والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } ومنه حالت السنة تحول وحالت الدار تغيرت ، وأحال فلان بمكان كذا أي أقام به حولا " .
وعبر عن الأمهات بالوالدات ، للإِشارة إلى أنهن اللائي ولدن أولادهن ، وأنهن الوعاء الذيب خرجوا منه إلى الحياة ، ومنهن يكون الغذاء الطبيعي المناسب لهذا المولود الذي جاء عن طريقهن .
وقوله : { يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ } جملة خبرية اللفظ إنشائية المعنى ، إذ التقدير ليرضعن . أي : عليهن إرضاع أولادهن .
وعبر عن الطلب بصيغة الخبر ، للإِشعار بأن إرضاع الأم لطفلها عمل توجبه الفطرة ، وتنادي به طبيعة الأمومة .
قال الجمل : وهذا الأمر للندب وللوجوب ، فهو يكون للندب عند استجماع شروط ثلاثة ، قدرة الأب على استئجار المرضع ، ووجود من يرضعه غير الأم ، وقبول الولد للبن الغير . ويكون للوجوب عند فقد أحد هذه الشروط .
وليس التحديد بالحولين للوجوب ، لأنه يجوز الفطام قبل ذلك ، بدليل قوله : { لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة } وإنما المقصود بهذا التحديث قطع التنازع بين الزوجين إذا تنازعا في مدة الرضاع ، فإذا اتفق الأب والأم على أن يفطما ولدهما قبل تمام الحولين كان لهما ذلك إذا لم يتضرر الولد بهذا الفطام ، وإن أراد الأب أن يفطمه قبل الحولين ولم ترض الأم أو العكس لم يكن لأحدهما ذلك .
قال القرطبي ما ملخصه : وقد انتزع مالك - رحمه الله - ومن تابه وجماعة من العلماء من هذه الآية أن الرضاعة المحرمة الجارية مجرى النسب إنما هي ما كان في الحولين ، لأنه بانقضاء الحولين تمت الرضاعة ، ولا رضاعة بعد الحولين معتبرة . . لقوله - تعالى - : { والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } فهذا يدل على ألا حكم لما ارتضع المولود بعد الحولين . وروى سفيان عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا رضاع إلا ما كان في الحولين " وهذا الخبر مع الآية ينفى رضاعة الكبير وأنه لا حرمة له . وقد روى عن عائشة القول به ، وروى عن ابن أبي موسى الأشعري أنه كان يرى رضاع كبير . وروى عنه الرجوع عنه . وسيأتي تحقيق هذه المسألة في سورة النساء .
وفي وصف الحولين بكاملين : تأكيد لرفع توهم أن يكون المراد حولا وبعض الثاني ، لأن إطلاق التثنية والجمع في الأزمان والأسنان على بعض المدلول إطلاق شائع عند العرب .
فيقولون : هو ابن سنتين ، ويريدون سنة وبعض الثانية .
وفي هذه الجملة الكريمة { والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } بيان لمظهر من مظاهر رعاية الله - تعالى - للإِنسان منذ ولادته ، بل منذ تكوينه في بطن أمه جنبناً ، فقد أمر لطفلها في هذه الفترة ، وأسلم وسيلة لضمان صحته ونموه ، ولصيانته من الأمراض النفسية والعقلية ، فقد أثبت الأطباء الثقاة أن الطفل كثيراً ما يصاب بأمراض جسمية ونفسية وعقلية نتيجة رضاعته من غير أمه ، كما أثبتوا أن عناية الأم بطفلها في هذه الفترة عن طريق إرضاعه ورعايته ، تؤدي إلى تحسن أحواله . . .
وقوله : { لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة } بيان لمن توجه إليه الحكم . أي هذا الحكم لمن أراد إتمام الرضاع ، فإذا أراد الأبوان أن ينقصا مدة الرضاع عن الحولين كان لهما ذلك . فالجملة الكريمة خبر لمبتدأ محذوف أي هذا الحكم لمن أراد أن يتم مدة الرضاعة .
وقوله : { وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالمعروف } بيان لما يجب على الآباء .
أي : وعلى الآباء أن يقدموا إلى الوالدات ما يلزمهنم من نفقة وكسوة بالمعروف أي بالطريقة التي تعارف عليها العقلاء بدون إسراف أو تقتير .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت لم قيل { المولود لَهُ } دون الوالد ؟ قلت : ليلعم أن الوالدات إنما ولدن لهم ، لأن الأولاد للآباء ، ولذلك ينسبون إليهم لا إلى الأمهات ، كما قال المأمون بن الرشيد :
فإنما أمهات الناس أوعية . . . مستودعات وللآباء أبناء
فكان عليهم أن يرزقوهن ويكسوهن إذا أرضعن ولدهم كالأظار ألا ترى أنه ذكره باسم الوالد حيث لم يكن هذا المعنى وهو قوله - تعالى - : { ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً . . . } وقوله : { لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا } تعليل لإيجاب المؤن بالمعروف . أو تفسير للمعروف ولهذا فصلت هذه الجملة عن سابقتها ، وقوله { وُسْعَهَا } منصوب على أنه مفعول ثان لتكلف ، والاستثناء قبله مفرغ أي أن الولد لا يكلف في الإنفاق عليه وعلى أمه إلا بالقدر الذي تتسع له مقدرته بدون إرهاق أو مشقة .
وتلك هي سنة الإِسلام في جميع تكاليفه ، فالله - تعالى - ما كلف عباده إلا بما يستطيعونه ويطيقونه بدون عسر أو عنت قال - تعالى - : { لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا } وقال - تعالى - : { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } وقوله : { لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ } تعليل للأحكام السابقة الموزعة بين الأب والأم ، والتي أساسها رعاية حق هذا الوليد الذي أتى عن طريقهما .
والمضارة مفاعلة من الضرر ، والمعنى : لا ينبغي أن يقع ضرر على الأم بسبب ولدها ، بأن يستغل الأب حنوها على وليدها فيمنعها شيئاً من نفقتها ، أو يأخذ منها طفلها وهي تريد إرضاعه ، أو يكلفها بما ليس في مقدروها أو ما يخالف وظيفتها ، ولا ينبغي كذلك أن يقع ضرر على الأب بسبب ولده ، بأن تكلفه الأم بما لا تتسع له قدرته مستغلة محبته لولده وعنايته بتنشئته تنشئة حسنة .
قال الجمل : { لاَ } في قوله : { لاَ تُضَآرَّ } يحتمل أن تكون نافية فيكون الفعل مرفوعاً ، ويحتمل أن تكون ناهية فيكون الفعل مجزوماً ، وقد قرئبهما في السبع ، وعلى كل يحتمل أن يكون الفعل مبنياً للفاعل وللمفعول " .
والمعنى على الاحتمالين واحد وهو أنه لا يجوز أن يضر كل واحد منهما صاحبه أو يُضر من صاحبه بسبب حنوه على ولده واهتمامه بشأنه .
وأضاف الولد إلى كل منهما في الموضعين للاستعطاف ، وللتنبيه على أن هذا الولد الذي رزقهما الله إياه جدير بأن يتفقا على رعايته وحمايته من كل ما يؤذيه ، ولا يجوز مطلقاً أن يكون مصدر قلق لأي واحد منهما .
وقدمت الأم في الجملة الكريمة ، لأن الشأن فيها أن يكون حنوها أشد ، وعاطفتها أرق ، ولأن مظنة إنزال العنف والأذى بها أقرب لضفعها عن الأب .
فالجملة الكريمة توجبه سديد ، وإرشاد حكيم ، للآباء والأمهات إلى أن يقوم كل فريق منهم بواجبه نحو صاحبه ونحو الأولاد الذين هم ثمار لهم .
وقوله : { وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك } معطوف على قوله { وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ } الخ .
وما بينهما تعليل أو تفسير معترض .
أي : وعلى وارث الأب أو وارث الصبي - أي من سيرثه بعد موته - عليه مثل ما على الأب من النفقة وترك الإِضرار . فهذه الحملة الكريمة سيقت لبيان من تجب عليه نفقة الصبي إذا فقد أباه ، أو كان أبوه موجوداً ولكنه عاجز عن الإِنفاق عليه .
قال الآلوسي ما ملخصه : والمراد بالوارث وارث الولد فإنه يجب عليه مثل ما وجب على الأب من الرزق والكسوة بالمعروف إن لم يكن للولد مال . وهو التفسير المأثور عن عمر وابن عباس وقتادة . . وخلق كثير . وخص الإِمام أبو حنيفة هذا الوارث بمن كان ذا رحم محرم من الصبي . . . وقال الشافعي وقال الشافعي المراد وارث الأب - يجب عليه عند موت الأب كل ما كان واجباً على الأب - وقيل المراد بالوارث الباقي من الأبوين ، وقد جاء الوارث بمعنى الباقي كما في قوله صلى الله عليه وسلم " اللهم متعني بسمعي وبصري واجعلهما الوارث مني " وعلى أية حال فالجملة الكريمة تغرس معاني الإِخاء والتراحم والتكافل بين أبناء الأسرة الواحدة ، فالقادر ينفق على العاجز ، والغين يمد الفقير بحاجته ، وبذلك تسعد الأسرة ، وتسودها روح المحبة والمودة .
وقوله : { فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } معطوف على قوله { يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } لأنه متفرع عنه .
والضمير في قوله { فَإِنْ أَرَادَا } يعود على الوالدين .
قال القرطبي : والفصال والفصل . الفطام وأصله التفريق ، فهو تفريق بين الصبي والثدي .
ومنه سمي الفصيل - لولد الضأن - لأنه مفصول عن أمه . والتشاور : استخراج الرأي - بما فيه المصلحة - وكذلك المشاورة . من الشور وهو اجتناء العسل . يقال شرت العسل - إذا استخرجته من مواضعه - والشوار : متاع البيت لأنه يظهر للناظر . والشارة هيئة الرجل . والإِشارة : إخراج ما في نفسك وإظهاره .
والمعنى : فإن أراد الأبوان فطاماً لولدهما قبل الحولين ، وكان هذه الإرادة عن تراض منهما وتشاور في شأن الصبي وتفحص لأحواله ، ورأيا أن هذا الفطام قبل بلوغه الحولين لن يضره فلا إثم عليهما في ذلك .
وقال بعضهم : وأيضاً لا إثم عليهما إذا فطماه بعد الحولين متى رأيا المصلحة في ذلك ، وقد قيد - سبحانه - هذا الفطام للصبي بكونه عن تراض من الأبوين وتشاور منهما ، رعاية لمصلحة هذا الصبي ، لأن رضا أحدهما فقد قد يضره ، بأن تمل الأم الإِرضاع أو يبخل الأب بالإِنفاق . ولأن إقدام أحدهما على الفطام بدون التشاور مع صاحبه قد يؤثر في صحة الصبي تأثيرا سيئاً .
لذا أوجب - سبحانه - التراضي والتشاور فيما بينهما من أجل مصلحة صبيهما .
ثم قال - تعالى - : { وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تسترضعوا أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بالمعروف } .
أي : وإن أردتم - أيها الآباء - أن تسترضعوا مراضع لأولادكم ، ورضى الأمهات بذلك ، فلا إثم عليكم فيما تفعلون ما دمتم تقصدون مصلحة أولادكم ، وعليكم أن تسلموا هؤلاء المراضع أجرهن بالطريقة التي يقرها الشرع ، وتستحسنها العقول السليمة ، والأخلاق القويمة .
واسترضع - كما يقول الزمخشري - منقول من أرضع . يقال : أرضعت المرأة الصبي ، واسترضعتها الصبي فهي متعدية إلى معفولين ، والمعنى : أن تسترضعوا المراضع أولادكم . فحذف أحد المفعولين للاستغناء عنه .
وقوله { مَّآ آتَيْتُم } حذف مفعولاه أي آتيتموهن إياه . { بالمعروف } متعلق بسلمتم أي بالقول الجميل ، وبالوجه المتعارف المستحسن شرعاً . ويجوز أن يتعلق بآتيتم . وأن يكون حالا من فاعل سلمتم أو آتيتم والعامل فيه محذوف أي متلبسين بالمعروف .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { واتقوا الله واعلموا أَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } .
أي : اتقوا الله في كل شئونكم والتزموا ما بينه لكم من أحكام ، واعلموا أن الله - تعالى - لا تخفى عليه أعمالكم ، فهو محصيها عليكم ، وسيجزي المحسن إحساناً والمسيء سوءاً .
والحكم التالي يتعلق برضاع الأطفال بعد الطلاق . .
إن دستور الأسرة لا بد أن يتضمن بيانا عن تلك العلاقة التي لا تنفصم بين الزوجين بعد الطلاق . علاقة النسل الذي ساهم كلاهما فيه ، وارتبط كلاهما به ؛ فإذا تعذرت الحياة بين الوالدين فإن الفراخ الزغب لا بد لها من ضمانات دقيقة مفصلة ، تستوفي كل حالة من الحالات :
( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة . وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف . لا تكلف نفس إلا وسعها . لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده . وعلى الوارث مثل ذلك . فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما . وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم - إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف - واتقوا الله ، واعلموا أن الله بما تعملون بصير ) . .
إن على الوالدة المطلقة واجبا تجاه طفلها الرضيع . واجبا يفرضه الله عليها ولا يتركها فيه لفطرتها وعاطفتها التي قد تفسدها الخلافات الزوجية ، فيقع الغرم على هذا الصغير . إذن يكفله الله ويفرض له في عنق أمه . فالله أولى بالناس من أنفسهم ، وأبر منهم وأرحم من والديهم . والله يفرض للمولود على أمه أن ترضعه حولين كاملين ؛ لأنه سبحانه يعلم أن هذه الفترة هي المثلى من جميع الوجوه الصحية والنفسية للطفل . . ( لمن أراد أن يتم الرضاعة ) وتثبت البحوث الصحية والنفسية اليوم أن فترة عامين ضرورية لينمو الطفل نموا سليما من الوجهتين الصحية والنفسية . ولكن نعمة الله على الجماعة المسلمة لم تنتظر بهم حتى يعلموا هذا من تجاربهم . فالرصيد الإنساني من ذخيرة الطفولة لم يكن ليترك يأكله الجهل كل هذا الأمد الطويل ، والله رحيم بعباده . وبخاصة بهؤلاء الصغار الضعاف المحتاجين للعطف والرعاية .
وللوالدة في مقابل ما فرضه الله عليها حق على والد الطفل : أن يرزقها ويكسوها بالمعروف والمحاسنة ؛ فكلاهما شريك في التبعة ؛ وكلاهما مسؤول تجاه هذا الصغير الرضيع ، هي تمده باللبن والحضانة وأبوه يمدها بالغذاء والكساء لترعاه ؛ وكل منهما يؤدي واجبه في حدود طاقته :
ولا ينبغي أن يتخذ أحد الوالدين من الطفل سببا لمضارة الآخرة :
( لا تضار والدة بولدها ، ولا مولود له بولده ) . .
فلا يستغل الأب عواطف الأم وحنانها ولهفتها على طفلها ، ليهددها فيه أو تقبل رضاعة بلا مقابل . ولا تستغل هي عطف الأب على إبنه وحبه له لتثقل كاهله بمطالبها . .
والواجبات الملقاة على الوالد تنتقل في حالة وفاته إلى وارثه الراشد :
فهو المكلف أن يرزق الأم المرضع ويكسوها بالمعروف والحسنى . تحقيقا للتكافل العائلي الذي يتحقق طرفه بالإرث ، ويتحقق طرفه الآخر باحتمال تبعات المورث .
وهكذا لا يضيع الطفل إن مات والده . فحقه مكفول وحق أمه في جميع الحالات .
وعندما يستوفى هذا الاحتياط . . يعود إلى استكمال حالات الرضاعة . .
( فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما ) . .
فإذا شاء الوالد والوالدة ، أو الوالدة والوارث ، أن يفطما الطفل قبل استيفاء العامين ؛ لأنهما يريان مصلحة للطفل في ذلك الفطام ، لسبب صحي أو سواه ، فلا جناح عليهما ، إذا تم هذا بالرضى بينهما ، وبالتشاور في مصلحة الرضيع الموكول اليهما رعايته ، المفروض عليهما حمايته .
كذلك إذا رغب الوالد في أن يحضر لطفله مرضعا مأجورة ، حين تتحقق مصلحة الطفل في هذه الرضاعة ، فله ذلك على شرط أن يوفي المرضع أجرها ، وأن يحسن معاملتها :
( وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف ) . .
فذلك ضمان لأن تكون للطفل ناصحة ، وله راعية وواعية .
وفي النهاية يربط الأمر كله بذلك الرباط الإلهي . . بالتقوى . . بذلك الشعور العميق اللطيف الذي يكل إليه ما لا سبيل لتحقيقه إلا به :
{ والوالدات يرضعن أولادهن } أمر عبر عنه بالخبر للمبالغة ومعناه الندب ، أو الوجوب فيخص بما إذا لم يرتضع الصبي إلا من أمه أو لم يوجد له ظئر ، أو عجز الوالد عن الاستئجار . والوالدات يعم المطلقات وغيرهن . وقيل يختص بهن إذ الكلام فيهن . { حولين كاملين } أكده بصفة الكمال لأنه مما يتسامح فيه . { لمن أراد أن يتم الرضاعة } بيان للمتوجه إليه الحكم أي ذلك لمن أراد إتمام الرضاعة ، أو متعلق بيرضعن فإن الأب يجب عليه الإرضاع كالنفقة ، والأم ترضع له . وهو دليل على أن أقصى مدة الإرضاع حولان ولا عبرة به بعدهما وأنه يجوز أن ينقص عنه . { وعلى المولود له } أي الذي يولد له يعني الوالد ، فإن الولد يولد له وينسب إليه . وتغيير العبارة للإشارة إلى المعنى المقتضى لوجوب الإرضاع ومؤن المرضعة عليه . { رزقهن وكسوتهن } أجرة لهن ، واختلف في استئجار الأم ، فجوزه الشافعي ، ومنعه أبو حنيفة رحمه الله تعالى ما دامت زوجة أو معتدة نكاح . بالمعروف حسب ما يراه الحاكم ويفي به وسعه . { لا تكلف نفس إلا وسعها } تعليل لإيجاب المؤن والتقييد بالمعروف ، ودليل على أنه سبحانه وتعالى لا يكلف العبد بما لا يطيقه وذلك لا يمنع إمكانه . { لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده } تفصيل له وتقرير ، أي لا يكلف كل واحد منهما الآخر ما ليس في وسعه ، ولا يضاره بسبب الولد . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب { لا تضار } بالرفع بدلا من قوله { لا تكلف } ، وأصله على القراءتين تضارر بالكسر على البناء للفاعل أو الفتح على البناء للمفعول ، وعلى الوجه الأول يجوز أن يكون بمعنى تضر والباء من صلته أي لا يضر الوالدان بالولد فيفرط في تعهده ويقصر فيما ينبغي له . وقرئ { لا تضار } بالسكون مع التشديد على نية الوقف وبه مع التخفيف على أنه من ضاره يضيره ، وإضافة الولد إليها تارة وإليه أخرى استعطاف لهما عليه ، وتنبيه على أنه حقيق بأن يتفقا على استصلاحه والإشفاق فلا ينبغي أن يضرا به ، أو أن يتضارا بسببه . { وعلى الوارث مثل ذلك } عطف على قوله وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن ، وما بينهما تعليل معترض . والمراد بالوارث وارث الأب وهو الصبي أي مؤن المرضعة من ماله إذا مات الأب . وقيل الباقي من الأبوين من قوله عليه الصلاة والسلام " واجعله الوارث منا " ، وكلا القولين يوافق مذهب الشافعي رحمه الله تعالى إذ لا نفقة عنده فيما عدا الولادة . وقيل وارث الطفل وإليه ذهب ابن أبي ليلى . وقيل وارثه المحرم منه ، وهو مذهب أبي حنيفة . وقيل عصابته وبه قال أبو زيد وذلك إشارة إلى ما وجب على الأب من الرزق والكسوة . { فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور } أي فصالا صادرا عن التراضي منهما والتشاور بينهما قبل الحولين ، والتشاور والمشاورة والمشورة والمشورة استخراج الرأي ، من شرت العسل إذا استخرجته . { فلا جناح عليهما } في ذلك وإنما اعتبر تراضيهما مراعاة لصلاح الطفل ، وحذرا أن يقدم أحدهما على ما يضر به لغرض أو غيره . { وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم } أي تسترضعوا المراضع لأولادكم ، يقال أرضعت المرأة الطفل واسترضعتها إياه ، كقولك أنجح الله حاجتي واستنجحته إياها ، فحذف المفعول الأول للاستغناء عنه . { فلا جناح عليكم } فيه وإطلاقه يدل على أن للزوج أن يسترضع الولد ويمنع الزوجة من الإرضاع . { إذا سلمتم } إلى المراضع . { ما آتيتم } ما أردتم إيتاءه كقوله تعالى : { إذا قمتم إلى الصلاة } وقراءة ابن كثير { ما آتيتم } ، من أتى إحسانا إذا فعله . وقرئ " أوتيتم " أي ما آتاكم الله وأقدركم عليه من الأجرة . { بالمعروف } صلة سلمتم ، أي بالوجه المتعارف المستحسن شرعا . وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله ، وليس اشتراط التسليم لجواز الاسترضاع بل لسلوك ما هو الأولى والأصلح للطفل . { واتقوا الله } مبالغة في المحافظة على ما شرع في أمر الأطفال والمراضع . { واعلموا أن الله بما تعملون بصير } حث وتهديد .